قاضي التحقيق في المسطرة الجنائية المغربية
يُعد قاضي التحقيق ركيزة أساسية في نظام العدالة الجنائية المغربي، ويمثل مرحلة حاسمة بين البحث التمهيدي الذي تقوم به الشرطة القضائية تحت إشراف النيابة العامة، ومرحلة المحاكمة. دوره جوهري في البحث عن الحقيقة، وفي الوقت نفسه، حماية حقوق وحريات الأفراد المتهمين.
1. مفهوم قاضي التحقيق:
قاضي التحقيق هو قاضٍ من قضاة الحكم، يُكلف بالتحقيق في الجرائم (الجنايات وبعض الجنح) التي تحال إليه. يتميز بكونه يجمع بين وظيفتين أساسيتين: وظيفة البحث عن الأدلة (سواء كانت في صالح الاتهام أو الدفاع) ووظيفة حماية حقوق الأفراد من خلال ضمانات المحاكمة العادلة.
2. الإطار القانوني:
يُنظم عمل قاضي التحقيق وصلاحياته بشكل مفصل في الكتاب الأول من قانون المسطرة الجنائية المغربي (الفصول 83 إلى 267).
3. خصائص قاضي التحقيق:
الاستقلالية والحياد: يعمل قاضي التحقيق باستقلالية تامة عن النيابة العامة وعن قضاء الحكم، ولا يخضع لأي تعليمات في إطار ممارسته لمهامه التحقيقية. يجب أن يكون محايداً في سعيه للكشف عن الحقيقة.
قاضي الضمانات: يُعتبر قاضي التحقيق الضمانة الأساسية لحقوق المتهم خلال مرحلة التحقيق الإعدادي، حيث يضمن احترام الإجراءات القانونية وحقوق الدفاع.
قضاء فردي: الأصل أن قاضي التحقيق يمارس مهامه بشكل فردي، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك.
4. متى يكون التحقيق الإعدادي وجوبياً أو اختيارياً؟
يُحدد قانون المسطرة الجنائية الحالات التي يكون فيها التحقيق الإعدادي إلزامياً أو جوازياً:
وجوبي:
في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد أو التي تتجاوز عقوبتها 30 سنة سجناً.
في الجنايات المرتكبة من طرف الأحداث (القاصرين).
في الجرائم المرتكبة من طرف بعض الفئات الخاصة (مثل القضاة أو بعض الموظفين العموميين).
إذا نص القانون صراحة على وجوبية التحقيق الإعدادي في جرائم معينة.
اختياري (جوازي):
في باقي الجنايات (التي لا تبلغ عقوبتها 30 سنة سجناً أو الإعدام أو المؤبد).
في الجنح التي تكون عقوبتها القصوى خمس سنوات حبساً أو أكثر.
في هذه الحالات، تملك النيابة العامة سلطة تقديرية في إحالة القضية إلى قاضي التحقيق من عدمه.
5. صلاحيات وإجراءات قاضي التحقيق:
يتمتع قاضي التحقيق بسلطات واسعة لجمع الأدلة والكشف عن الحقيقة، مع الالتزام بضمانات حقوق الدفاع:
أ. تلقي طلبات التحقيق: يتلقى قاضي التحقيق القضية بناءً على:
ملتمس النيابة العامة: وهو الأصل في تحريك التحقيق الإعدادي.
شكاية مباشرة من الطرف المدني: إذا تقدم المتضرر بشكاية مباشرة أمام قاضي التحقيق وطالب بالحق المدني.
ب. الاستدعاء والاستنطاق:
يستدعي المتهم، الضحية، والشهود للاستماع إلى أقوالهم.
يُجري الاستنطاق التفصيلي للمتهم، ويجب أن يتم ذلك بحضور محاميه أو بعد إشعاره بحقه في تعيين محامٍ.
ج. إصدار الأوامر القضائية:
الأمر بالحضور: يطلب من المتهم الحضور أمامه في تاريخ معين.
الأمر بالإحضار: يأمر الشرطة القضائية بإحضار المتهم بالقوة إذا لم يمتثل للأمر بالحضور.
الأمر بالإيداع في السجن (الاعتقال الاحتياطي): إجراء استثنائي يتم فيه وضع المتهم في السجن خلال مرحلة التحقيق، ويخضع لشروط وضوابط صارمة وآجال محددة (قابلة للاستئناف أمام الغرفة الجنحية).
الأمر بإلقاء القبض: يصدر في حق المتهم الذي لا يمكن تبليغه أو الذي فر.
د. التفتيش والحجز: يمكن لقاضي التحقيق أن يأمر بتفتيش المنازل وحجز الأشياء المتعلقة بالجريمة، مع مراعاة الضوابط القانونية لضمان حرمة المنازل.
هـ. المعاينات والخبرات:
يمكنه الانتقال إلى مكان الجريمة لإجراء المعاينات اللازمة.
يمكنه الأمر بإجراء خبرات فنية، طبية، أو علمية (مثال: خبرة خط اليد، تحليل الحمض النووي).
و. الإفراج المؤقت: ينظر في طلبات الإفراج المؤقت المقدمة من المتهم أو محاميه، ويصدر قراره بشأنها.
ز. الإنابات القضائية: يمكنه أن ينيب قاضياً آخر أو ضابطاً للشرطة القضائية للقيام بإجراءات تحقيقية محددة في مكان آخر.
6. ضمانات حقوق الدفاع خلال التحقيق الإعدادي:
يُشدد القانون المغربي على حماية حقوق المتهم في هذه المرحلة الحساسة:
الحق في الصمت: للمتهم الحق في عدم الإجابة على الأسئلة الموجهة إليه.
الحق في الاستعانة بمحامٍ: يُعد هذا الحق أساسياً، حيث لا يمكن استنطاق المتهم لأول مرة إلا بحضور محاميه أو بعد إشعاره بذلك.
الحق في طلب إجراءات تحقيقية: يمكن للمتهم أو محاميه أن يطلب من قاضي التحقيق إجراء أي تحقيق يراه مفيداً للدفاع.
الطعن في أوامر قاضي التحقيق: العديد من أوامر قاضي التحقيق (خاصة المتعلقة بالاعتقال الاحتياطي) قابلة للاستئناف أمام الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف.
سرية التحقيق: تضمن سرية التحقيق حماية سمعة الأفراد وتفاصيل القضية، ولكنها لا تمنع المحامي من الاطلاع على الملف.
7. نهاية التحقيق الإعدادي:
بعد استكمال جميع الإجراءات التحقيقية وجمع الأدلة، يصدر قاضي التحقيق أحد الأوامر التالية:
أ. الأمر بالإحالة: إذا رأى أن الأدلة كافية وتوجد قرائن قوية على ارتكاب المتهم للفعل الجرمي، يصدر أمراً بإحالة المتهم إلى المحكمة المختصة (الغرفة الجنحية بالمحكمة الابتدائية للجنح، أو غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف للجنايات).
ب. الأمر بعدم المتابعة: إذا تبين له أن الأدلة غير كافية، أو أن الفعل لا يشكل جريمة، أو أن هناك سبباً من أسباب انقضاء الدعوى العمومية (مثل التقادم)، يصدر أمراً بعدم المتابعة، ويفرج عن المتهم إذا كان معتقلاً.
ج. الأمر بعدم الاختصاص: إذا تبين له أن القضية لا تدخل ضمن اختصاصه النوعي أو المكاني.
8. العلاقة مع النيابة العامة والغرفة الجنحية:
مع النيابة العامة: النيابة العامة هي التي تطلب من قاضي التحقيق فتح التحقيق، ولها الحق في حضور إجراءات التحقيق وتقديم ملتمساتها. ومع ذلك، يظل قاضي التحقيق مستقلاً في قراراته التحقيقية.
مع الغرفة الجنحية: تعتبر الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف هيئة رقابية على عمل قاضي التحقيق، حيث تنظر في استئنافات الأوامر الصادرة عنه، وتملك سلطة إلغاء أو تعديل هذه الأوامر.
خاتمة
قاضي التحقيق قاضي الخقيقة :
إن دور قاضي التحقيق في المسطرة الجنائية المغربية حيوي ومعقد، فهو يوازن بين متطلبات البحث عن الحقيقة في الجرائم وبين ضرورة صيانة الحقوق والحريات الفردية. استقلاليته وصلاحياته الواسعة تجعله حجر الزاوية في ضمان محاكمة عادلة وشفافة.
تعليقات
إرسال تعليق