ثورة المساطر في المغرب: تحليل للهيكلة التشريعية والإدارية الجديدة
مقدمة: نقلة نوعية في الحوكمة المغربية
تشهد المملكة المغربية موجة من الإصلاحات التشريعية والإجرائية العميقة التي لا يمكن اعتبارها مجرد تعديلات متفرقة، بل هي مجهود منسق لإعادة هندسة علاقة الدولة بالمواطن والمستثمر، وتجسيد لرؤية استراتيجية وطنية متكاملة. تستمد هذه الرؤية جذورها من التوجيهات الملكية السامية، لا سيما الدعوات المتكررة إلى تحديث منظومة العدالة وجعلها أكثر نجاعة وقرباً من المتقاضين 1، ومن توصيات النموذج التنموي الجديد الذي أكد على ضرورة تحسين مناخ الأعمال وفعالية الإدارة العمومية 3، وكذلك من المبادئ التي كرسها دستور 2011، مثل الحق في محاكمة عادلة ومبادئ الحكامة الجيدة.2
تتقاطع هذه الإصلاحات حول مجموعة من الأهداف المحورية والمترابطة. يأتي على رأسها هدف النجاعة والسرعة، حيث تسعى القوانين الجديدة إلى تقليص آجال البت في القضايا ومعالجة الملفات الإدارية، وهو هدف صريح في قوانين المسطرة المدنية 1، وتبسيط المساطر الإدارية 9، والصفقات العمومية.10 ويشكل
التحول الرقمي ركيزة أساسية في هذا التوجه، من خلال السعي نحو "محكمة رقمية" 1 وإدارة رقمية متكاملة عبر بوابة "إدارتي" 9، بهدف تعزيز الشفافية وتسهيل الولوج إلى الخدمات. كما أن
تحسين مناخ الاستثمار يمثل دافعاً قوياً وراء العديد من هذه التعديلات، من تبسيط الإجراءات المتعلقة بالمقاولات 5، إلى إرساء إطار قانوني أكثر استقراراً ووضوحاً لتسوية المنازعات التجارية 11، وتحديث منظومة الصفقات العمومية لجعلها أكثر تنافسية وشفافية.3 وأخيراً، هناك سعي معلن لتعزيز
سيادة القانون والحقوق، من خلال تقوية ضمانات الدفاع في المسطرة الجنائية 14 وتكريس الحق في الولوج إلى العدالة.17
إن الفهم العميق لهذه الموجة الإصلاحية يقتضي تجاوز النظرة التجزيئية لكل قانون على حدة، والنظر إليها باعتبارها منظومة متكاملة ومترابطة. فنجاح المحكمة الرقمية التي يتوخاها قانون المسطرة المدنية الجديد 4 يعتمد بشكل مباشر على البنية التحتية الرقمية التي تشرف عليها وزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة.9 وبالمثل، فإن فعالية قانون تبسيط المساطر الإدارية (القانون 55.19) في تشجيع الاستثمار من خلال تحديد أجل 30 يوماً للقرارات المتعلقة به 9، لا تكتسب معناها الحقيقي إلا إذا كان المستثمر يثق في قدرة المحاكم المدنية والتجارية الجديدة على إنفاذ العقود وتسوية المنازعات بكفاءة، وهو ما يهدف إليه قانون المسطرة المدنية الجديد.11 وبالتالي، فإن هذه القوانين ليست جُزراً منعزلة، بل هي أجزاء مترابطة في آلة معقدة لتحديث الدولة. إن أي تعثر في أحد مكونات هذه الآلة، كبطء تنفيذ الأحكام القضائية مثلاً، سيؤدي حتماً إلى شل فعالية المكونات الأخرى، كسرعة الحصول على التراخيص الإدارية. من هذا المنطلق، فإن المقياس الحقيقي لنجاح هذه الثورة الإجرائية لن يكون أداء كل قانون على حدة، بل أداء المنظومة ككل.
القسم الأول: إصلاح العدالة المدنية - تحليل قانون المسطرة المدنية الجديد (القانون رقم 02.23)
أ. من التصور إلى التقنين: مسار تشريعي حافل بالنقاش
انطلق المسار التشريعي لمشروع قانون المسطرة المدنية بمصادقة المجلس الحكومي عليه في 24 غشت 2023.2 بعد ذلك، أُحيل المشروع على مجلس النواب في 9 نونبر 2023 21، حيث خضع لنقاشات مستفيضة داخل لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان.22 كانت مرحلة النقاش في مجلس المستشارين حادة بشكل خاص، حيث قُدم ما مجموعه 549 تعديلاً، تم قبول حوالي 180 منها بعد جلسات ماراثونية.4 وأخيراً، حصل المشروع على المصادقة النهائية من مجلس النواب في قراءة ثانية بتاريخ 22 يوليوز 2025 21، وأُعلن عن اعتماده النهائي من قبل البرلمان بمجلسيه في 8 يوليوز 2025.17 وحتى تاريخه، لم يتم نشر القانون في الجريدة الرسمية، وبالتالي فإن تاريخ دخوله حيز التنفيذ لم يحدد بعد.2
وقد صرحت الحكومة بأن الأهداف المتوخاة من هذا الإصلاح تتمثل في ملاءمة القانون مع مقتضيات دستور 2011، وتنزيل توصيات ميثاق إصلاح منظومة العدالة، وإرساء "محكمة رقمية"، وتبسيط المساطر، ورفع من نجاعة القضاء بهدف تحسين مناخ الاستثمار.1
ب. ركائز القانون الجديد: إعادة هيكلة التقاضي المدني
1. المحكمة الرقمية
تعتبر رقمنة الإجراءات القضائية حجر الزاوية في هذا الإصلاح. يهدف القانون إلى إدماج المساطر الإلكترونية في جميع مراحل التقاضي، بدءاً من رفع الدعاوى، مروراً بتبادل المذكرات، ووصولاً إلى إدارة الملفات وعقد الجلسات عن بعد.4 ينسجم هذا التوجه مع الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي ويهدف إلى الانتقال من نظام قضائي تقليدي إلى منظومة إلكترونية متكاملة.1
2. إعادة تنظيم الاختصاص وتكريس مبدأ وحدة القضاء
يعمل القانون الجديد على تجميع القواعد الإجرائية التي كانت مشتتة في نصوص متفرقة، حيث يدمج في صلب نص واحد مساطر المحاكم الابتدائية، والمحاكم الإدارية، والمحاكم التجارية.11 ويعد هذا التجميع تنزيلاً مباشراً لمبدأ "وحدة القضاء" الذي أرساه قانون التنظيم القضائي رقم 38.15.1 على سبيل المثال، أصبحت المحاكم الابتدائية تختص بالنظر في طيف واسع من القضايا المدنية والاجتماعية والأسرية والإدارية والتجارية، سواء بشكل مباشر أو عبر أقسام متخصصة داخلها.11
3. عقلنة طرق الطعن والآجال
لمواجهة إشكالية بطء العدالة، أدخل القانون تغييرات جوهرية على مساطر الطعن. فقد تم تقييد الحق في الطعن بناءً على القيمة المالية للنزاع، حيث حُددت عتبات مالية لممارسة بعض الطعون، كالطعن بالنقض، بهدف تخفيف العبء على محاكم الدرجة الثانية ومحكمة النقض.18 كما تم فرض آجال إجرائية أكثر صرامة وقصراً، مثل تحديد أجل 3 أيام للطعن بالاستئناف في الأوامر بالأداء، و15 يوماً للطعن بالنقض.11 وتأتي هذه الإجراءات استجابة للدعوة إلى إصدار الأحكام داخل "أجل معقول".1
4. تعزيز التنفيذ من خلال مؤسسة "قاضي التنفيذ"
من أبرز المستجدات التي أتى بها القانون إحداث مؤسسة "قاضي التنفيذ".11 وهي وظيفة قضائية جديدة ومستقلة تُناط بها مهمة الإشراف على إجراءات التنفيذ الجبري للأحكام. وقد فصل القانون في اختصاصات هذه المؤسسة والمساطر المتبعة أمامها، بهدف معالجة إحدى أعمق نقاط الضعف في المنظومة السابقة، والمتمثلة في صعوبة وتعثر تنفيذ المقررات القضائية.25
ج. وجهات نظر نقدية وتحديات التنفيذ
أثار مشروع القانون جدلاً واسعاً في الأوساط القانونية والقضائية. من أبرز نقاط الخلاف دور المحامي في منظومة التقاضي. ففي حين أن بعض المقتضيات تبدو معززة لدوره، كاعتبار مكتبه موطناً مختاراً للتبليغ 12، فإن نصوصاً أخرى توسع من نطاق القضايا التي يمكن للأطراف فيها الترافع بأنفسهم، وهو ما قوبل بانتقادات حادة من هيئات المحامين.12 يرى المنتقدون أن هذا التوجه قد يهمش مهنة المحاماة، والأهم من ذلك، قد يضع المتقاضين غير الملمين بالقانون، خاصة من الفئات الهشة، في وضع غير متكافئ.28
كما أن الولوج إلى العدالة كان محور انتقادات أخرى. فالعتبات المالية الجديدة للطعون، وفرض غرامات مدنية مرتفعة قد تصل إلى 20,000 درهم على المتقاضي "سيئ النية" 11، يُنظر إليها كعوائق محتملة أمام الحق في التقاضي. ورغم أن الهدف المعلن هو ردع الدعاوى الكيدية وتحسين النجاعة، إلا أن هذه الإجراءات قد تمنع المتقاضين، خاصة ذوي الدخل المحدود، من الوصول إلى درجات التقاضي العليا للدفاع عن حقوق مشروعة.18
إضافة إلى ذلك، وجهت انتقادات لوزارة العدل بشأن ما وُصف بـغياب المقاربة التشاركية الحقيقية في إعداد المشروع، حيث شعرت الجمعيات المهنية للقضاة والمحامين بأنها لم تُستشر بشكل كافٍ، وأن الوزارة فضلت التشاور مع المؤسسات الدستورية على حساب الفاعلين الميدانيين.28
يكشف هذا التحليل عن وجود توتر أساسي في صلب قانون المسطرة المدنية الجديد، وهو توتر بين دافعين رئيسيين: النجاعة القضائية من جهة، وحماية الحقوق الإجرائية والولوج إلى العدالة من جهة أخرى. تسعى الحكومة بوضوح إلى بناء نظام قضائي أسرع وأكثر قابلية للتنبؤ به لجذب الاستثمار. ولتحقيق ذلك، اعتمدت آليات مثل الرقمنة، والآجال الصارمة، وتقييد الطعون. لكن هذه الآليات نفسها قد تخلق نظاماً ذا سرعتين: نظام فعال للمتقاضين المتمرسين وذوي الموارد، ونظام أكثر صعوبة وتكلفة للمواطن العادي والفئات الهشة. فـ"الاحتكاك" الإجرائي الذي كان يميز النظام القديم (مثل تعدد سبل الطعن والآجال المرنة) كان يُرى سبباً في البطء، وقد عمل القانون الجديد على إزالته. لكن هذا "الاحتكاك" نفسه كان يمكن تفسيره أيضاً كضمانة إجرائية تتيح وقتاً وفرصاً كافية لدراسة القضايا بعمق. وبالتالي، فإن نجاح القانون سيُقاس بمعيارين مختلفين قد يكونان متعارضين: بالنسبة لمجتمع الأعمال، النجاح هو سرعة الفصل في النزاعات؛ أما بالنسبة للحقوقيين، فالنجاح هو بقاء العدالة في متناول الجميع. وسيكشف التطبيق العملي أيّاً من هاتين الأولويتين ستكون لها الغلبة.
القسم الثاني: إعادة توازن الموازين - قانون المسطرة الجنائية الجديد (القانون رقم 03.23)
أ. المسار التشريعي والأهداف المحورية
بعد أن تضمن أكثر من 420 تعديلاً، تمت المصادقة على مشروع قانون المسطرة الجنائية من قبل الحكومة 14، ثم قُدم إلى لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب.7 وافقت اللجنة على المشروع بعد نقاشات مطولة وتلقي 1,384 تعديلاً مقترحاً.30 وصادق مجلس النواب عليه نهائياً في قراءة ثانية بتاريخ 22 يوليوز 2025 24، وتبعه مجلس المستشارين، مما أدى إلى اعتماده النهائي من قبل البرلمان.32
تتمثل الأهداف المعلنة لهذا الإصلاح في تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة، وتقوية حقوق الدفاع، وتحديث آليات العدالة الجنائية، وتطوير سبل مكافحة الجريمة، وحماية حقوق الضحايا، وعقلنة اللجوء إلى الاعتقال الاحتياطي.14 ويندرج هذا القانون في إطار حزمة إصلاحية أوسع شملت قوانين جديدة للعقوبات البديلة وتدبير المؤسسات السجنية.7
ب. تعزيز قرينة البراءة وضمانات المحاكمة العادلة
1. حق الاستعانة بمحامٍ منذ الساعة الأولى
يمثل هذا التعديل نقلة نوعية في حقوق الدفاع، حيث يمنح القانون الجديد للمشتبه فيه الحق في الاتصال بمحاميه منذ الساعة الأولى لتوقيفه، ودون الحاجة إلى ترخيص مسبق من النيابة العامة.7 يعزز هذا المقتضى بشكل كبير حقوق المتهم في المرحلة الأولية والحاسمة من التحقيق.
2. التسجيل السمعي البصري للاستجوابات
ينص القانون على إلزامية التسجيل السمعي البصري لاستجوابات المشتبه فيهم الموضوعين رهن الحراسة النظرية في الجنايات وبعض الجنح.14 تعد هذه الآلية ضمانة أساسية للحماية من الاعترافات المنتزعة بالإكراه وتكريس الشفافية. ومع ذلك، يُشار إلى أن نطاق تطبيق هذا الإجراء قد تم تقليصه مقارنة بما كان مقترحاً في المسودات الأولية للمشروع.16
3. عقلنة الاعتقال الاحتياطي
يؤطر القانون الجديد الاعتقال الاحتياطي باعتباره تدبيراً استثنائياً لا يُلجأ إليه إلا عند تعذر تطبيق تدبير بديل.16 ويضع معايير محددة وحصرية لتبرير اللجوء إليه، كمنع فرار المتهم، أو الحفاظ على أدلة الإثبات، أو حماية الشهود.16 كما تم تقليص عدد المرات التي يمكن فيها تمديد الاعتقال 16، مع إدخال المراقبة الإلكترونية كأحد التدابير البديلة.16
4. ضمانات إجرائية معززة
يتضمن القانون ضمانات إضافية، منها إلزامية أن يكون قرار تمديد الحراسة النظرية مكتوباً ومعللاً من طرف النيابة العامة.14 كما يلزم ضابط الشرطة القضائية بعرض المحتجز على فحص طبي إذا لاحظ عليه علامات مرض أو إصابة 14، وتلزم النيابة العامة بالأمر بالفحص إذا طلبه المشتبه فيه أو محاميه.16 بالإضافة إلى ذلك، تم توسيع نطاق اللجوء إلى مسطرة الصلح في الجنح لتشمل الجرائم المعاقب عليها بالسجن حتى 5 سنوات، بعدما كان محصوراً في سنتين.14
ج. المقتضيات المثيرة للجدل والنقاش العمومي
كانت كيفية ملاحقة جرائم المال العام هي النقطة الأكثر إثارة للجدل في القانون الجديد. حيث قيدت المقتضيات الجديدة صلاحية النيابة العامة في تحريك الدعوى العمومية في هذه الجرائم، واشترطت أن يتم ذلك بناءً على طلب من هيئات محددة مثل المجلس الأعلى للحسابات أو تقارير من المفتشيات الإدارية، وهو ما يمنع فعلياً منظمات المجتمع المدني والمواطنين من تقديم شكايات مباشرة في هذا النوع من القضايا.34
قوبل هذا التعديل بانتقادات شديدة من قبل النشطاء الحقوقيين والجمعيات المناهضة للفساد، الذين اعتبروه تراجعاً خطيراً عن مبادئ الشفافية والمساءلة. ويرى هؤلاء المنتقدون أن هذا المقتضى يوفر "درعاً قانونياً" للمسؤولين المتورطين في الفساد، ويحتكر سلطة الملاحقة، ويتعارض مع التزامات المغرب الدولية في مجال مكافحة الفساد.36 كما يبدو أنه يتناقض مع نصوص قانونية مغربية أخرى تجرم عدم التبليغ عن الجرائم.36
يُظهر قانون المسطرة الجنائية الجديد ما يمكن وصفه بـإصلاح ذي مسارين. فمن ناحية، يقدم القانون إصلاحات ليبرالية وتقدمية تعزز حقوق المشتبه فيهم في الجرائم العادية، مما يجعل المغرب أكثر انسجاماً مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان (الحق في محام، تقييد الاعتقال الاحتياطي). ومن ناحية أخرى، وفي نفس الوقت، يقدم إجراءً تراجعياً يعزل المسؤولين العموميين عن الرقابة والملاحقة القضائية في جرائم الفساد. يشير هذا التناقض إلى وجود مقاربة مزدوجة في إصلاح العدالة. فالنظام يبدو مستعداً لمنح المزيد من الحقوق الإجرائية للأفراد المشتبه في ارتكابهم جرائم شائعة (كالسرقة أو الاعتداء)، ولكنه في المقابل يجعل من الصعب محاسبة ذوي النفوذ على الجرائم المرتكبة ضد الدولة نفسها (كالاختلاس والرشوة). قد لا يكون هذا مجرد تناقض، بل استراتيجية سياسية متطورة. فهي تسمح للدولة بإبراز صورة الحداثة واحترام حقوق الإنسان على الساحة الدولية، بينما تقوم في الخفاء بتعزيز سيطرتها على المجالات الحساسة سياسياً. وبهذا، لا يصبح الإصلاح الإجرائي أداة للعدالة فحسب، بل أداة للإدارة السياسية أيضاً.
القسم الثالث: إعادة بناء علاقة المواطن بالدولة - أثر القانون رقم 55.19 المتعلق بتبسيط المساطر الإدارية
أ. المبادئ والآليات الأساسية لـ"العقد الجديد"
يقوم القانون رقم 55.19 على مبادئ أساسية تهدف إلى قلب العلاقة التقليدية بين الإدارة والمواطن (المرتفق)، من خلال إرساء الثقة المتبادلة، والشفافية، والتبسيط.8 ولتحقيق ذلك، اعتمد القانون على آليات عملية ومبتكرة:
الآجال الملزمة: يحدد القانون آجالاً قصوى لمعالجة الإدارة للطلبات، وهي 60 يوماً كقاعدة عامة، و30 يوماً للقرارات المتعلقة بمشاريع الاستثمار، وهو ما يضع حداً للتماطل الإداري.9
"سكوت الإدارة يعتبر بمثابة موافقة": بالنسبة للائحة محددة من القرارات الإدارية، فإن عدم رد الإدارة في الأجل القانوني يعتبر بمثابة موافقة ضمنية.9 ينقل هذا المبدأ عبء المبادرة من المواطن إلى الإدارة.
تقليص البيروقراطية: يمنع القانون الإدارات من مطالبة المرتفق بأكثر من نسخة واحدة من ملف طلبه، أو بنسخ مصادق على مطابقتها للأصل، أو بوثائق متاحة للعموم. كما يتيح إمكانية تعويض بعض الشهادات الإدارية (مثل شهادة العزوبة أو شهادة الحياة) بـ"تصريح بالشرف".9
ب. بوابة "إدارتي": الواجهة الرقمية للإدارة الجديدة
تم إطلاق بوابة "إدارتي" رسمياً في أبريل 2021 لتكون المرجع الوطني الموحد والرسمي لجميع المساطر والإدارية.9 تضم البوابة حالياً أكثر من 2700 مسطرة وإجراء، حيث توضح بالتفصيل الوثائق المطلوبة، والرسوم، والآجال، وسبل الطعن لكل مسطرة.9 الأهم من ذلك، أن المعلومات المنشورة على البوابة لها
حجية قانونية، أي أنه لا يمكن لأي إدارة أن تطلب من المرتفق وثيقة أو إجراء غير مدرج في البوابة.9 ومن المخطط له أن تتطور البوابة من مجرد واجهة إخبارية إلى منصة تفاعلية تتيح تقديم الطلبات عبر الإنترنت وتضمن التبادل البيني للبيانات بين الإدارات.9
ج. تقييم الأثر: من النص القانوني إلى الواقع الميداني
صدرت مجموعة من المراسيم التنظيمية لتفعيل القانون 9، كما أن تقرير البنك الدولي الجديد "جاهزية بيئة الأعمال" منح المغرب تقييماً مشجعاً فيما يخص الإطار التنظيمي المتعلق بتأسيس المقاولات ومزاولة الأنشطة التجارية 5، مما يوحي بأن الإطار القانوني بحد ذاته يحظى بتقدير جيد.
لكن، على الرغم من هذه الإصلاحات الإيجابية على الورق، أظهرت تحليلات سابقة أن تحسن ترتيب المغرب في تقرير "ممارسة أنشطة الأعمال" (Doing Business) لم يترجم إلى نمو اقتصادي ملموس.41 وعزت تلك التحليلات ذلك إلى نقاط ضعف مؤسسية أعمق تتعلق بالحكامة، وحماية حقوق الملكية، ومكافحة الفساد.42 كما يشير تقرير البنك الدولي الجديد إلى وجود فجوة عامة بين جودة الأطر التنظيمية من جهة، والخدمات العمومية التي يفترض أن تنفذها من جهة أخرى.43 كل هذا يشير إلى أن تغيير القانون ليس سوى الخطوة الأولى، وأن التحدي الحقيقي يكمن في تغيير الثقافة الإدارية. من جانبه، كان الاتحاد العام لمقاولات المغرب فاعلاً أساسياً في الدفع نحو هذه الإصلاحات، معتبراً إياها ضرورية لتحسين القدرة التنافسية للمقاولات.44
يمثل القانون 55.19 تحولاً فلسفياً عميقاً، من إدارة قائمة على الشك والرقابة إلى إدارة قائمة على الثقة والخدمة. ومع ذلك، فإن نجاحه مرهون بالقدرة على التغلب على عقود من الثقافة البيروقراطية المتجذرة. إن الفجوة بين نص القانون وتطبيقه على أرض الواقع ستكون هي الاختبار الحقيقي. فالتقارير تشير باستمرار إلى وجود "فجوة في التنفيذ" 42 و"تقاليد إدارية سلبية" تتسم بالتعقيد والجمود.8 وبالتالي، فإن العقبة الرئيسية أمام نجاح القانون ليست قانونية بقدر ما هي ثقافية. يتطلب الأمر تغييراً في عقلية آلاف الموظفين العموميين، ليتحولوا من حراس بوابات إلى ميسرين للخدمات. وهذا يعني أن رصد نجاح القانون يجب أن يتجاوز مجرد التحقق من الامتثال القانوني، ليمتد إلى تقييمات نوعية لتجارب المواطنين والمستثمرين، وتتبع التطبيق الفعلي لمبدأ "سكوت الإدارة يعني الموافقة"، وقياس ما إذا كانت علاقة الثقة التي يتوخاها القانون قد بدأت تتجسد فعلاً. فبدون مجهود موازٍ في التدريب وإدارة الأداء والتغيير الثقافي داخل الخدمة المدنية، يخاطر القانون بأن يظل مجرد نص تشريعي ذي نوايا حسنة ولكنه غير فعال.
القسم الرابع: الإنفاق العمومي الاستراتيجي - الإطار الجديد للصفقات العمومية (المرسوم رقم 2.22.431)
أ. الأهداف والنطاق: إطار موحد واستراتيجي
يهدف المرسوم الجديد، الذي دخل حيز التنفيذ في 1 سبتمبر 2023، إلى خلق نظام موحد للصفقات العمومية يطبق على الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية، مما يوفر إطاراً أكثر وضوحاً واستقراراً للفاعلين الاقتصاديين.3 يتجاوز هذا الإصلاح مجرد الشراء العمومي ليضع الصفقات العمومية كأداة استراتيجية لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. ويشمل ذلك تعزيز الأفضلية الوطنية، وتشجيع الابتكار، وإدماج معايير مثل النجاعة الطاقية والحفاظ على التراث.3 ويستجيب هذا التوجه لتوصيات هيئات استشارية كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.3
ب. طرق إبرام مبتكرة: تجاوز منطق السعر الأدنى
1. الحوار التنافسي
هذه المسطرة الجديدة مصممة للمشاريع المعقدة أو المبتكرة التي لا تستطيع الإدارة تحديد حلولها التقنية أو المالية مسبقاً (مثل بناء مستشفى متخصص أو تطوير نظام معلوماتي واسع النطاق).46 تتضمن هذه المسطرة قيام صاحب المشروع بحوار منظم مع المترشحين المختارين بهدف تطوير الحلول الممكنة، ثم دعوتهم لتقديم عروضهم النهائية بناءً على ما تم التوصل إليه. ويمكن أن تتضمن المسطرة منح جوائز مالية لأصحاب أفضل العروض غير الفائزة لتحفيز المشاركة النوعية.46
2. العرض التلقائي
تسمح هذه الآلية لفاعل من القطاع الخاص بأن يقترح بشكل استباقي مشروعاً أو حلاً مبتكراً على هيئة عمومية. إذا رأت الهيئة أن الفكرة ذات قيمة، يمكنها إطلاق طلب عروض تنافسي بناءً على تلك الفكرة، مع منح صاحب العرض الأصلي أفضلية في التنقيط (على سبيل المثال، علاوة تتراوح بين 5% و10%).46 يهدف هذا الإجراء إلى استقطاب ابتكارات القطاع الخاص.
ج. التغييرات الإجرائية والمالية الرئيسية
الأفضلية الوطنية: يتم تخفيض العرض المالي للمتنافس الأجنبي بنسبة 15% اعتبارياً أثناء تقييم العروض، مما يمنح ميزة تنافسية مهمة للمقاولات الوطنية.46 كما تم التنصيص على إلزامية استعمال المنتجات محلية الصنع عند توفرها.46
رفع سقف سندات الطلب: تم رفع السقف المالي للشراء عبر سندات الطلب من 200,000 درهم إلى 500,000 درهم، مع فرض شرط جديد للشفافية يتمثل في نشر إعلان عن هذه السندات في بوابة الصفقات العمومية لمدة لا تقل عن 48 ساعة.46
طلب العروض المبسط: بالنسبة للصفقات التي لا تتجاوز قيمتها مليون درهم، تم إحداث مسطرة مبسطة بآجال نشر أقصر (10 أيام) ومتطلبات وثائقية مخففة.46
جدول 1: تحليل مقارن لمراسيم الصفقات العمومية (2013 مقابل 2023)
يعتبر هذا الجدول أداة أساسية لتزويد الفاعلين الاقتصاديين، خاصة المقاولات التي تشارك بانتظام في الصفقات العمومية، بملخص واضح وعملي لأهم التغييرات التشغيلية. فهو يختزل نصوصاً قانونية معقدة في مرجع بصري يسهل فهم التحولات في العتبات المالية والآجال والمساطر المتاحة، مما يعزز القيمة العملية للتقرير كأداة استخباراتية للأعمال.
الميزة | المرسوم القديم (2013) | المرسوم الجديد (رقم 2.22.431 - 2023) | المراجع |
سقف سندات الطلب | 200,000 درهم | 500,000 درهم | 46 |
شفافية سندات الطلب | غير مطلوبة بشكل منهجي | نشر إلزامي في البوابة لمدة 48 ساعة | 46 |
طلب العروض المبسط | غير محدد بشكل صريح | موجود للصفقات التي تقل أو تساوي قيمتها مليون درهم | 46 |
المساطر المبتكرة | طرق تقليدية بشكل أساسي | إحداث الحوار التنافسي والعرض التلقائي | 46 |
الأفضلية الوطنية | موجودة ولكن أقل تنظيماً | منظمة ومحددة بتخفيض اعتباري بنسبة 15% | 46 |
أجل إخبار الفائز | 5 أيام | 3 أيام | 46 |
أجل المصادقة على الصفقة | 75 يوماً | 60 يوماً | 46 |
تقييم العروض | يركز بشكل كبير على السعر الأدنى | يدمج معايير اقتصادية واجتماعية وبيئية؛ ويستخدم نطاقات سعرية مرجعية (+/- 20%) | 3 |
يمثل المرسوم الجديد تحولاً جوهرياً في فلسفة الصفقات العمومية في المغرب. لم تعد تُعتبر مجرد عملية إدارية لاقتناء السلع والخدمات بأقل تكلفة ممكنة. بل أعيد توجيهها بشكل صريح لتصبح رافعة استراتيجية للسياسة الصناعية والتنموية، مصممة لبناء القدرات المحلية، وتشجيع الابتكار، وتحقيق أهداف اجتماعية واقتصادية أوسع. فالآليات الجديدة مثل "الأفضلية الوطنية" 46، وإلزامية استخدام المنتجات المحلية 46، وإدماج المعايير الاجتماعية والبيئية 3، ليست إجراءات تهدف إلى خفض التكلفة المحضة. علاوة على ذلك، فإن إدخال "الحوار التنافسي" و"العرض التلقائي" 46 هو محاولة مباشرة لحل المشاكل التي لا تملك الدولة حلولاً جاهزة لها وتحتاج إلى إبداع مشترك مع القطاع الخاص. وهذا يمثل انتقالاً من طلبات العروض القائمة على المواصفات المحددة سلفاً إلى الشراء القائم على النتائج. إن توصيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي تدعو صراحة إلى استخدام الطلب العمومي لبناء سلاسل قيمة محلية ودعم المقاولات الصغرى والمتوسطة 13، والمرسوم الجديد يجسد هذا الفكر. وهذا يغير المشهد التنافسي بأكمله ويتطلب نهجاً أكثر استراتيجية من المتنافسين، الذين يجب عليهم الآن إثبات القيمة المضافة والابتكار والتوافق مع الأهداف التنموية الوطنية، وليس فقط تقديم أقل سعر.
خاتمة: خلاصة تركيبية، تحديات وتوصيات استراتيجية
أ. نظرة شمولية على الهيكلة الإجرائية الجديدة
يخلص هذا التقرير إلى أن حزمة الإصلاحات الإجرائية التي شهدها المغرب مؤخراً لا تمثل تعديلات معزولة، بل هي جزء من استراتيجية متماسكة وموجهة من أعلى المستويات لإعادة هندسة الوظائف الإجرائية الأساسية للدولة. تهدف هذه الإصلاحات مجتمعة إلى خلق جهاز دولة أكثر مرونة ورقمنة وقابلية للتنبؤ، مدفوعاً بضرورتين مزدوجتين: تحسين مناخ الاستثمار وتحديث الحوكمة.
ب. استشراف عقبات التنفيذ: الطريق إلى الأمام
إن الانتقال من النص القانوني إلى الواقع الميداني محفوف بالتحديات. أولاً، الفجوات التكنولوجية والبشرية، فنجاح الرقمنة يعتمد على توفر بنية تحتية قوية، وأمن سيبراني فعال، ومستوى كافٍ من المعرفة الرقمية لدى الموظفين والمواطنين على حد سواء. ثانياً، المقاومة الثقافية، حيث إن التغلب على العقليات البيروقراطية المتجذرة وضمان تطبيق موحد للقواعد الجديدة في جميع أنحاء المملكة سيكون تحدياً كبيراً. ثالثاً، إدارة التناقضات الداخلية، فالوترات التي تم تحديدها في هذا التقرير – كالنجاعة مقابل الحقوق في المسطرة المدنية، والتحرير مقابل الرقابة في المسطرة الجنائية – تتطلب إدارة حكيمة وتأويلاً قضائياً متوازناً لتجنب أي عواقب سلبية غير مقصودة.
ج. توصيات استشرافية
لضمان نجاح هذه الثورة الإجرائية وتحقيق أهدافها المعلنة بشكل عادل ومنصف، يمكن تقديم التوصيات التالية لمختلف الفاعلين:
للحكومة المغربية: الاستثمار بكثافة في برامج التدريب وإدارة التغيير الموجهة للجهاز القضائي والإداري. إطلاق حملات توعية واسعة لتعريف المواطنين والمقاولات بحقوقهم والتزاماتهم الجديدة. وضع مؤشرات أداء واضحة وشفافة لرصد الأثر الفعلي لهذه الإصلاحات على أرض الواقع، وليس فقط تتبع تنفيذها القانوني.
للسلطة القضائية: تطوير اجتهاد قضائي واضح ومستقر بشأن المقتضيات الجديدة، لا سيما اختصاصات قاضي التنفيذ، ومعايير الاعتقال الاحتياطي، وتطبيق مبدأ "سكوت الإدارة يعني الموافقة". تبني الأدوات الرقمية بشكل كامل لتعزيز الكفاءة الداخلية للمحاكم.
للمستثمرين الدوليين والمقاولات: تكييف استراتيجيات الأعمال مع المشهد الجديد. في مجال الصفقات العمومية، يجب التركيز على عروض القيمة المضافة والابتكار وليس فقط على التكلفة. في مجال تسوية المنازعات، يجب فهم الآجال الجديدة وهياكل الطعن. الاستفادة الكاملة من بوابة "إدارتي" والمساطر المبسطة التي أتى بها القانون 55.19 لتبسيط العمليات.
للمجتمع المدني والمهنيين القانونيين: لعب دور رقابي فعال لرصد تنفيذ هذه القوانين، مع التركيز بشكل خاص على مدى تأثيرها على ولوج الفئات الهشة إلى العدالة، وعلى القيود الجديدة المفروضة على ملاحقة الجرائم المالية. تقديم ملاحظات بناءة لصناع القرار والمشاركة في النقاش العام لضمان تحقيق الإصلاحات لأهدافها بطريقة منصفة.
تعليقات
إرسال تعليق