القائمة الرئيسية

الصفحات

محكمة النقض المغربية: دراسة شاملة للمؤسسة، الاختصاصات، والاجتهاد القضائي

 

محكمة النقض المغربية: دراسة شاملة للمؤسسة، الاختصاصات، والاجتهاد القضائي

مقدمة: محكمة النقض كحجر زاوية في صرح العدالة المغربية

تعتبر محكمة النقض في المملكة المغربية أكثر من مجرد هيئة قضائية عليا؛ إنها تمثل قمة الهرم القضائي والضامن الأساسي لوحدة القانون وتطبيقه السليم على امتداد التراب الوطني. يهدف هذا التقرير إلى تقديم دراسة شاملة وعميقة لهذه المؤسسة المحورية، متناولاً مسارها التاريخي، ومكانتها الدستورية، وهيكلتها الداخلية، واختصاصاتها الواسعة، وصولاً إلى تحليل معمق لاجتهاداتها القضائية التي تشكل بوصلة توجه القضاء المغربي.

تكمن الإشكالية المحورية التي يسعى هذا التقرير لمعالجتها في فهم الكيفية التي تمارس بها محكمة النقض دورها المزدوج: من جهة، كحارس أمين على التطبيق الصحيح للقانون، ومن جهة أخرى، كقوة دافعة لتطويره وتكييفه مع التحولات الدستورية والاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها المملكة. إن أهمية دراسة هذه المؤسسة لا تنبع فقط من موقعها في قمة التنظيم القضائي، بل من كونها صانعة للاجتهاد القضائي الذي يرسي مبادئ الأمن القانوني والقضائي، وهو ما يؤثر بشكل مباشر وعميق على حقوق وحريات المتقاضين، وعلى مناخ الاستثمار والتنمية الشاملة في البلاد.1

لتحقيق هذا الهدف، يعتمد هذا التقرير على منهج تحليلي ونقدي، يجمع بين الدراسة الدقيقة للنصوص القانونية المنظمة للمحكمة، بدءاً من ظهير التأسيس ومروراً بدستور 2011 والقوانين التنظيمية ذات الصلة 2، وبين التحليل العميق لقراراتها القضائية (الاجتهادات) في مجالات متنوعة، للكشف عن توجهاتها الفكرية وتأثيرها العملي على المنظومة القانونية المغربية.5

ينقسم هذا التقرير إلى ستة أجزاء رئيسية. يتناول الجزء الأول النشأة التاريخية للمحكمة ومكانتها الدستورية، بينما يخصص الجزء الثاني لتفصيل هيكلتها الإدارية والقضائية. أما الجزء الثالث، فيستعرض اختصاصاتها القضائية المتنوعة، مفرقاً بين دورها الأصيل كمحكمة قانون واختصاصاتها الاستثنائية كمحكمة موضوع. ويقدم الجزء الرابع دليلاً إجرائياً مفصلاً لمسطرة الطعن بالنقض. ويشكل الجزء الخامس القلب التحليلي للتقرير، حيث يغوص في تحليل الاجتهاد القضائي في مجالات حيوية كقانون الأسرة والقانون التجاري. وأخيراً، يتناول الجزء السادس آليات الشفافية والتواصل المؤسساتي التي تنهجها المحكمة، قبل أن يختتم التقرير بخلاصة تركيبية وتوصيات عملية.

الجزء الأول: النشأة والتطور والمكانة الدستورية

إن فهم الدور الحالي لمحكمة النقض يقتضي العودة إلى جذورها التاريخية وتتبع مسار تطورها الذي يعكس التحولات الكبرى التي شهدتها الدولة المغربية الحديثة، وصولاً إلى تكريسها كسلطة قضائية مستقلة في دستور 2011.

1.1. من المجلس الأعلى إلى محكمة النقض: مسار تاريخي حافل

لم تكن محكمة النقض وليدة اللحظة، بل هي نتاج تطور مؤسسي وقانوني امتد لأكثر من نصف قرن، ويمكن تتبع هذا المسار عبر محطات رئيسية.

التأسيس في سياق بناء الدولة الحديثة (1957):

غداة استقلال المغرب، كانت الحاجة ملحة لبناء مؤسسات وطنية قوية وتوحيد النظام القضائي الذي كان يتسم بالازدواجية والتعددية الموروثة عن عهد الحماية. في هذا السياق، تم إحداث "المجلس الأعلى" بموجب الظهير الشريف رقم 1.57.223 الصادر بتاريخ 27 سبتمبر 1957.3 كان الهدف الاستراتيجي من وراء هذا التأسيس هو توحيد جهة الطعن بالنقض، التي كانت مشتتة سابقاً بين المحاكم العصرية والشرعية، وإنشاء هيئة قضائية عليا واحدة تكون بمثابة قمة الهرم القضائي للدولة المستقلة.7

مرحلة التأسيس (1957-1974):

تميزت هذه المرحلة بوضع اللبنات الأولى للمؤسسة. كان التنظيم الأولي للمجلس بسيطاً، حيث تألف من أربع غرف لم تُعطَ تسميات محددة باستثناء "الغرفة الإدارية"، مع وجود إدارة قضائية ناشئة.7 وشكل صدور قانون المغربة والتوحيد والتعريب في 26 يناير 1965 نقطة تحول هامة، حيث بدأ المجلس يستغني تدريجياً عن القضاة الفرنسيين، وتكرس تعريب لغة القضاء كخيار سيادي. وتجسيداً لهذا التوجه، شهدت سنة 1967 ميلاد مجلة "قضاء المجلس الأعلى"، التي لم تكن مجرد نشرة قضائية، بل أداة فعالة لنشر الاجتهاد القضائي باللغة العربية وتوحيد الفهم القانوني.7 إن هذا الارتباط الوثيق بين نشأة المحكمة وسياسات السيادة الوطنية يوضح كيف أن تاريخها جزء لا يتجزأ من تاريخ بناء الهوية القانونية المغربية.

التطور التشريعي: قانون 15 يوليوز 1974:

شكل قانون التنظيم القضائي الصادر في 15 يوليوز 1974 إطاراً قانونياً أكثر نضجاً، حيث حدد تنظيم واختصاصات المجلس الأعلى بشكل أكثر تفصيلاً، إلى جانب ما نصت عليه قوانين المسطرة المدنية والجنائية والعدل العسكري.3 رسخ هذا القانون مكانة المجلس كهيئة مراقبة لشرعية الأحكام الصادرة عن محاكم الموضوع.

نقطة التحول: دستور 2011 والقانون 58.11:

مثّل دستور 2011 ثورة هادئة في البناء المؤسسي للدولة المغربية، حيث ارتقى بالقضاء من مجرد "وظيفة" إلى "سلطة قضائية" مستقلة. وفي هذا السياق، جاء القانون رقم 58.11 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11.170 بتاريخ 25 أكتوبر 2011، ليغير تسمية "المجلس الأعلى" إلى "محكمة النقض".7 هذا التغيير لم يكن مجرد تعديل شكلي في التسمية، بل كان تحولاً دستورياً عميقاً. فمصطلح "المجلس" قد يحمل في طياته دلالات إدارية أو استشارية، بينما مصطلح "المحكمة" يؤكد بشكل قاطع وحصري على الطبيعة القضائية البحتة للمؤسسة. لقد كان هذا التغيير تتويجاً لمسار طويل وفعلاً مقصوداً لمواءمة اسم المؤسسة مع مكانتها الدستورية الجديدة كقمة للسلطة القضائية المستقلة، مما يعزز من هيبتها ودورها في تحقيق سيادة القانون.

جدول 1: المحطات التشريعية والتاريخية الرئيسية لمحكمة النقض المغربية

السنة

الحدث التشريعي / التاريخي

الأثر والأهمية الرئيسية

1957

الظهير الشريف رقم 1.57.223

تأسيس "المجلس الأعلى" كأعلى هيئة قضائية في الدولة المستقلة، وتوحيد جهة الطعن بالنقض التي كانت تتسم بالازدواجية.3

1965

قانون المغربة والتوحيد والتعريب

بدء تعريب القضاء والاستغناء التدريجي عن القضاة الأجانب، مما عزز السيادة القانونية الوطنية.7

1967

ميلاد مجلة "قضاء المجلس الأعلى"

إنشاء أداة رئيسية لنشر الاجتهاد القضائي باللغة العربية وتوحيد الفهم القانوني.7

1974

قانون التنظيم القضائي

تحديد مفصل لهيكلة واختصاصات المجلس الأعلى ضمن تنظيم قضائي شامل للمملكة.3

2011

دستور المملكة والقانون رقم 58.11

الارتقاء بالقضاء إلى "سلطة مستقلة"، وتغيير التسمية إلى "محكمة النقض" لتعزيز الطابع القضائي الخالص للمؤسسة ومواءمتها مع مكانتها الدستورية الجديدة.8

1.2. المكانة الدستورية والقانونية: قمة السلطة القضائية

تستمد محكمة النقض مكانتها السامية من الدستور والقوانين التنظيمية التي تضعها على قمة الهرم القضائي المغربي. يمتد نفوذها القضائي ليشمل جميع تراب المملكة، ويتخذ من العاصمة الإدارية، الرباط، مقراً له.7

ينص الفصل 107 من دستور 2011 بشكل صريح على أن "السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية"، ويضيف أن "الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية".2 هذا المبدأ الدستوري هو الأساس الذي تقوم عليه شرعية ومكانة محكمة النقض. فبصفتها أعلى هيئة قضائية، فإنها تجسيد عملي لهذا الاستقلال.

تتضح هذه المكانة أيضاً من خلال علاقتها المؤسسية بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهو الهيئة الدستورية المكلفة بالسهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة وتدبير وضعيتهم المهنية.2 فالرئيس الأول لمحكمة النقض هو، بحكم منصبه، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.8 هذه الازدواجية في المهام تخلق جسراً مؤسسياً بين قمة العمل القضائي (محكمة النقض) وقمة الإدارة القضائية (المجلس الأعلى للسلطة القضائية)، مما يضمن التنسيق وتوحيد الرؤى حول السياسة القضائية للمملكة.

1.3. المهمة الأساسية: توحيد القانون وتكريس الأمن القضائي

تتمثل المهمة الجوهرية لمحكمة النقض في كونها "محكمة قانون" لا "محكمة موضوع". هذا المبدأ الأساسي يعني أن دورها لا يتمثل في إعادة فحص وقائع النزاع أو تقييم الأدلة من جديد، فهذه مهمة تقع على عاتق محاكم الموضوع (المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف). بل ينحصر دورها في مراقبة مدى احترام هذه المحاكم للقانون وتطبيقه تطبيقاً سليماً، سواء تعلق الأمر بالقواعد الإجرائية (الشكلية) التي تحكم سير الدعوى، أو بالقواعد الموضوعية التي تحكم جوهر النزاع.8

من خلال ممارسة هذه الرقابة، تحقق محكمة النقض هدفاً استراتيجياً أسمى، وهو "توحيد الاجتهاد القضائي".8 فمن خلال قراراتها، ترسي المحكمة مبادئ وتفسيرات قانونية موحدة تلتزم بها جميع محاكم المملكة. هذا التوحيد يمنع تضارب الأحكام في قضايا متشابهة، ويضمن للمتقاضين توقعاً معقولاً لمآل قضاياهم، مما يعزز الثقة في النظام القضائي ويكرس مبدأ "الأمن القضائي" الذي يعد ركيزة أساسية لدولة الحق والقانون.

إضافة إلى ذلك، تلعب محكمة النقض دوراً هاماً في "تكريس حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالمياً".8 فمن خلال تفسيرها للقوانين الوطنية على ضوء الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب، تساهم المحكمة في مواءمة المنظومة القانونية الوطنية مع المعايير الدولية، وهو ما سيتم تفصيله لاحقاً عند تحليل اجتهاداتها.

الجزء الثاني: الهيكلة والتنظيم الإداري

تستند محكمة النقض في أداء مهامها الجسيمة على بنية تنظيمية محكمة تجمع بين هيئة قضائية ذات خبرة عالية، وغرف متخصصة تضمن دقة الفصل في القضايا، وأجهزة إدارية داعمة تسهر على حسن سير العمل، مع تبني متزايد للتحول الرقمي لتعزيز الفعالية والشفافية.

2.1. الهيئة القضائية: قضاة القانون

تتألف الهيئة القضائية لمحكمة النقض من قضاة حكم وقضاة نيابة عامة يتميزون بالخبرة والكفاءة العالية.

  • الرئيس الأول: يتربع الرئيس الأول على قمة الهرم الإداري والقضائي للمحكمة. وتتجاوز مهامه مجرد رئاسة الجلسات، فهو يمارس اختصاصات واسعة تشمل الإشراف الإداري على جميع قضاة وموظفي المحكمة، والسهر على حسن سير العمل وتوزيع القضايا.8 كما يترأس "مكتب المحكمة"، وهو جهاز محوري في التنظيم الداخلي للمحكمة. بالإضافة إلى ذلك، يضطلع الرئيس الأول بمهام دستورية رفيعة، فهو الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وعضو في مجلس الوصاية.8 ويشغل هذا المنصب حالياً السيد محمد عبد النباوي.7

  • الوكيل العام للملك: يمثل النيابة العامة لدى محكمة النقض، ويعتبر طرفاً أصلياً في جميع القضايا المعروضة على المحكمة، حيث يقدم مستنتجاته الكتابية والشفوية التي تهدف إلى بيان الرأي القانوني السليم لمصلحة المجتمع وتطبيق القانون.13 يساعده في مهامه المحامي العام الأول والمحامون العامون، وهو عضو أساسي في مكتب المحكمة.16

  • المستشارون (القضاة): هم قضاة الحكم الذين يتولون دراسة الملفات والفصل في الطعون. يتم اختيارهم من بين القضاة ذوي الدرجات العليا والخبرة المتميزة، ويتم تعيينهم من قبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية.11 تعمل محكمة النقض بنظام القضاء الجماعي، حيث تصدر القرارات عن هيئات تتألف عادة من خمسة مستشارين، مما يضمن عمق المداولات وجودة القرارات القضائية.3

2.2. الغرف المتخصصة: تقسيم العمل القضائي

لضمان التخصص والدقة في معالجة القضايا، تنقسم محكمة النقض إلى عدة غرف، لكل منها مجال اختصاصها.

  • الغرف الست التقليدية: تتألف المحكمة تاريخياً من ست غرف رئيسية، ويمكن تقسيم كل غرفة إلى هيئات أو أقسام حسب حجم العمل.13 هذه الغرف هي:

    1. الغرفة المدنية (وتسمى الغرفة الأولى)

    2. غرفة الأحوال الشخصية والميراث

    3. الغرفة التجارية

    4. الغرفة الإدارية

    5. الغرفة الاجتماعية (نزاعات الشغل والأمراض المهنية)

    6. الغرفة الجنائية

      3

  • إحداث الغرفة العقارية: استجابة لضرورة ملحة:

    شكل إحداث غرفة عقارية متخصصة تطوراً هيكلياً هاماً. قبل هذا الإحداث، كانت القضايا العقارية، التي تتميز بتعقيدها وتشعب قوانينها، توزع على غرف مختلفة مثل الغرفة المدنية أو حتى التجارية، مما كان يؤدي حتماً إلى "عدم توحيد الاجتهادات" في هذا المجال الحيوي الذي يمس الملكية الخاصة والاستقرار الاجتماعي.15 لقد كان هذا الوضع يتناقض مع المهمة الأساسية للمحكمة المتمثلة في توحيد القانون. لذلك، لم يكن إنشاء غرفة عقارية مجرد إعادة ترتيب إداري، بل كان إصلاحاً هيكلياً ضرورياً فرضته الحاجة إلى تحقيق مبدأ القضاء المتخصص على مستوى قمة الهرم القضائي، وضمان إصدار قرارات منسجمة ومتسقة في المادة العقارية، وبالتالي تعزيز الأمن القانوني في واحد من أكثر القطاعات حساسية.15

  • آليات العمل المعززة:

    في بعض الحالات التي تتطلب مداولات أوسع أو تهدف إلى حسم خلاف في الاجتهاد، يتم اللجوء إلى تشكيلات قضائية موسعة. فإذا تم نقض قرار صادر عن محكمة الإحالة، فإن الطعن الثاني يُعرض على هيئة مكونة من "غرفتين مجتمعتين".3 وفي الحالات التي يظهر فيها وجود اجتهادات متعارضة بين غرف المحكمة في نقطة قانونية معينة، يمكن إحالة القضية للبت فيها من قبل "جميع الغرف مجتمعة في جلسة عامة" بهدف توحيد الاجتهاد وإصدار قرار مبدئي ينهي الخلاف.3

2.3. الأجهزة الإدارية والخدمات الرقمية

إلى جانب الهيكل القضائي، تتوفر المحكمة على أجهزة إدارية حديثة وخدمات رقمية متطورة.

  • مكتب المحكمة والجمعية العامة: يُعد "مكتب المحكمة"، الذي يرأسه الرئيس الأول ويضم في عضويته الوكيل العام للملك ورؤساء الغرف وأقدم المستشارين وأصغرهم سناً، جهازاً محورياً في التنظيم الداخلي. يتولى المكتب مهاماً أساسية مثل توزيع القضايا على الغرف، وتحديد عدد الجلسات وأيام انعقادها.8 أما "الجمعية العامة"، التي تنعقد سنوياً، فتتولى إقرار برنامج تنظيم العمل بالمحكمة.19

  • كتابة الضبط: تلعب كتابة الضبط دوراً حيوياً في الإجراءات المسطرية، من خلال تسجيل الطعون، وتلقي المذكرات، وتبليغ الأطراف، وحفظ أصول القرارات وأرشيف المحكمة.18

  • التحول الرقمي والخدمات الإلكترونية:

    انخرطت محكمة النقض بقوة في استراتيجية التحول الرقمي، إيماناً منها بأن التكنولوجيا هي الأداة المثلى لتعزيز الشفافية وتسهيل ولوج المتقاضين والمهنيين إلى العدالة والمعلومة القضائية، تجسيداً لشعار "القضاء في خدمة المواطن".20 وتشكل البوابة الإلكترونية للمحكمة واجهة لهذه الخدمات.22 إن توفير خدمات متطورة مثل قاعدة بيانات ضخمة تضم أكثر من 180 ألف قرار قضائي 23، لا يعكس مجرد تحديث تقني، بل هو تحول استراتيجي من مؤسسة كانت تعتبر تقليدياً مغلقة، إلى مؤسسة منفتحة تسعى للتواصل الفعال مع محيطها. وتشمل أبرز الخدمات الإلكترونية ما يلي:

    • تتبع مآل الملفات: خدمة تمكن الأطراف من تتبع مسار قضاياهم عن بعد، سواء باستخدام رقم ملف محكمة النقض أو بمراجع الملف الأصلي المطعون فيه.22

    • الاطلاع على جداول الجلسات: توفير جداول الجلسات لجميع الهيئات القضائية إلكترونياً.22

    • قاعدة بيانات الاجتهادات القضائية: إتاحة محرك بحث قوي للولوج إلى آلاف القرارات الصادرة عن المحكمة، مما يسهل على الباحثين والمهنيين الاطلاع على أحدث التوجهات القضائية.17

    • المكتبة الرقمية: توفير ولوج إلى مكتبة رقمية تضم منشورات ودراسات قانونية.17

    • الشكايات الإلكترونية: تمكين المواطنين من تقديم شكاياتهم عبر منصة إلكترونية.17

  • العنوان والمقر: يقع المقر التاريخي لمحكمة النقض في حي الرياض بمدينة الرباط.7 وقد أشارت بعض المصادر إلى انتقال مؤقت للمحكمة إلى المقر السابق لمحكمة الاستئناف بشارع النخيل، بسبب أشغال هدم وبناء في المقر الأصلي.25 أما العنوان البريدي الرسمي فهو صندوق بريد 1015، الرباط، المغرب.1

الجزء الثالث: الاختصاصات القضائية: محكمة قانون بامتياز

تتوزع اختصاصات محكمة النقض بين دورها الأصيل والأساسي كمحكمة قانون تنظر في الطعون بالنقض، وبين اختصاصات استثنائية وخاصة تضطلع فيها أحياناً بدور محكمة الموضوع، مما يجعلها الحارس النهائي لسيادة القانون في مختلف جوانب النظام القضائي.

3.1. الاختصاص الأصيل: الطعون بالنقض

يشكل النظر في الطعون بالنقض جوهر عمل محكمة النقض ومبرر وجودها.

  • نطاق الطعن: تختص المحكمة بالنظر في "طلبات النقض المرفوعة ضد الأحكام الاستئنافية والأحكام النهائية التي تصدرها محاكم الاستئناف وغيرها من المحاكم على اختلاف درجاتها".8 يشمل هذا الاختصاص الأحكام الصادرة عن محاكم الاستئناف العادية، والتجارية، والإدارية، مما يجعلها محكمة النقض الوحيدة لجميع فروع القضاء (العادي والمتخصص).3

  • الرقابة على الشرعية: كما تم توضيحه سابقاً، فإن هذه الرقابة هي "رقابة شرعية" وليست "رقابة ملاءمة". فالمحكمة لا تعيد تقييم الوقائع أو تقدير الأدلة، بل تقتصر على التحقق من أن محكمة الموضوع قد طبقت القانون تطبيقاً سليماً ولم تخرق قاعدة قانونية، سواء كانت شكلية أو موضوعية.8

3.2. الاختصاصات الاستثنائية والخاصة: توسيع دائرة الرقابة

إلى جانب اختصاصها الأصيل، أسند المشرع لمحكمة النقض مجموعة من الاختصاصات الخاصة التي تجعل منها حكماً في نزاعات حساسة ومفصلية، وتضطلع في بعضها بدور محكمة الموضوع. إن هذا الدور المزدوج، كمحكمة قانون في الأصل ومحكمة موضوع في الاستثناء، ليس تناقضاً، بل هو تصميم تشريعي براغماتي يهدف إلى سد أي فراغ قضائي محتمل وضمان وجود جهة قضائية عليا للبت في أي نوع من النزاعات، خاصة تلك التي تطال أعلى سلطات الدولة أو تمس بسلامة النظام القضائي نفسه.

  • دعاوى الإلغاء بسبب الشطط في استعمال السلطة: تختص محكمة النقض (من خلال غرفتها الإدارية) ابتدائياً وانتهائياً بالبت في طلبات إلغاء المقررات التنظيمية والفردية الصادرة عن رئيس الحكومة.3 كما تنظر في الطعون بالإلغاء ضد قرارات السلطات الإدارية التي يتعدى نطاق تنفيذها دائرة الاختصاص المحلي لمحكمة إدارية واحدة.8 في هذه الحالات، تعمل محكمة النقض "كمحكمة موضوع"، حيث لا توجد محكمة أدنى درجة قامت بفحص الوقائع، مما يضطرها للقيام بذلك بنفسها.12

  • الطعون في تجاوز القضاة لسلطاتهم: تختص بالنظر في الطعون ضد التصرفات التي يتجاوز فيها القضاة نطاق ولايتهم القضائية، وهو اختصاص يهدف إلى حماية المتقاضين من أي تعسف محتمل.3

  • تنازع الاختصاص: تبت المحكمة في حالات تنازع الاختصاص (سواء كان إيجابياً أو سلبياً) التي تنشأ بين محاكم لا توجد فوقها أي محكمة عليا مشتركة غيرها. هذا الدور يجعلها المنظم النهائي للاختصاص داخل النظام القضائي المغربي.3

  • مخاصمة القضاة والمحاكم: تنظر في دعاوى المخاصمة الموجهة ضد قضاة محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية، وهي مسطرة استثنائية تهدف إلى مساءلة القضاة عن الأخطاء المهنية الجسيمة كالإنكار للعدالة أو الغش أو التدليس.3

  • الإحالة من أجل التشكك المشروع: يمكن للمحكمة أن تأمر بنقل الدعوى من محكمة إلى أخرى إذا قامت أسباب جدية تبعث على الشك في نزاهة وحياد هيئة الحكم.3

  • الإحالة من أجل الأمن العام: تختص بسحب الدعوى من محكمة وإحالتها إلى محكمة أخرى من نفس الدرجة إذا كانت هناك ضرورات قصوى تتعلق بحفظ الأمن العام.3

  • مراجعة الأحكام الجنائية: تنظر محكمة النقض في طلبات مراجعة الأحكام الجنائية التي حازت قوة الشيء المقضي به، وذلك في حالات محددة على سبيل الحصر تهدف إلى إصلاح خطأ قضائي فادح (مثل ظهور وقائع جديدة أو أدلة تثبت براءة المحكوم عليه). وفي هذه الحالة أيضاً، تبت المحكمة "كمحكمة موضوع".3

  • طلبات تسليم المجرمين للخارج: تختص الغرفة الجنائية بالبت في طلبات تسليم المجرمين التي تتقدم بها الدول الأجنبية إلى السلطات المغربية، وذلك للتحقق من مدى استيفائها للشروط القانونية المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية والقانون الوطني.8

إن هذه المجموعة الواسعة من الاختصاصات الخاصة ترفع مكانة محكمة النقض من مجرد محكمة استئناف عليا إلى كونها الضامن الأسمى لسيادة القانون، والحارس على سلامة أداء النظام القضائي، والرقيب النهائي على شرعية أعمال السلطتين القضائية والتنفيذية.

جدول 2: ملخص اختصاصات محكمة النقض المغربية

نوع الاختصاص

الأساس القانوني (أمثلة)

وصف الاختصاص

دور المحكمة (قانون أم موضوع)

الطعن بالنقض

قانون المسطرة المدنية والجنائية

مراقبة شرعية الأحكام الانتهائية الصادرة عن محاكم الموضوع.

محكمة قانون

الإلغاء للشطط في استعمال السلطة

قانون 90-41 المحدث للمحاكم الإدارية

النظر في الطعون ضد المقررات التنظيمية والفردية لرئيس الحكومة.

محكمة موضوع

تنازع الاختصاص

الفصل 353 من ق.م.م، المادة 552 من ق.م.ج

البت في تنازع الاختصاص بين محاكم لا تخضع لأي محكمة عليا مشتركة.

محكمة قانون (لتعيين المحكمة المختصة)

المراجعة الجنائية

قانون المسطرة الجنائية

إصلاح خطأ قضائي في حكم جنائي نهائي حاز قوة الشيء المقضي به.

محكمة موضوع

مخاصمة القضاة

قانون المسطرة المدنية

النظر في دعاوى المسؤولية ضد قضاة محاكم الموضوع بسبب خطأ مهني جسيم.

محكمة موضوع

تسليم المجرمين

قانون المسطرة الجنائية والاتفاقيات الدولية

البت في طلبات التسليم التي تتقدم بها الدول الأجنبية.

محكمة قانون (للتحقق من الشروط القانونية)

الجزء الرابع: مسطرة الطعن بالنقض: الطريق إلى قمة الهرم القضائي

إن الوصول إلى محكمة النقض محكوم بمسطرة دقيقة وصارمة، تهدف إلى ضمان جدية الطعون وحصر نظر المحكمة في القضايا التي تثير مسائل قانونية حقيقية. هذه الصرامة الإجرائية ليست عقبة بيروقراطية، بل هي آلية ترشيح ضرورية للحفاظ على الدور الأساسي للمحكمة. فمن خلال فرض شروط دقيقة (آجال محددة، تمثيل إلزامي بمحام مقبول، أسباب حصرية للطعن)، يتم تصفية الطعون التي تستند فقط إلى إعادة مناقشة الوقائع، مما يسمح للمحكمة بتكريس مواردها المحدودة لمهمتها الأسمى: توحيد تفسير القانون.

4.1. شروط قبول الطعن: الصفة، المصلحة، والأحكام القابلة للطعن

لا يُقبل الطعن بالنقض إلا إذا استوفى مجموعة من الشروط الشكلية والموضوعية.

  • الصفة والمصلحة: لا يقبل طلب النقض إلا ممن كان طرفاً في الدعوى وتضرر من الحكم المطعون فيه.18 كما يمكن للنيابة العامة أن تطعن بالنقض لمصلحة القانون والمجتمع، حتى ولو لم تكن طرفاً أصلياً في بعض الدعاوى.18

  • الأحكام القابلة للطعن: المبدأ العام هو أن الطعن بالنقض لا يوجه إلا ضد الأحكام "الانتهائية"، أي تلك التي استنفدت طرق الطعن العادية (التعرض والاستئناف) أو التي لا تقبلها أصلاً. ولا يمكن الطعن بالنقض في الأحكام التمهيدية أو الإعدادية (مثل الحكم بإجراء خبرة) بشكل مستقل، بل يجب انتظار صدور الحكم النهائي في جوهر النزاع والطعن فيهما معاً.18 وقد استثنى المشرع صراحة بعض المقررات من الطعن بالنقض، مثل الأحكام الصادرة عن أقسام قضاء القرب.27

  • الآجال: تختلف آجال الطعن بالنقض باختلاف المواد. ففي المادة الجنائية، الأجل هو عشرة (10) أيام من تاريخ صدور المقرر.18 وفي المادة المدنية والتجارية والإدارية، الأجل هو ثلاثون (30) يوماً من تاريخ تبليغ الحكم المطعون فيه. ويجب احترام هذه الآجال بدقة تحت طائلة سقوط الحق في الطعن. وقد حدد القانون حالات خاصة يبدأ فيها سريان الأجل من تاريخ التبليغ الشخصي حتى في المادة الجنائية، كحالة صدور الحكم في غيبة الطرف الذي لم يكن ممثلاً.18

  • الضمانة المالية (الكفالة): يجب على طالب النقض (باستثناء النيابة العامة والإدارات العمومية والمستفيدين من المساعدة القضائية) أن يودع مبلغاً مالياً كضمانة (ألف درهم في القضايا الجنائية مثلاً) بكتابة ضبط المحكمة التي أصدرت الحكم، وذلك تحت طائلة عدم قبول الطلب. يهدف هذا الإجراء إلى الحد من الطعون الكيدية والتعسفية.18

4.2. أسباب الطعن بالنقض: مفاتيح قبول الدعوى

لا يمكن الطعن بالنقض لأي سبب كان، بل حصر المشرع أسباب الطعن في خمس حالات وردت في الفصل 359 من قانون المسطرة المدنية والمادة 534 من قانون المسطرة الجنائية، وهي 13:

  1. خرق الإجراءات الجوهرية للمسطرة: ويقصد به إغفال أو مخالفة إجراء جوهري يمس بحقوق الدفاع أو بسلامة الحكم، كعدم احترام مبدأ الحضورية أو عدم استدعاء الأطراف بشكل قانوني.

  2. الشطط في استعمال السلطة: ويتحقق عندما يتجاوز القاضي حدود ولايته القضائية ويتعدى على اختصاصات سلطة أخرى.

  3. عدم الاختصاص: سواء كان نوعياً أو قيمياً أو محلياً.

  4. الخرق الجوهري للقانون: وهو السبب الأكثر شيوعاً، ويتمثل في التطبيق الخاطئ لقاعدة قانونية موضوعية على وقائع الدعوى، أو تفسيرها بشكل منحرف.

  5. انعدام الأساس القانوني أو انعدام التعليل: وهذا السبب يعتبر أداة قوية لفرض رقابة على جودة الأحكام القضائية. فـ"انعدام التعليل" لا يعني فقط الغياب التام للأسباب، بل يشمل أيضاً الحالات التي يكون فيها التعليل ناقصاً (لم يرد على دفع جوهري)، أو غامضاً، أو متناقضاً بين أسبابه ومنطوقه، أو فاسداً.28 إن الفساد في الاستدلال، كأحد مظاهر انعدام التعليل، يتحقق عندما يبني القاضي حكمه على واقعة لا وجود لها في الملف، أو يستخلص نتيجة غير منطقية من الأدلة المعروضة عليه.28 إن فرض هذه الرقابة على التعليل يجبر قضاة الموضوع على "إظهار عملهم" وتبرير قراراتهم بشكل منطقي وقانوني، مما يمنع الأحكام التعسفية ويعزز الشفافية القضائية وحق المتقاضي في محاكمة عادلة.

4.3. الإجراءات المسطرية: من التصريح إلى القرار

تتبع مسطرة النقض خطوات إجرائية دقيقة:

  • التصريح بالنقض: تبدأ المسطرة بتقديم تصريح بالرغبة في الطعن بالنقض لدى كتابة ضبط المحكمة التي أصدرت الحكم المطعون فيه. يمكن أن يقدمه الطرف شخصياً أو بواسطة محاميه.18

  • مذكرة الطعن: بعد التصريح، يجب على طالب النقض أن يودع، بواسطة محامٍ مقبول للترافع أمام محكمة النقض، مذكرة مفصلة تتضمن وسائل وأسباب الطعن. ويجب إيداع هذه المذكرة خلال أجل محدد (60 يوماً في المادة الجنائية مثلاً).18

  • مسار الملف داخل المحكمة: بعد إيداع المذكرة، يتم إرسال الملف كاملاً إلى محكمة النقض. وهناك، يعين رئيس الغرفة المختصة مستشاراً مقرراً يتولى تسيير الإجراءات. يأمر المستشار المقرر بتبليغ مذكرة الطعن إلى الأطراف الأخرى لتقديم مذكرات جوابية، ثم يعد تقريراً كتابياً يلخص فيه وقائع القضية والمسائل القانونية المثارة. بعد ذلك، يحال الملف على النيابة العامة لتقديم مستنتجاتها الكتابية، ثم تقيد القضية في جدول الجلسات.18

  • آثار الطعن: كقاعدة عامة، الطعن بالنقض لا يوقف تنفيذ الحكم المطعون فيه، خاصة في الجانب المدني (التعويضات). لكن هناك استثناءات هامة، أبرزها أن الطعن بالنقض يوقف تنفيذ العقوبة في القضايا الجنائية (باستثناء بعض الحالات).18

4.4. مآل الطعن: قرارات محكمة النقض

بعد المداولة، تصدر محكمة النقض قرارها الذي يمكن أن يتخذ أحد الأشكال التالية:

  • رفض الطلب: إذا اعتبرت المحكمة أن أسباب الطعن غير قائمة على أساس، فإنها ترفض الطلب ويصبح الحكم المطعون فيه نهائياً وباتاً.

  • النقض والإحالة: وهو القرار الأكثر شيوعاً في حالة قبول الطعن. تقوم المحكمة بإبطال (نقض) المقرر المطعون فيه، كلياً أو جزئياً، وتحيل القضية والأطراف إلى نفس المحكمة التي أصدرته (مشكلة من هيئة قضاة أخرى) أو إلى محكمة أخرى من نفس الدرجة للبت فيها من جديد على ضوء التوجيه القانوني الصادر عن محكمة النقض. وتكون محكمة الإحالة ملزمة بالتقيد بالنقطة القانونية التي بتت فيها محكمة النقض.18

  • النقض بدون إحالة: في حالات استثنائية، يمكن للمحكمة أن تنقض الحكم دون أن تحيل القضية على أي محكمة أخرى. يحدث هذا عندما يكون النقض لسبب لم يترك في جوهر النزاع أي شيء يمكن البت فيه (مثلاً، نقض الحكم لعدم الاختصاص مع بيان المحكمة المختصة).18

الجزء الخامس: تحليل الاجتهاد القضائي: محكمة النقض كقوة دافعة للتطور القانوني

لا يكمن جوهر دور محكمة النقض في مجرد تطبيق آلي للقانون، بل في تفسيره وتطويره من خلال اجتهاداتها القضائية. هذا الجزء يغوص في تحليل قرارات المحكمة في مجالات حيوية، ليكشف عن التوجهات الفكرية التي تحكم عملها، والتحديات التي تواجهها، وكيف توازن بين متطلبات النص القانوني وضرورات العدالة والواقع الاجتماعي.

5.1. الاجتهاد القضائي في مدونة الأسرة: بين النص والمصلحة الفضلى للطفل

تعتبر قضايا الأسرة من أكثر المجالات التي يظهر فيها التوتر بين النص القانوني، المستمد في جزء كبير منه من الفقه الإسلامي، وبين التزامات المغرب الدولية وتطور القيم الاجتماعية. وتكشف اجتهادات محكمة النقض في هذا المجال عن حدود التفسير القضائي في مجتمع يوازن بين الحداثة والتقاليد.

  • إشكالية ثبوت النسب للأب خارج إطار الزواج:

    تُعد هذه المسألة من أكثر القضايا إثارة للجدل، حيث تبنت محكمة النقض موقفاً متشدداً يتمسك بحرفية النص القانوني. ففي قرار مبدئي شهير، أيدت المحكمة قراراً استئنافياً رفض إلحاق طفلة مولودة خارج إطار الزواج بأبيها البيولوجي، رغم إثبات البنوة عن طريق الخبرة الجينية.31 استندت المحكمة في قرارها إلى حجج رئيسية:

    1. التمسك بالنص الداخلي: اعتبرت أن المادة 148 من مدونة الأسرة صريحة في أن "البنوة غير الشرعية لا يترتب عليها بالنسبة للأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية".

    2. تفسير دستوري محافظ: استندت إلى الفصل 32 من الدستور الذي ينص على أن "الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع"، معتبرة أن هذا المبدأ يعلو على أي تفسير آخر.

    3. تفسير مقيد لسمو الاتفاقيات الدولية: رأت المحكمة أن مبدأ سمو الاتفاقيات الدولية (مثل اتفاقية حقوق الطفل) على القانون الداخلي، المنصوص عليه في ديباجة الدستور، مشروط بضرورة قيام المشرع أولاً بملاءمة التشريعات الوطنية مع هذه الاتفاقيات. وبهذا، وضعت المحكمة الكرة في ملعب السلطة التشريعية، معتبرة أن دور القاضي هو تطبيق القانون الداخلي النافذ وليس تجاوزه مباشرة باسم الاتفاقيات الدولية.31

      إن هذا القرار لا يعكس مجرد تفسير قانوني، بل هو فعل قضائي ذو دلالات اجتماعية وقانونية عميقة. فهو يكشف عن وجود خطوط حمراء تفرضها المحكمة على نفسها، وتحديداً في القضايا ذات الحساسية الدينية والاجتماعية العالية، حيث تفضل التمسك بالنص الصريح وتترك مهمة التغيير الجذري للمشرع. هذا الموقف، وإن كان يضمن استقرار التفسير القانوني، إلا أنه يطرح تساؤلات حول مدى حماية المصلحة الفضلى للطفل التي تنادي بها الاتفاقيات الدولية وتوصيات هيئات حقوق الإنسان الوطنية.31

  • الحضانة والولاية والسفر بالمحضون:

    على النقيض من موقفها في قضية النسب، تتبنى محكمة النقض في قضايا الحضانة والولاية نهجاً أكثر مرونة يركز بشكل واضح على "المصلحة الفضلى للمحضون". ففي اجتهادات مستقرة، رفضت المحكمة إسقاط حضانة الأم لمجرد زواجها من أجنبي، معتبرة أن زواج الحاضنة لا يسقط الحضانة تلقائياً ما لم يثبت أن هذا الزواج يلحق ضرراً فعلياً بالمحضون.32 وفيما يتعلق بطلبات السفر بالمحضون إلى الخارج، توازن المحكمة بحذر بين حق الحاضنة في السفر وحق الولي في ممارسة صلة الرحم، مشترطةً تقديم ضمانات كافية لعودة المحضون إلى أرض الوطن وأن يكون السفر ذا طابع عرضي ومؤقت.32 هذا النهج يوضح قدرة المحكمة على تفعيل سلطتها التقديرية وتغليب مصلحة الطفل على التطبيق الحرفي لبعض القواعد الفقهية التقليدية.

جدول 3: تحليل مقارن للاجتهاد القضائي في قضايا أسرة رئيسية

الإشكالية

النص القانوني المرجعي

توجه الاجتهاد القضائي

المبادئ الأساسية والتعليل

بنوة الطفل المولود خارج الزواج

المادة 148 من مدونة الأسرة، الفصل 32 من الدستور

رفض إلحاق النسب بالأب البيولوجي، مع حصر آثار البنوة في علاقة الطفل بأمه.

التمسك بحرفية النص القانوني الداخلي؛ اعتبار أن الأسرة الشرعية هي أساس المجتمع؛ تفسير سمو الاتفاقيات الدولية بأنه يتطلب ملاءمة تشريعية مسبقة.31

حضانة الأم المتزوجة

المادة 175 من مدونة الأسرة

عدم إسقاط الحضانة تلقائياً بزواج الأم، وإعطاء الأولوية للمصلحة الفضلى للمحضون.

تغليب مصلحة الطفل على القواعد الفقهية التقليدية؛ البحث عن الضرر الفعلي للمحضون قبل إسقاط الحضانة.32

السفر بالمحضون

المادة 178 من مدونة الأسرة

اشتراط موافقة النائب الشرعي، مع إمكانية لجوء الحاضنة للقضاء الاستعجالي للحصول على إذن عرضي.

الموازنة بين حق الحاضنة في السفر وحق الولي في الزيارة وصلة الرحم؛ اشتراط ضمانات لعودة المحضون.32

5.2. الاجتهاد القضائي في المادة التجارية: ضمان استقرار المعاملات

في المادة التجارية، يميل اجتهاد محكمة النقض إلى أن يكون أكثر تقنية، ويهدف بالأساس إلى ضمان سرعة المعاملات واستقرارها وحماية الثقة بين المتعاملين.

  • الأوراق التجارية (الكمبيالة والشيك): كرست المحكمة مجموعة من المبادئ الهامة، موازنة بين الطابع الصرفي للورقة التجارية وحماية الحامل حسن النية من جهة، وضرورة وجود سبب مشروع للالتزام في العلاقة الأصلية من جهة أخرى.34 فمن ناحية، تؤكد المحكمة على قاعدة "تطهير الدفوع"، التي تمنع المدين من التمسك في مواجهة الحامل حسن النية بالدفوع التي كان يمكنه إثارتها ضد الساحب الأصلي. ومن ناحية أخرى، أقرت المحكمة بأن الكمبيالة التي ينقصها بيان إلزامي، كتاريخ الإنشاء أو اسم المستفيد، تفقد صفتها كورقة تجارية ولا تخضع للقانون الصرفي.34 كما استقر اجتهادها على أن التوقيع بالبصمة لا يكفي لإنشاء التزام صرفي، بل لا بد من الإمضاء الكتابي.5

  • مسؤولية البنك وحماية الاسم التجاري: أصدرت المحكمة قرارات هامة في مجال مسؤولية البنك، حيث اعتبرت أن قفل الاعتماد البنكي بشكل مفاجئ ودون مبرر مشروع يرتب مسؤولية البنك عن الأضرار التي تلحق بالزبون.35 كما وفرت حماية قوية للاسم التجاري والعلامة التجارية، معتبرة أن استعمال شريك سابق لنفس الاسم التجاري بشكل يحدث التباساً لدى الجمهور يشكل منافسة غير مشروعة تستوجب التعويض.36

5.3. ترسيخ المبادئ الإجرائية: ضمانات المحاكمة العادلة

تولي محكمة النقض أهمية قصوى لسلامة الإجراءات، وتعتبر أن احترامها هو الضمانة الأساسية للوصول إلى حكم عادل. ويتجلى هذا التوجه بوضوح في اجتهاداتها المتعلقة بالخبرة القضائية.

  • الخبرة القضائية: إن القرارات المتواترة التي تنقض أحكاماً بسبب عيوب في مسطرة الخبرة لا تهدف فقط إلى تصحيح أخطاء فردية، بل هي بمثابة رسالة نظامية موجهة إلى جميع قضاة الموضوع والخبراء للتأكيد على الطابع الإلزامي للقواعد الإجرائية. فالمحكمة تشدد باستمرار على بطلان أي خبرة تنجز دون استدعاء الأطراف بشكل قانوني لضمان مبدأ "الحضورية" و"التواجهية".5 كما توضح أن تقرير الخبرة لا يلزم المحكمة إلا في الجوانب التقنية البحتة، ويبقى للقاضي كامل السلطة في تقدير قيمته الثبوتية وعدم الأخذ به إذا خالف القانون.37 إن هذا الموقف الصارم من القواعد الإجرائية هو آلية فعالة تستخدمها محكمة النقض لـ"تأديب" النظام القضائي الأدنى درجة، وفرض معايير جودة موحدة، مما يرفع من مستوى العدالة المقدمة للمتقاضين في جميع أنحاء المملكة.

الجزء السادس: الشفافية والتواصل المؤسساتي

في عصر تتزايد فيه المطالبة بالشفافية والمساءلة، تدرك محكمة النقض أهمية التواصل المؤسساتي الفعال لنشر اجتهاداتها، وشرح أنشطتها، وتعزيز ثقة المواطنين في القضاء. وتعتمد في ذلك على أدوات تقليدية وحديثة.

6.1. المنشورات الرسمية: نافذة على الاجتهاد القضائي

تعتبر المنشورات الورقية والرقمية الأداة الرئيسية التي تستخدمها المحكمة لنشر قراراتها وتوجهاتها بين الفاعلين القانونيين.

  • المجلات والنشرات الدورية: تصدر المحكمة بشكل دوري "مجلة قضاء محكمة النقض"، التي حلت محل مجلة "قضاء المجلس الأعلى" التاريخية. كما تصدر نشرات متخصصة لقرارات كل غرفة على حدة، مثل "نشرة قرارات الغرفة المدنية" أو "نشرة قرارات غرفة الأحوال الشخصية والميراث".38 تشكل هذه المطبوعات مرجعاً أساسياً للقضاة والمحامين والباحثين للاطلاع على أحدث الاجتهادات المبدئية.

  • قواعد البيانات الرقمية: إلى جانب المنشورات الورقية، أصبح الوصول إلى الاجتهاد القضائي متاحاً بشكل واسع عبر قواعد البيانات الرقمية، سواء تلك التي توفرها المحكمة على بوابتها الرسمية، أو من خلال مبادرات خاصة تهدف إلى رقمنة وتعميم المقررات القضائية، والتي تضم أحياناً مئات الآلاف من القرارات.23

6.2. التقرير السنوي: حصيلة وأنشطة

يعد التقرير السنوي الذي يصدر بمناسبة افتتاح السنة القضائية حدثاً مؤسساتياً بارزاً وأداة استراتيجية للتواصل. فهو ليس مجرد عرض إحصائي، بل هو مناسبة تقدم فيها السلطة القضائية، وعلى رأسها محكمة النقض، حصيلة عملها السنوي، وتستعرض أهم المنجزات والعراقيل، وتبرز القرارات المبدئية التي تعتبرها ذات أهمية خاصة.39

إن هذا التقرير هو أداة تواصل استراتيجي، فمن خلال اختيار القرارات التي يتم تسليط الضوء عليها، وطريقة عرض الإحصائيات، توجه المحكمة رسائل حول أولوياتها وتحدياتها إلى باقي سلطات الدولة والمجتمع المدني. كما أنه يمثل آلية للمساءلة المجتمعية، حيث يمكن للمهتمين تقييم أداء المرفق القضائي بناء على البيانات والمعلومات الواردة فيه.40

وتشمل محتويات التقرير السنوي عادةً الأقسام التالية:

  • افتتاح السنة القضائية: ويتضمن الكلمات الرسمية التي تلقى في هذه المناسبة.

  • العمل القضائي: عرض لأهم القرارات المبدئية الصادرة عن كل غرفة من غرف المحكمة، مع تعليلاتها.41

  • الأنشطة المؤسساتية: استعراض للأنشطة العلمية والثقافية التي نظمتها المحكمة أو شاركت فيها، كالندوات الدولية واللقاءات الدراسية.41

  • الأداء القضائي بالأرقام: تقديم بيانات إحصائية مفصلة حول حركة القضايا (عدد الملفات المسجلة، المحكومة، المخلفة، إلخ).40

  • إصدارات المحكمة: قائمة بالمنشورات الجديدة التي أصدرتها المحكمة خلال السنة.41

خاتمة وتوصيات

في ختام هذه الدراسة الشاملة، يتضح أن محكمة النقض المغربية ليست مجرد محكمة عليا، بل هي مؤسسة دستورية حيوية تقع في قلب منظومة العدالة ودولة الحق والقانون. لقد تتبع هذا التقرير مسار تطورها من "المجلس الأعلى" الذي تأسس في فجر الاستقلال إلى "محكمة النقض" التي كرسها دستور 2011 كسلطة قضائية مستقلة، وهو تحول يعكس نضجاً مؤسسياً عميقاً.

7.1. خلاصة تركيبية

لقد أظهر التحليل أن محكمة النقض تضطلع بدور محوري كضامن لوحدة القانون والأمن القضائي من خلال وظيفتها الأساسية المتمثلة في مراقبة شرعية الأحكام وتوحيد الاجتهاد القضائي. كما كشف التحليل عن هيكلتها الداخلية المحكمة التي تجمع بين التخصص الدقيق في غرفها وبين آليات العمل الجماعي الموسعة لضمان جودة قراراتها.

ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر الذي يواجه المحكمة، كما أبرزته دراسة اجتهاداتها، يكمن في كيفية الموازنة بين التزاماتها المتعددة: الوفاء للنص القانوني الداخلي من جهة، والتفاعل مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان من جهة أخرى؛ والتمسك بالتقاليد القانونية الراسخة من جهة، والاستجابة لضرورات الحداثة والتطور الاجتماعي من جهة ثانية. وقد تجلى هذا التحدي بوضوح في التباين بين نهجها الحرفي في قضايا حساسة مثل النسب خارج إطار الزواج، ونهجها الأكثر مرونة وتطوراً في قضايا الحضانة أو في المواد التجارية والإجرائية.

7.2. توصيات

بناءً على ما سبق، يمكن تقديم التوصيات التالية:

  • على المستوى التشريعي:

    1. الدعوة إلى تدخل تشريعي لمعالجة الإشكاليات التي كشف عنها الاجتهاد القضائي، لا سيما في مدونة الأسرة. ويشمل ذلك مراجعة المادة 148 المتعلقة بآثار البنوة غير الشرعية، لتتلاءم بشكل أفضل مع المصلحة الفضلى للطفل والاتفاقيات الدولية ذات الصلة.

    2. تشجيع المشرع على تحويل بعض الاجتهادات القضائية المبدئية والمستقرة التي كرستها محكمة النقض (خاصة في مجال حماية حقوق المتقاضين الإجرائية) إلى نصوص قانونية صريحة وواضحة، لتعزيز الأمن القانوني.

  • على مستوى العمل القضائي:

    1. مواصلة تعزيز نهج التخصص داخل المحكمة، على غرار ما تم بإحداث الغرفة العقارية، والنظر في إمكانية إنشاء هيئات متخصصة داخل الغرف القائمة لمعالجة القضايا المعقدة (مثل قضايا المنافسة أو الملكية الفكرية).

    2. تفعيل آليات توحيد الاجتهاد القضائي بين الغرف بشكل أكبر، من خلال اللجوء إلى هيئة الغرف المجتمعة كلما ظهر تضارب في التوجهات، لضمان استقرار المعاملات وتوقعات المتقاضين.

  • على مستوى الشفافية والتواصل:

    1. تعزيز سياسة "القضاء المفتوح" من خلال الاستمرار في تطوير البوابات الإلكترونية، وضمان نشر جميع قرارات محكمة النقض بشكل منهجي وسهل الولوج، وليس فقط القرارات المبدئية المنتقاة.

    2. تطوير محتوى التقارير السنوية لتتجاوز العرض الإحصائي والوصفي، ولتشمل تحليلات أعمق للتحديات التي تواجه منظومة العدالة، والتوجهات القضائية، وأثر القرارات على المجتمع، لتكون وثيقة حقيقية للحوار المجتمعي حول شؤون العدالة.

إن محكمة النقض، بتاريخها العريق ومكانتها السامية واجتهاداتها المؤثرة، ستبقى فاعلاً رئيسياً في تشكيل المشهد القانوني والحقوقي في المغرب لعقود قادمة. ومواصلة تطوير أدائها وتعزيز شفافيتها هو استثمار مباشر في بناء دولة الحق والقانون التي يطمح إليها جميع المغاربة.

تعليقات