القائمة الرئيسية

الصفحات

إصلاح التنظيم القضائي المغربي لسنة 2022: تحليل شامل للقانون رقم 38.15

 

إصلاح التنظيم القضائي المغربي لسنة 2022: تحليل شامل للقانون رقم 38.15

مقدمة

يمثل القانون رقم 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي، الذي دخل حيز التنفيذ في يناير 2023، حجر الزاوية في مسار الإصلاح الشامل لمنظومة العدالة في المغرب.1 ويأتي هذا النص التشريعي كأداة محورية لتنزيل المبادئ الدستورية التي أرساها دستور 2011، وفي مقدمتها الارتقاء بالقضاء إلى مرتبة "سلطة" مستقلة وقائمة بذاتها.2 وفي حين أن القانون رقم 38.15 يشكل خطوة تاريخية نحو تحديث الهياكل القضائية وترسيخ استقلال القضاء، فإن نجاحه الفعلي يظل مرهونًا بالقدرة على إدارة ديناميكيات القوة المؤسسية الجديدة التي أفرزها، وتجاوز التحديات العملية للتطبيق، وتأمين الالتزام السياسي والمالي اللازم لتحقيق أهدافه الطموحة.

يقدم هذا التقرير تحليلاً معمقاً لهذا الإصلاح، حيث يتتبع في الجزء الأول أصوله ومبادئه التأسيسية. ويفصّل الجزء الثاني بنيته الهيكلية وآليات حكامته الجديدة. أما الجزء الثالث، فيحلل موازين القوى المؤسسية الجديدة التي أرساها القانون. ويختتم التقرير في جزئه الرابع بتقييم نقدي لآثار القانون والتحديات المستقبلية التي تواجهه.

الجزء الأول: أسس النظام القضائي الجديد

القسم 1: مسار الإصلاح: من ظهير 1974 إلى القانون 38.15

إرث ظهير 1974

شكل ظهير 15 يوليو 1974 النص المؤسس للتنظيم القضائي المغربي لما يقرب من خمسة عقود. اتسم هذا العهد بإطار قانوني مجزأ، حيث كانت القواعد المنظمة للمحاكم المتخصصة، كالتجارية والإدارية، متناثرة في قوانين منفصلة.1 وقد صدر هذا الظهير في سياق تاريخي محدد تميز بمرحلة ما بعد الاستقلال التي ارتكزت على مبادئ "توحيد القضاء وتعريبه ومغْربته".5 إلا أن القصور الأساسي لهذا النظام تمثل في الوضعية التي كان عليها القضاء، حيث كان يُعتبر مجرد "مرفق عمومي" يخضع للإشراف الفعلي للسلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل، بدلاً من كونه سلطة مستقلة.2 إن طول المسار التشريعي للقانون 38.15 نفسه، والذي امتد لثلاث ولايات تشريعية وتعاقب عليه أربعة وزراء للعدل، لدليل قاطع على مدى تعقيد وحساسية هذا التحول الجوهري في بنية الدولة.6

الزخم الدستوري لسنة 2011

غيّر دستور 2011، وتحديداً الفصول من 107 إلى 128، هذا النموذج بشكل جذري، حيث أسس لمبدأ فصل السلط وأرسى القضاء "كسلطة" قائمة بذاتها، متوازية مع السلطتين التشريعية والتنفيذية.2 وقد فرض الدستور مجموعة من المستلزمات التي حتمت إصدار قانون جديد، أبرزها إحداث المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وتكريس استقلال النيابة العامة، وتعزيز حقوق المتقاضين.8

ميثاق الإصلاح والمسار التشريعي

شكل ميثاق إصلاح منظومة العدالة لسنة 2013 خارطة الطريق الاستراتيجية التي ترجمت المبادئ الدستورية إلى توصيات عملية قابلة للتنفيذ.3 ورغم اعتماد مقاربة تشاركية في إعداد القانون، شملت لجنة مكونة من 38 عضواً من مختلف المهن القضائية، فإن بعض الفئات، مثل موظفي كتابة الضبط، أعربت لاحقاً عن شعورها بالإقصاء من هذه المشاورات.12

لعب قرار المحكمة الدستورية رقم 89/19 دوراً محورياً في تشكيل النسخة النهائية للقانون.14 فلم يكن هذا القرار مجرد مصادقة شكلية، بل قضى بعدم دستورية عدد من المقتضيات الجوهرية، مما فرض إعادة صياغة عميقة. وعلى وجه الخصوص، رفضت المحكمة مقترح إحداث منصب "الكاتب العام للمحكمة"، معتبرة أنه يمس بالطبيعة المستقلة للنيابة العامة وبسلطة المسؤولين القضائيين على الموظفين الذين يمارسون مهاماً ذات طابع قضائي.15 كان هذا التدخل حاسماً في ترسيخ مبدأ فصل السلط داخل المحكمة ذاتها.

إن هذا التحول لم يكن مجرد تحديث تقني، بل إعادة توازن دستورية وسياسية عميقة. فالنقلة من مفهوم "القضاء-المرفق" إلى "القضاء-السلطة" هي جوهر الإصلاح. لقد كان النظام القديم يضع القضاء تحت وصاية وزارة العدل، وهي جزء من السلطة التنفيذية.2 جاء دستور 2011 ليفصل بين السلطات بشكل صريح.8 ويعد القانون 38.15 الأداة التشريعية الرئيسية لتفعيل هذا الفصل، حيث نقل صلاحيات الإشراف على القضاة إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية والنيابة العامة.6 إن المسار التشريعي الطويل والمخاض العسير الذي مر به القانون، وتدخل المحكمة الدستورية الحاسم، يثبت أن العملية كانت صراعاً على إعادة توزيع السلطة أكثر من كونها مجرد تحديث قانوني.

جدول 1: الفروقات الرئيسية بين ظهير 1974 والقانون رقم 38.15

الميزة

ظهير 15/07/1974

القانون رقم 38.15

الوضع القانوني للقضاء

"مرفق عمومي" تحت إشراف وزارة العدل

"سلطة مستقلة" 2

البنية التشريعية

مجزأة (قوانين متعددة للمحاكم المختلفة)

موحدة ومدونة (نص واحد شامل) 1

الإشراف على القضاة

وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء (بصيغته القديمة)

المجلس الأعلى للسلطة القضائية 8

النيابة العامة

تحت سلطة وزير العدل

رئاسة مستقلة للنيابة العامة 6

الحكامة الداخلية

هياكل غير رسمية، دور مهيمن لرئيس المحكمة

"مكتب المحكمة" و"الجمعية العامة" كهياكل رسمية 6

استئناف أحكام الدرجة الأولى

وجود غرف استئنافية داخل المحاكم الابتدائية

إلغاؤها، وتوجيه الاستئنافات مباشرة لمحاكم الاستئناف 6

التفتيش

إداري بالأساس

نظام مزدوج: قضائي (المجلس الأعلى) وإداري ومالي (وزارة العدل) 1

عدد المواد

حوالي 28 فصلاً

111 مادة 1

القسم 2: المبادئ المدونة للنظام الجديد

مبدأ استقلال القضاء

ينقل القانون الجديد هذا المبدأ من مجرد مثال دستوري إلى قاعدة عملية ملزمة، حيث ينص صراحة على استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.1 ويتجلى ذلك في حظر أي محاولة للتأثير على القضاة، وإلزام القاضي بإبلاغ المجلس الأعلى للسلطة القضائية بأي محاولة من هذا القبيل.19 ويميز القانون بوضوح بين استقلالية قضاة الحكم، الذين لا يتلقون أي تعليمات، والطبيعة التسلسلية للنيابة العامة، التي يتلقى قضاتها تعليمات مكتوبة من رؤسائهم.19

مبدآ وحدة القضاء والتخصص

يكرس القانون مبدأ "وحدة القضاء"، الذي يضع محكمة النقض على قمة الهرم القضائي لضمان التطبيق الموحد للقانون، مما يضع حداً للتشتت الذي ساد سابقاً.1 وفي الوقت نفسه، يتبنى القانون التزاماً مزدوجاً بالتخصص من خلال آليتين:

  1. المحاكم المتخصصة: الحفاظ على المحاكم الإدارية والتجارية القائمة.1

  2. الأقسام المتخصصة: في مستجد بارز، أتاح القانون إمكانية إحداث أقسام متخصصة في القضاء الإداري والتجاري داخل المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف ذات الولاية العامة، وذلك في الدوائر التي لا يبرر فيها حجم القضايا إنشاء محاكم متخصصة مستقلة. يهدف هذا الإجراء إلى تقريب القضاء المتخصص من المتقاضين.6

مبدأ مجانية القضاء والمساعدة القضائية

يعني هذا المبدأ أن المتقاضين لا يدفعون رواتب القضاة، لكنهم يظلون مسؤولين عن أداء الرسوم والمصاريف القضائية.23 ويعزز القانون نظام المساعدة القضائية والقانونية للمتقاضين المعوزين، باعتباره ركناً أساسياً من أركان الدولة الاجتماعية.19 وينص القانون على مجانية التقاضي في قضايا محددة، مثل بعض نزاعات الشغل وقضايا النفقة.19

تدوين حقوق المتقاضين وضمانات المحاكمة العادلة

يعدد القانون لأول مرة بشكل صريح حقوق المتقاضين، كالحق في محاكمة عادلة، واحترام حقوق الدفاع، والحق في صدور الأحكام داخل أجل معقول، ووجوب تعليلها والنطق بها في جلسة علنية.9 ومن أهم المستجدات، إلزام القاضي بتحرير الحكم كاملاً وتوقيعه قبل النطق به (المادة 15)، وهو تغيير جوهري يهدف إلى تعزيز الشفافية ومنع أي تعديلات لاحقة.16 كما يكرس القانون آليات لضمان استمرارية عمل المحاكم، ومنع تعطل خدماتها، وضمان ولوج المرتفقين لمرفق القضاء في جميع الظروف.19

إن تدوين هذه المبادئ ليس مجرد إعلان رمزي، بل هو خطوة استراتيجية تهدف إلى خلق ثقافة قانونية جديدة وتمكين الفاعلين القضائيين. فبوضع هذه المبادئ في مقدمة القانون الأساسي للتنظيم القضائي 1، يمنحها المشرع قوة قانونية مباشرة. وهذا يمكّن القضاة من الاحتكام إليها مباشرة لحماية استقلاليتهم 19، كما يمكّن المتقاضين ومحاميهم من مساءلة المنظومة على أساس هذه المعايير، كالمطالبة بصدور حكم في "أجل معقول".21

الجزء الثاني: هندسة القضاء المغربي الحديث

القسم 3: إعادة رسم الخريطة القضائية: التراتبية، التخصص، والولوج

تراتبية موحدة

يرسي القانون هيكلة قضائية من ثلاث درجات: محاكم الدرجة الأولى، ومحاكم الدرجة الثانية، وتعلوها محكمة النقض.6 وتشمل فئة "محاكم الدرجة الأولى" الآن المحاكم الابتدائية ذات الولاية العامة، والمحاكم الابتدائية التجارية، والمحاكم الابتدائية الإدارية.6

من أبرز التغييرات الهيكلية إلغاء "الغرف الاستئنافية بالمحاكم الابتدائية".6 وبموجب القانون الجديد، ترفع جميع الطعون بالاستئناف مباشرة إلى محكمة الاستئناف المختصة، وهو تعديل يهدف إلى تبسيط مسار الطعن وضمان مراجعة حقيقية من قبل درجة قضائية أعلى.

المحاكم ذات الولاية العامة وأقسامها الداخلية

تظل المحكمة الابتدائية هي صاحبة الولاية العامة للنظر في كافة القضايا التي لم يسند الاختصاص فيها بنص خاص لجهة قضائية أخرى.18 وتضم في هيكلتها الداخلية أقساماً متخصصة إلزامية، وهي قسم قضاء الأسرة وقسم قضاء القرب 1، بالإضافة إلى إمكانية إحداث أقسام متخصصة في المادتين التجارية والإدارية.6

آليات تعزيز الولوج إلى العدالة

يتبنى القانون عدة آليات لتقريب القضاء من المتقاضين:

  • المراكز القضائية: يستمر العمل بمؤسسة "المركز القضائي" (الذي كان يعرف سابقاً بـ "مركز القاضي المقيم")، والذي يعمل كفرع للمحكمة الابتدائية في المناطق النائية. والمستجد الهام هو أن إحداث هذه المراكز أصبح يتم بموجب مرسوم وليس بقرار وزاري، مما يرفع من مكانتها القانونية.26

  • الجلسات التنقلية: يتيح هذا المقتضى لمحاكم الدرجتين الأولى والثانية عقد جلسات في مختلف الجماعات الواقعة ضمن دائرة نفوذها، مما ينقل المحكمة فعلياً إلى المتقاضين.16

  • الغرف الملحقة: يعد هذا المستجد من أهم الابتكارات، حيث يسمح بإحداث غرف تابعة لمحكمة استئناف في مدينة أخرى غير مقرها الرئيسي، وهي خطوة كبيرة نحو تحقيق لا مركزية قضاء الدرجة الثانية.26

محكمة النقض

يعيد القانون تأكيد دور محكمة النقض كأعلى هيئة قضائية في المملكة، تسهر على مراقبة التطبيق السليم للقانون وتوحيد الاجتهاد القضائي.4 وتم إحداث غرفة سابعة جديدة بها، هي "الغرفة العقارية"، مما يعكس حجم وأهمية المنازعات العقارية في المغرب.4

إن الخريطة القضائية الجديدة محكومة بمنطق مزدوج: مركزية التراتبية ولا مركزية الولوج. فمن جهة، يعد إلغاء الغرف الاستئنافية بالمحاكم الابتدائية 6 خطوة نحو المركزية، إذ يعزز التسلسل الهرمي الواضح من المحكمة الابتدائية إلى محكمة الاستئناف، ويقوي سلطة هذه الأخيرة. ومن جهة أخرى، يقدم القانون آليات متعددة لتحقيق اللامركزية الجغرافية للعدالة، فالجلسات التنقلية والغرف الملحقة والأقسام المتخصصة المحلية 16 كلها مصممة لمعالجة مشكلة تركز العدالة في المدن الكبرى. يكشف هذا عن توجه استراتيجي أساسي في الإصلاح: رغبة في هيكل قضائي أكثر انسيابية وقوة، تتعايش مع ضرورة سياسية واجتماعية لتوفير عدالة أقرب وأسهل منالاً للمواطنين.

القسم 4: إصلاح الحكامة الداخلية: مكتب المحكمة والجمعية العامة

الهيكل الإداري الجديد مزدوج الرأس

تتكون الإدارة في كل محكمة من رئاسة مزدوجة: مسؤول قضائي (رئيس المحكمة) ومسؤول عن النيابة العامة (وكيل الملك)، يعملان جنباً إلى جنب مع مسؤولين إداريين (رئيس كتابة الضبط ورئيس كتابة النيابة العامة).6 هذه البنية المزدوجة هي نتيجة مباشرة لاستقلال النيابة العامة.

مكتب المحكمة: مركز جديد للسلطة

يعد "مكتب المحكمة" مؤسسة جديدة ومحورية داخل كل محكمة.6 يتألف من رئيس المحكمة ووكيل الملك، بالإضافة إلى أقدم القضاة وأقدم قضاة النيابة العامة ورؤساء كتابة الضبط والنيابة العامة. وتتمثل وظيفته الأساسية والأقوى في إعداد "برنامج تنظيم العمل بالمحكمة"، والذي يشمل توزيع القضايا وتعيين القضاة في الغرف، وهي صلاحية حيوية كانت في السابق من اختصاص رئيس المحكمة بشكل أقل رسمية.16

الجمعية العامة: دور استشاري

تتألف "الجمعية العامة" من جميع قضاة المحكمة (قضاة الحكم والنيابة العامة).27 وقد أعيد تعريف دورها ليصبح ذا طبيعة استشارية وتواصلية بالأساس.16 فهي تجتمع للاطلاع على برنامج العمل الذي يعده مكتب المحكمة، ومناقشة القضايا المتعلقة بسير العمل، لكن سلطتها في وضع البرنامج انتقلت إلى مكتب المحكمة. وقد أثارت هذه النقطة انتقادات من بعض المحللين الذين يرون أنها تضعف الديمقراطية الداخلية للمحكمة وتقلص الدور الجماعي للقضاة في إدارة شؤونهم، وتركز السلطة في يد مكتب المحكمة.28

لجنة التنسيق

تُحدث هذه اللجنة على صعيد كل محكمة لتدبير الشؤون اليومية. وتتألف من المسؤولين القضائيين والإداريين بالمحكمة، بالإضافة إلى ممثل عن المصالح اللاممركزة لوزارة العدل.29 وظيفتها تنسيقية وتشغيلية لضمان السير العادي للمرفق.

جدول 2: الإطار الجديد للحكامة الداخلية للمحاكم المغربية

المؤسسة

التكوين

الصلاحيات والوظائف الرئيسية

طبيعة السلطة

مكتب المحكمة

القيادة القضائية والنيابية، كبار القضاة، رؤساء الكتابة.16

إعداد برنامج العمل السنوي، تعيين القضاة في الغرف، توزيع القضايا.

تنفيذية/تقريرية

الجمعية العامة

جميع قضاة الحكم والنيابة العامة بالمحكمة.27

الاطلاع على برنامج العمل، مناقشة أداء المحكمة، تقديم توصيات.

استشارية 16

لجنة التنسيق

الرؤساء القضائيون والإداريون + ممثل وزارة العدل.29

تدبير الشؤون التشغيلية واللوجستية اليومية للمحكمة.

تنسيقية/تشغيلية

الجزء الثالث: التوازن المؤسسي للسلطة

القسم 5: المجلس الأعلى للسلطة القضائية والنيابة العامة

المجلس الأعلى للسلطة القضائية كضامن للاستقلال

المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهو هيئة دستورية، هو المؤسسة المسؤولة حصراً عن تدبير المسار المهني لقضاة الحكم (التعيين، الترقية، التأديب).8 ويدمج القانون 38.15 المجلس في نسيج التنظيم القضائي، حيث يستلزم أخذ رأيه أو التنسيق معه في مسائل أساسية مثل رسم الخريطة القضائية وإحداث الغرف الملحقة.15 كما يضطلع المجلس بدور حماية القضاة من أي ضغوط، ويصدر تقارير وتوصيات حول وضعية القضاء.8

الرئاسة المستقلة للنيابة العامة

يمثل نقل السلطة على النيابة العامة من وزير العدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، الذي يحمل الآن صفة "رئيس النيابة العامة"، تحولاً تاريخياً.6 ويعمل قضاة النيابة العامة في جميع المحاكم تحت سلطة وتعليمات رئيس النيابة العامة وفقاً لهيكلة هرمية.19 وقد أثارت بعض التحليلات مخاوف بشأن المادة التي تسمح لرئيس النيابة العامة بتحديد اختصاصات مؤسسته، مما قد يقلل من الرقابة البرلمانية.30

الدور الجديد لوزارة العدل

لم يتم إقصاء وزارة العدل من المنظومة، بل أعيد تركيز دورها، حيث أصبحت مسؤولة عن التدبير الإداري والمالي للمحاكم، بما في ذلك توفير البنية التحتية والتجهيزات والميزانية وتدبير شؤون الموظفين الإداريين (كتابة الضبط).15 ويقوم النموذج الجديد على أساس "التنسيق والتعاون" بين الوزارة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة.15

إن هذا الإصلاح يؤسس لنموذج حكامة "ثلاثي الأقطاب" لمنظومة العدالة، مما يخلق مجموعة جديدة من التحديات المتعلقة بالتنسيق والاحتكاك المؤسسي المحتمل. فقد أنشأ الإصلاح ثلاثة أقطاب قوية ومتميزة للسلطة: المجلس الأعلى للسلطة القضائية (الذي يدير شؤون القضاة)، ورئاسة النيابة العامة (التي تدير شؤون قضاتها)، ووزارة العدل (التي تدير الموارد والإدارة).6 وفي حين أن هذا الفصل أساسي للاستقلال، فإنه يفتت هيكل القيادة الموحد الذي كان سائداً عندما كانت وزارة العدل مهيمنة. ويستخدم القانون مصطلحات فضفاضة مثل "التنسيق" و"التعاون" لوصف كيفية تفاعل هذه الهيئات الثلاث، دون وضع آليات ملزمة لحل الخلافات. وبالتالي، فإن أحد التحديات الرئيسية التي لم يتم حلها هو كيفية ضمان عمل هذه المؤسسات القوية بانسجام، إذ قد يؤدي فشل التنسيق إلى شلل إداري.

القسم 6: النظام المزدوج للتفتيش والمساءلة

التفتيش القضائي

أصبحت هذه المهمة من اختصاص "المفتشية العامة للشؤون القضائية" التابعة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية حصراً.6 وينصب نطاق عملها على الأداء المهني للقضاة وقضاة النيابة العامة: سلوكهم، جودة عملهم القضائي، والتزامهم بالأخلاقيات والآجال.6 يتعلق الأمر هنا بالوظيفة القضائية البحتة.

التفتيش الإداري والمالي

تتولى هذه المهمة المفتشية العامة التابعة لوزارة العدل.15 ويشمل نطاق عملها تدبير المحكمة كوحدة إدارية: أداء كتابة الضبط، التدبير المالي، التعامل مع الرسوم القضائية، وصيانة البنية التحتية.15 يتعلق الأمر هنا بالدعم الإداري للوظيفة القضائية.

الهدف: مساءلة دون تعدٍ

تكمن فلسفة هذا النظام المزدوج في السماح برقابة قوية على التدبير الإداري والمالي للمحاكم (وهي مسألة تتعلق بالمال العام ومسؤولية السلطة التنفيذية)، دون السماح للسلطة التنفيذية بالتدخل في العمل القضائي أو تقييمه، والذي يظل المجال المحمي للسلطة القضائية المستقلة.

جدول 3: تقسيم مسؤوليات الإشراف والتفتيش

الجانب

التفتيش القضائي

التفتيش الإداري والمالي

الهيئة المسؤولة

المفتشية العامة للشؤون القضائية (التابعة للمجلس الأعلى) 7

المفتشية العامة لوزارة العدل 15

نطاق الإشراف

الأداء المهني للقضاة، جودة الأحكام، الأخلاقيات القضائية، آجال البت في القضايا.6

أداء موظفي كتابة الضبط، التدبير المالي، عمليات التسجيل، البنية التحتية، الإجراءات الإدارية.15

التبعية

ترفع تقاريرها للمجلس الأعلى ورئاسة النيابة العامة.

ترفع تقاريرها لوزير العدل.

الهدف الأساسي

ضمان النزاهة والأداء القضائي.

ضمان الكفاءة الإدارية والحكامة المالية.

الجزء الرابع: الأثر، النقد، والمسار المستقبلي

القسم 7: الأثر العملي على الفاعلين والإجراءات

بالنسبة للمتقاضي

تشمل الآثار الإيجابية المحتملة للمتقاضين تعزيز الوصول إلى المعلومة من خلال الرقمنة (كتتبع مسار القضايا عن بعد)، وتحسين ظروف الاستقبال، وتسهيل ولوج الأشخاص في وضعية إعاقة إلى المحاكم.21 كما أن مبدأ التواصل مع المتقاضين "بلغة يفهمونها" والترسيم التدريجي للغة الأمازيغية قد يحسن من جودة التواصل.17 ومن شأن توسيع نطاق القضاء المتخصص عبر الأقسام المحلية أن يؤدي إلى أحكام أكثر خبرة ودقة.16

بالنسبة للمهن القانونية والقضائية

  • كتابة الضبط: أعيد تعريف دورهم، حيث أصبحوا يعملون تحت إشراف مزدوج: إداري من وزارة العدل، ووظيفي من المسؤولين القضائيين.15 وتجدر الإشارة إلى مخاوفهم من الإقصاء خلال مسار إعداد الإصلاح.13

  • المساعدون الاجتماعيون: تم إدماج المساعدين الاجتماعيين رسمياً في هيكل المحكمة، خاصة في قضايا الأسرة، مما يعكس الاعتراف بالحاجة إلى مقاربات سوسيو-قانونية.16

  • المحامون: يواجه المحامون آثار التغييرات الإجرائية. ويستمر الحوار، الذي تتخلله توترات أحياناً، بين وزارة العدل وجمعيات هيئات المحامين بشأن الإصلاحات الموازية، كالقانون المنظم لمهنة المحاماة وقوانين المساطر.33

التحديث والرقمنة

يتبنى القانون صراحة خيار الإدارة الإلكترونية للإجراءات والمساطر القضائية.17 وقد أنيطت مهمة تطوير وتنفيذ هذه البرامج بوزارة العدل، بالتنسيق مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة 29، مما يؤكد مجدداً على مبدأ التعاون الإلزامي بين هذه المؤسسات.

القسم 8: تقييم نقدي وتحديات قائمة

تجميع وجهات النظر النقدية

تتركز الانتقادات الموجهة للقانون من قبل بعض الباحثين والمهنيين على نقاط محددة. من أبرزها إضعاف الدور التقريري للجمعية العامة، والذي يُنظر إليه على أنه تراجع عن الديمقراطية القضائية الداخلية.28 كما أثيرت مخاوف بشأن طبيعة الإصلاح الذي وُصف بأنه "فوقي"، مع تشاور غير كافٍ مع فاعلين رئيسيين مثل كتابة الضبط 13، أو تبني انتقائي لتوصيات الحوار الوطني.28 علاوة على ذلك، يظل التصور العام بوجود الفساد تحدياً عميقاً لا يمكن لأي إصلاح تنظيمي معالجته بمفرده، حيث يبقى الأمر مرهوناً بـ "الضمير المسؤول للفاعلين".16

تحدي التنفيذ: المراسيم والموارد

إن العديد من مقتضيات القانون ليست ذاتية التنفيذ، وتتطلب إصدار مراسيم تطبيقية لتفعيلها.1 فعلى سبيل المثال، لا تزال الخريطة القضائية الدقيقة، وتركيبة بعض الهيئات، والإجراءات التفصيلية للآليات الجديدة، مؤجلة إلى حين صدور هذه المراسيم.26 ويشكل أي تأخير في إصدارها أو أي قصور في صياغتها خطراً حقيقياً يهدد نجاح الإصلاح. كما أن تحقيق الأهداف الطموحة للرقمنة والتكوين المتخصص وتحديث البنية التحتية يتطلب استثماراً مالياً كبيراً ومستداماً من الدولة.11

إشكالية الثقافة المؤسسية

يمكن للنصوص القانونية أن تغير الهياكل، لكن تغيير الثقافة المتجذرة في أي مؤسسة هو عملية أطول وأكثر تعقيداً. فالانتقال من ثقافة التبعية الهرمية للسلطة التنفيذية إلى ثقافة الاستقلال القضائي والتعاون المؤسسي يتطلب تحولاً في العقليات لدى جميع الفاعلين: القضاة، وموظفو الإدارة، ومسؤولو الوزارة.

إن الفجوة بين النص القانوني والواقع الميداني تظل قائمة، ويجب سدها بالإرادة السياسية والموارد المالية وسلسلة من المراسيم التنظيمية المفصلة. فالقانون نفسه هو مجرد إطار؛ فهو ينص على أن الخريطة القضائية ستحدد بمرسوم 26، وأن الهياكل الإدارية ستفصل في نص تنظيمي.29 وهذا يعني أن القانون، في صيغته الحالية، غير مكتمل. وبالتالي، فإن التحدي الأكبر ليس قانونياً بل سياسي وميزانياتي. فبدون مراسيم سريعة وتمويل كافٍ، ستبقى الهندسة الكبرى للقانون 38.15 مجرد مخطط على الورق.

خاتمة وتوصيات

خلاصة النتائج

يعد القانون رقم 38.15 تشريعاً محورياً ينجح في ترجمة الرؤية الدستورية لقضاء مستقل إلى إطار مؤسسي وإجرائي مفصل. فهو يحدّث الخريطة القضائية، ويوضح المبادئ، ويؤسس لتوازن جديد في السلطة.

التحدي الجوهري

يكمن التحدي الرئيسي في الانتقال من النص إلى الممارسة. سيُقاس نجاح الإصلاح بقدرته على تعزيز ثقافة جديدة من الاستقلال والتعاون، وبقدرته على تأمين الدعم التنظيمي والمالي اللازم من السلطتين التنفيذية والتشريعية.

التوصيات

  1. تسريع إصدار المراسيم التطبيقية: حث الحكومة على تسريع صياغة ونشر جميع المراسيم اللازمة، وذلك بتشاور وثيق وشفاف مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة.

  2. إنشاء مجلس تنسيق ثلاثي رسمي: التوصية بإنشاء هيئة تنسيق دائمة وعالية المستوى تضم ممثلين عن وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، لإدارة الجوانب الإدارية والميزانياتية لمنظومة العدالة بشكل تشاركي وتجنب الشلل المؤسسي.

  3. الاستثمار المكثف في التكوين وبناء القدرات: التأكيد على الحاجة إلى برامج تكوينية موجهة للقضاة المعينين في الأقسام المتخصصة، وكذلك للمديرين الإداريين وموظفي كتابة الضبط للتكيف مع هياكل الحكامة الجديدة والأدوات الرقمية.

  4. ضمان الشفافية في آليات المساءلة: دعوة المجلس الأعلى للسلطة القضائية ووزارة العدل إلى نشر تقارير دورية ومفصلة عن أنشطة التفتيش والتأديب الخاصة بكل منهما، وذلك لبناء ثقة المواطنين في فعالية نظام المساءلة الجديد.

  5. إجراء مراجعة رسمية ما بعد التنفيذ: التوصية بإجراء مراجعة شاملة ومستقلة لأثر القانون في غضون خمس سنوات من دخوله حيز التنفيذ، لتقييم نجاحاته، وتحديد العواقب غير المقصودة، واقتراح التعديلات التشريعية اللازمة.

تعليقات