القائمة الرئيسية

الصفحات

شرح النظرية العامة لقانون الالتزامات والعقود المغربي

 

شرح النظرية العامة لقانون الالتزامات والعقود المغربي

مقدمة: الإطار العام لنظرية الالتزامات والعقود في النظام القانوني المغربي

أهمية نظرية الالتزام

تُشكل النظرية العامة للالتزامات والعقود، التي ينظمها ظهير 12 غشت 1913 (قانون الالتزامات والعقود، ويُشار إليه فيما بعد بـ "ق.ل.ع")، حجر الزاوية في صرح القانون الخاص المغربي. فهي لا تقتصر على تنظيم العلاقات التعاقدية فحسب، بل تُعتبر بمثابة "الشريعة العامة" التي تحكم كافة الروابط المالية بين الأفراد، ما لم يوجد نص قانوني خاص ينظمها على نحو مغاير.1 إن المبادئ التي أرساها هذا القانون تمتد بظلالها لتؤثر في فروع قانونية أخرى كالقانون التجاري، وقانون الشغل، وقانون حماية المستهلك، مما يجعل فهمها ضرورة لا غنى عنها لكل مشتغل بالقانون. فالالتزام هو جوهر المعاملات المالية، سواء كان حقاً عينياً أو حقاً شخصياً، وقانون الالتزامات والعقود هو الذي يضع الإطار المنظم لنشأة هذه الروابط، وتداولها، وانقضائها.1

لمحة تاريخية ومصادر مزدوجة

إن فهم عمق قانون الالتزامات والعقود المغربي يقتضي العودة إلى سياقه التاريخي الفريد الذي طبع ولادته. صدر الظهير في 12 غشت 1913، في خضم فترة الحماية الفرنسية، ليحل محل الفقه الإسلامي الذي كان المصدر الأوحد لتنظيم المعاملات آنذاك.2 هذه النشأة في ظل ظرفية تاريخية خاصة منحت القانون طبيعة مزدوجة المصادر، فهو نتاج تفاعل فريد بين تيارين قانونيين عظيمين.

أولاً، التأثير الغربي المتمثل في القانون المدني الفرنسي، والذي وصل إلى المغرب عبر بوابة "المجلة التونسية للالتزامات والعقود". فقد اعتمدت سلطات الحماية الفرنسية التجربة التونسية الناجحة كمرجع أساسي لوضع مشروع الظهير المغربي.2 هذا التأثير يتجلى بوضوح في الهيكلة العامة للظهير، وتقسيماته المنطقية، وتبنيه للعديد من المفاهيم والمبادئ التي أرساها قانون نابليون، مثل مبدأ سلطان الإرادة، ونظرية أركان العقد، وتقسيمات العقود.4 ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن عملية الترجمة من النص الفرنسي الأصلي إلى اللغة العربية لم تكن دائماً دقيقة، مما أثار وما زال يثير بعض الإشكالات في التفسير والتطبيق، كما هو الحال في ترجمة مصطلح "أركان" (éléments) في الفصل 2 من ق.ل.ع.6

ثانياً، التأصيل الإسلامي المتجذر في الفقه المالكي، الذي كان هو القانون المطبق في المغرب لقرون. لقد حرص واضعو الظهير، إدراكاً منهم للواقع الاجتماعي والديني للمغرب، على ألا تتعارض أحكامه الجوهرية مع المبادئ الكبرى للشريعة الإسلامية في مذهبها المالكي السائد.2 هذا الحرص لم يكن مجرد تجميل للنص، بل كان ضرورة سياسية واجتماعية لضمان قبوله واستمراريته. ويتجلى هذا التأثير في العديد من المقتضيات، أبرزها بطلان الالتزامات التي يكون سببها مخالفاً للأخلاق الحميدة المستمدة من الدين الإسلامي، وتحريم بعض العقود كاشتراط الفائدة (الربا) بين المسلمين في المعاملات المدنية (الفصل 870 ق.ل.ع)، وتنظيم عقود الغرر والمقامرة، بالإضافة إلى استلهام قواعد خاصة بالغبن والتوليج من الفقه المالكي.4

هذا التزاوج بين الشكلانية المستمدة من القانون المدني الفرنسي والمضمون الذي يراعي خصوصية الفقه الإسلامي ليس مجرد صدفة تاريخية، بل هو جوهر العبقرية التوفيقية التي يتميز بها قانون الالتزامات والعقود المغربي. فهو نص قانوني يجمع بين حداثة التقنين وأصالة المرجعية، مما منحه قدرة فريدة على الصمود والتكيف لأكثر من قرن من الزمان، وجعله قانوناً حياً قادراً على تنظيم معاملات مجتمع يتطور باستمرار دون أن يتنكر لجذوره الحضارية.

هيكلية الظهير

ينقسم ظهير الالتزامات والعقود إلى كتابين رئيسيين:

  1. الكتاب الأول: الالتزامات بوجه عام. وهذا الكتاب هو الذي يؤسس للنظرية العامة، حيث يتناول مصادر الالتزام، وأوصافه، وانتقاله، وانقضاءه.

  2. الكتاب الثاني: في مختلف العقود المسماة وفي أشباه العقود التي ترتبط بها. ويتناول هذا الكتاب بالتفصيل أحكام العقود الشائعة كالبيع والكراء والوكالة والشركة وغيرها.

سيركز هذا التقرير بشكل أساسي على تحليل المبادئ والقواعد الواردة في الكتاب الأول، باعتباره الإطار النظري العام الذي يحكم جميع الالتزامات والعقود في القانون المغربي.

الجزء الأول: النظرية العامة للالتزام

الفصل الأول: ماهية الالتزام وخصائصه

تعريف الالتزام

يُعرَّف الالتزام في الفقه القانوني بأنه رابطة قانونية بين شخصين، أحدهما دائن والآخر مدين، يلتزم بمقتضاها المدين تجاه الدائن بأداء معين.10 هذا الأداء، الذي يمثل "محل" الالتزام، يمكن أن يتخذ إحدى الصور الثلاث التالية:

  1. نقل حق عيني: كالتزام البائع بنقل ملكية الشيء المبيع إلى المشتري.

  2. القيام بعمل: كالتزام المقاول ببناء منزل، أو التزام المحامي بالدفاع عن موكله.

  3. الامتناع عن عمل: كالتزام التاجر بعدم منافسة من باع له أصله التجاري في منطقة معينة ولفترة محددة.11

عناصر الالتزام

يقوم كل التزام على عنصرين متلازمين يمنحانه قوته القانونية:

  1. عنصر المديونية: وهو الواجب القانوني الملقى على عاتق المدين للقيام بالأداء المحدد. إنه الجانب الأدبي والأخلاقي للالتزام.

  2. عنصر المسؤولية: وهو الوجه الإجباري للالتزام. فإذا لم يقم المدين بتنفيذ واجبه طواعية، يمكن للدائن إجباره على ذلك عن طريق اللجوء إلى السلطة العامة (القضاء)، وهذا ما يسمى بالجزاء القانوني الذي يضمن فعالية الالتزام.12

التمييز بين الحق الشخصي والحق العيني

من الضروري التمييز بين الالتزام، الذي يسمى أيضاً "الحق الشخصي"، وبين "الحق العيني"، فالفارق بينهما جوهري ويترتب عليه اختلاف كبير في الأحكام القانونية.

  • الحق الشخصي (الالتزام): هو علاقة أو رابطة قانونية بين شخصين (دائن ومدين). هو حق نسبي، بمعنى أن الدائن لا يمكنه أن يطالب بتنفيذه إلا من شخص المدين. كما أنه حق مؤقت، إذ ينقضي بالوفاء به أو بأحد أسباب الانقضاء الأخرى.12

  • الحق العيني: هو سلطة مباشرة يمارسها شخص على شيء مادي معين، تمكنه من الحصول على المنفعة المرجوة من هذا الشيء دون وساطة أحد. وأبرز مثال عليه هو حق الملكية بسلطاته الثلاث (الاستعمال، الاستغلال، التصرف).12 الحق العيني هو حق مطلق، يمكن لصاحبه الاحتجاج به في مواجهة الكافة (erga omnes)، ويمنحه ميزتين لا وجود لهما في الحق الشخصي:

    ميزة التتبع (droit de suite) التي تسمح له بتتبع الشيء في أي يد انتقل إليها، وميزة الأفضلية (droit de préférence) التي تخوله الأولوية على الدائنين العاديين والدائنين التالين له في المرتبة.1

الفصل الثاني: مصادر الالتزام

يقصد بمصادر الالتزام الأسباب القانونية المباشرة التي تؤدي إلى نشأته. وقد حدد المشرع المغربي هذه المصادر في الفصل الأول من ق.ل.ع، الذي ينص على أن "الالتزامات تنشأ عن الاتفاقات والتصريحات الأخرى المعبرة عن الإرادة وعن أشباه العقود وعن الجرائم وعن أشباه الجرائم".1 ويمكن تقسيم هذه المصادر الخمسة إلى مجموعتين رئيسيتين وفقاً للتصنيف الفقهي الحديث: المصادر الإرادية (التصرفات القانونية) والمصادر غير الإرادية (الوقائع القانونية).

هذا التصنيف الخماسي التقليدي، رغم وروده في النص القانوني، يخفي وراءه بنية تحليلية أعمق. فالفقه الحديث يميل إلى إعادة تبويب هذه المصادر ضمن ثنائية أكثر وضوحاً: التصرفات القانونية والوقائع القانونية.14 التصرفات القانونية (العقد والإرادة المنفردة) هي تلك التي تتجه فيها إرادة الشخص إلى إحداث أثر قانوني معين. أما الوقائع القانونية (الجريمة وشبهها وأشباه العقود) فهي أحداث مادية يرتب عليها القانون أثراً معيناً (غالباً الالتزام بالتعويض أو الرد) بغض النظر عن إرادة أطرافها. هذا الإطار التحليلي الحديث لا يغير من جوهر المصادر، ولكنه يوفر رؤية أكثر منهجية، تميز بين الالتزامات التي تنشأ عن إرادة واعية وتلك التي يفرضها القانون كجزاء أو كإعادة للتوازن المالي.

المصادر الإرادية (التصرفات القانونية)

تتميز هذه المصادر بأن الإرادة تلعب فيها دوراً محورياً في إنشاء الالتزام.

  • العقد (L'acte juridique conventionnel): يُعتبر العقد أهم وأشيع مصدر للالتزام على الإطلاق.5 وهو يقوم على توافق إرادتين أو أكثر على إحداث أثر قانوني، كإنشاء التزام أو نقله أو تعديله أو إنهائه.10 ونظراً لأهميته القصوى، فقد خصه المشرع بمعظم نصوص النظرية العامة، وسيتم تحليله بالتفصيل في الجزء الثاني من هذا التقرير.

  • الإرادة المنفردة (L'acte juridique unilatéral): هي تصرف قانوني يصدر من جانب واحد، ويكون كافياً لإنشاء التزام في ذمة صاحبه دون الحاجة إلى قبول من الطرف الآخر. وقد أشار إليها المشرع بعبارة "التصريحات الأخرى المعبرة عن الإرادة".1 المثال الأبرز والأكثر وضوحاً في القانون المغربي هو

    الوعد بجائزة الموجه إلى الجمهور، والذي نظمه المشرع في الفصلين 15 و 16 من ق.ل.ع. فمن يعلن عن جائزة لمن يعثر على شيء مفقود، يصبح ملتزماً قانوناً بمنح تلك الجائزة لمن يأتي بالشيء، وذلك بمجرد صدور إرادته المنفردة.14

المصادر غير الإرادية (الوقائع القانونية)

هنا، ينشأ الالتزام نتيجة لوقوع حدث مادي يرتب عليه القانون أثراً، بغض النظر عن نية الأطراف في إنشاء هذا الالتزام.

  • العمل غير المشروع (Le fait illicite): ويشمل حالتين:

    • الجريمة (Le délit): وهي كل عمل ضار يرتكبه الشخص عن عمد وبقصد الإضرار بالغير. هذا الفعل العمدي يُنشئ في ذمة مرتكبه التزاماً قانونياً بتعويض الضحية عن الضرر الذي لحقه.10

    • شبه الجريمة (Le quasi-délit): وهي فعل ضار يصيب الغير بضرر، ولكنه يقع دون قصد الإضرار به، أي نتيجة خطأ أو إهمال أو عدم تبصر. هذه الحالة هي المجال الخصب للمسؤولية التقصيرية، حيث يلتزم المخطئ بإصلاح الضرر الذي تسبب فيه للغير.1

  • الإثراء بلا سبب وأشباه العقود (L'enrichissement sans cause et les quasi-contrats):

    • الإثراء بلا سبب (الفعل النافع): هذه هي القاعدة العامة التي تقضي بأنه لا يجوز لشخص أن يثري على حساب غيره دون سبب قانوني مشروع. فإذا حدث ذلك، يلتزم من أثرى برد ما أثرى به في حدود ما لحق الطرف الآخر من افتقار.15 وقد نظم المشرع هذه القاعدة في الفصلين 66 و 67 من ق.ل.ع.

    • أشباه العقود: هي تطبيقات محددة لقاعدة الإثراء بلا سبب، وهي أعمال اختيارية مشروعة يترتب عليها نشوء التزام. وأهمها حالتان:

      1. الفضالة (La gestion d'affaires): وهي أن يتدخل شخص (الفضولي) من تلقاء نفسه وبقصد، في شأن عاجل يخص شخصاً آخر (رب العمل) دون أن يكون ملزماً بذلك قانوناً أو اتفاقاً. هذا التدخل ينشئ التزامات على عاتق الطرفين، كالتزام الفضولي بإتمام العمل والتزام رب العمل بتعويضه عن المصاريف الضرورية.18

      2. الدفع غير المستحق (Le paiement de l'indu): وهو أن يقوم شخص بالوفاء بدين يعتقد خطأً أنه مدين به. هذا الفعل ينشئ في ذمة من تسلم المبلغ التزاماً برده إلى من وفاه.16

إشكالية "القانون" كمصدر للالتزام

يلاحظ أن الفصل الأول من ق.ل.ع، متأثراً بالمدرسة الفرنسية التقليدية، لم يدرج "القانون" كمصدر مباشر ومستقل للالتزام، على عكس بعض التشريعات الحديثة.11 هذا الإغفال أثار نقاشاً فقهياً واسعاً. يرى جانب من الفقه أن هذا ليس عيباً، لأن القانون هو في الحقيقة المصدر الأعلى وغير المباشر لجميع الالتزامات الأخرى. فالقانون هو الذي يمنح العقد قوته الملزمة، وهو الذي يفرض التعويض عن الفعل الضار، وهو الذي يوجب رد ما تم اكتسابه دون سبب.16 فكل الالتزامات، في تحليلها النهائي، تجد سندها في النص القانوني. وبالتالي، يمكن القول إن المصادر الخمسة المذكورة في الفصل الأول هي الأسباب المباشرة المنشئة للالتزام، بينما يظل القانون هو المصدر الأصلي الذي تستمد منه كل هذه المصادر قوتها وشرعيتها.

الجزء الثاني: نظرية العقد

الفصل الأول: المبادئ الأساسية وتصنيفات العقود

مبدأ سلطان الإرادة (الحرية التعاقدية)

يقوم قانون العقود المغربي، على غرار الأنظمة اللاتينية، على مبدأ جوهري هو "سلطان الإرادة" أو الحرية التعاقدية. ومفاد هذا المبدأ أن الإرادة الحرة للأفراد هي المصدر الأساسي لإنشاء الالتزامات، فللشخص الحرية التامة في أن يتعاقد أو لا يتعاقد، وفي اختيار من يتعاقد معه، وفي تحديد مضمون العقد وشروطه.5 وقد كرس المشرع هذا المبدأ في العديد من الفصول، أبرزها الفصل 19 الذي ينص على أن الاتفاق لا يتم إلا بتراضي الطرفين، والفصل 230 الذي يجعل من العقد "قانون المتعاقدين".5

إلا أن هذه الحرية ليست مطلقة، بل ترد عليها قيود أساسية تفرضها ضرورة حماية المصلحة العامة. فالإرادة لا يمكنها أن تتجاوز حدود النظام العام، والأخلاق الحميدة، والنصوص القانونية الآمرة. فأي اتفاق يخالف هذه الحدود يقع باطلاً ولا ينتج أي أثر قانوني.1 وقد شهد هذا المبدأ تراجعاً نسبياً في العصر الحديث مع ظهور "عقود الإذعان" وتزايد تدخل الدولة لحماية الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية، كالعامل والمستهلك.

تصنيفات العقود

تكتسي تصنيفات العقود أهمية بالغة لأنها تحدد النظام القانوني المطبق على كل نوع. ويمكن تصنيف العقود من زوايا مختلفة:

  • من حيث التكوين:

    • العقود الرضائية (Contrats consensuels): وهي الأصل العام، وتنعقد بمجرد تلاقي الإيجاب والقبول وتطابق الإرادتين، دون الحاجة إلى أي إجراء شكلي، كعقد البيع على منقول.1

    • العقود الشكلية (Contrats solennels): وهي التي لا يكفي لانعقادها مجرد التراضي، بل يشترط القانون إفراغها في شكل معين، غالباً ما يكون الكتابة (رسمية أو عرفية)، وذلك كركن للانعقاد وليس فقط للإثبات. ومثالها بيع العقار، وعقد الشركة، والرهن الرسمي.17

    • العقود العينية (Contrats réels): وهي التي لا تتم إلا بتسليم الشيء محل العقد. فالتسليم هنا ليس التزاماً ناتجاً عن العقد، بل هو ركن في تكوينه. ومثالها عقد الوديعة، وعارية الاستعمال، والرهن الحيازي.17

  • من حيث الآثار:

    • العقود الملزمة للجانبين (Contrats synallagmatiques): وهي التي تنشئ التزامات متقابلة في ذمة كل من المتعاقدين، بحيث يكون كل منهما دائناً ومديناً في نفس الوقت، كعقد البيع وعقد الكراء. وتخضع هذه العقود لقواعد خاصة كالفسخ والدفع بعدم التنفيذ.1

    • العقود الملزمة لجانب واحد (Contrats unilatéraux): وهي التي تلزم طرفاً واحداً فقط دون الآخر، كالوديعة غير المأجورة والهبة.17

  • من حيث المقابل:

    • عقود المعاوضة (Contrats à titre onéreux): وهي التي يأخذ فيها كل متعاقد مقابلاً لما يعطيه، كعقد البيع.17

    • عقود التبرع (Contrats à titre gratuit): وهي التي لا يأخذ فيها أحد المتعاقدين مقابلاً لما يعطيه، كعقد الهبة وعارية الاستعمال.17

  • من حيث طبيعة الالتزام:

    • العقود المحددة (Contrats commutatifs): وهي التي يستطيع فيها كل متعاقد أن يحدد وقت إبرام العقد مقدار ما سيأخذ ومقدار ما سيعطي، كعقد البيع بثمن معين.17

    • العقود الاحتمالية (Contrats aléatoires): وهي التي لا يستطيع فيها أحد المتعاقدين أو كلاهما تحديد مقدار أدائه وقت العقد، لتوقفه على أمر مستقبلي غير محقق (عنصر الغرر). ومثالها عقد التأمين وعقد المقامرة والرهان (وهو باطل في القانون المغربي).4

  • من حيث التنفيذ:

    • العقود الفورية (Contrats à exécution instantanée): وهي التي يتم تنفيذها دفعة واحدة، كبيع شيء وتسليمه فوراً.12

    • العقود الزمنية أو المستمرة (Contrats à exécution successive): وهي التي يكون الزمن عنصراً جوهرياً في تنفيذها، حيث تتوالى الأداءات على مدى فترة من الزمن، كعقد الكراء وعقد الشغل.12

  • من حيث التنظيم القانوني:

    • العقود المسماة (Contrats nommés): وهي التي خصها المشرع بتنظيم قانوني خاص واسم معين نظراً لشيوعها وأهميتها، كعقد البيع والكراء والوكالة.11

    • العقود غير المسماة (Contrats innommés): وهي التي لم يفرد لها المشرع تنظيماً خاصاً، وتخضع للقواعد العامة لنظرية الالتزام، وهي وليدة ابتكار الأفراد وحاجاتهم المتجددة، كعقد النشر وعقد الفندقة.11

الفصل الثاني: تكوين العقد - الأركان والشروط

لكي ينشأ العقد صحيحاً ومنتجاً لآثاره القانونية، لا بد من توافر مجموعة من الأركان الأساسية التي نص عليها الفصل 2 من ق.ل.ع، وهي: الأهلية للالتزام، تعبير صحيح عن الإرادة يقع على العناصر الأساسية للالتزام (التراضي)، شيء محقق يصلح لأن يكون محلاً للالتزام، وسبب مشروع للالتزام.6

المبحث الأول: أركان انعقاد العقد

التراضي (الرضا)

التراضي هو الركن الجوهري في جميع العقود، وهو يعني توافق إرادتين أو أكثر على إحداث الأثر القانوني المنشود. ويتحقق التراضي بوجود إرادة حقيقية لدى كل طرف، والتعبير عن هذه الإرادة، وتطابق هذا التعبير بين الطرفين من خلال الإيجاب والقبول.

  • وجود الإرادة والتعبير عنها: يجب أن تكون الإرادة موجودة وحرة. ويتم التعبير عنها إما بشكل صريح، وذلك باللفظ أو الكتابة أو الإشارة المتداولة عرفاً، أو بشكل ضمني، وذلك باتخاذ موقف لا يدع أي شك في دلالته على القبول، كالشروع في تنفيذ العقد.5

  • توافق الإرادتين (الإيجاب والقبول):

    • الإيجاب (L'offre): هو تعبير بات وجازم عن إرادة شخص (الموجب) يتضمن عرضاً بالتعاقد بشروط محددة. ولكي يكون العرض إيجاباً، يجب أن يكون محدداً (يتضمن العناصر الأساسية للعقد المراد إبرامه، كطبيعة العقد والمحل والثمن) وجازماً (يدل على نية الموجب النهائية في الالتزام إذا ما لاقاه قبول مطابق). ويجب التمييز بين الإيجاب والدعوة إلى التعاقد، فالإعلانات في الصحف أو عرض البضائع في واجهات المحلات مع بيان أثمانها قد تعتبر إيجاباً، بينما الإعلان عن مزايدة علنية يعتبر مجرد دعوة للتقدم بعروض (إيجابات).23

    • القبول (L'acceptation): هو تعبير بات عن إرادة من وجه إليه الإيجاب بالموافقة على هذا الإيجاب دون قيد أو شرط. ولكي ينتج القبول أثره، يجب أن يكون مطابقاً للإيجاب تمام المطابقة. فأي تعديل أو إضافة أو تقييد في القبول يعتبر رفضاً للإيجاب الأصلي، ويشكل في حد ذاته إيجاباً جديداً موجهاً للطرف الأول، يحتاج بدوره إلى قبول.23

    • اقتران القبول بالإيجاب (La rencontre des volontés):

      • التعاقد بين حاضرين (في مجلس العقد): إذا كان المتعاقدان حاضرين في نفس المكان (مجلس العقد)، فإن العقد ينعقد في اللحظة التي يصدر فيها القبول ويصل إلى علم الموجب، طالما لم ينفض المجلس أو يتحول الحديث إلى موضوع آخر.11 التعاقد عبر الهاتف يأخذ حكم التعاقد بين حاضرين من حيث الزمان.10

      • التعاقد بين غائبين (بالمراسلة): هنا يثور التساؤل حول زمان ومكان انعقاد العقد. وقد ظهرت أربع نظريات فقهية للإجابة على هذا السؤال: نظرية إعلان القبول، نظرية إرسال القبول، نظرية تسلم القبول، ونظرية العلم بالقبول.10 وقد تبنى المشرع المغربي صراحة في

        الفصل 24 من ق.ل.ع نظرية إعلان القبول، حيث نص على أن "العقد الحاصل بالمراسلة يكون تاماً في الوقت والمكان اللذين يرد فيهما من تلقى الإيجاب بقبوله".10 ورغم وضوح النص، لا يزال هناك نقاش فقهي حول ما إذا كانت بعض الفصول الأخرى (كالفصل 29 و 30) تشير إلى ضرورة وصول القبول إلى علم الموجب.10

الأهلية

الأهلية هي صلاحية الشخص لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات ومباشرة التصرفات القانونية التي تكسبه حقاً أو تحمله التزاماً. وهي شرط أساسي لصحة التعبير عن الإرادة.

  • التعريف والأنواع: يميز القانون بين نوعين من الأهلية:

    • أهلية الوجوب: وهي مجرد صلاحية الشخص لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات، وهي تثبت لكل إنسان منذ ولادته حياً بل وهو جنين في بطن أمه.26

    • أهلية الأداء: وهي صلاحية الشخص لممارسة التصرفات القانونية بنفسه على وجه يعتد به شرعاً وقانوناً. وهي مناط التكليف، وتمر بمراحل مختلفة.26 سن الرشد القانوني الذي تكتمل به أهلية الأداء محدد في

      18 سنة شمسية كاملة بموجب مدونة الأسرة.27

  • حالات عديم وناقص الأهلية:

    • عديم الأهلية: هو من لا يملك القدرة على التمييز إطلاقاً. ويشمل الصغير غير المميز (من لم يبلغ 12 سنة شمسية كاملة) والمجنون فاقد العقل.26

    • ناقص الأهلية: هو من يملك تمييزاً لكنه غير كامل. ويشمل الصغير المميز (من أتم 12 سنة ولم يبلغ سن الرشد)، والسفيه (المبذر الذي لا يحسن تدبير أمواله)، والمعتوه (قليل الفهم مختلط الكلام).26

  • أثر الأهلية على التصرفات:

    • تصرفات عديم الأهلية: تعتبر باطلة بطلاناً مطلقاً ولا تنتج أي أثر قانوني.26

    • تصرفات ناقص الأهلية: تخضع لحكم ثلاثي حسب طبيعة التصرف:

      1. التصرفات النافعة نفعاً محضاً: (كقبول الهبة) تكون صحيحة ومنتجة لآثارها.27

      2. التصرفات الضارة ضرراً محضاً: (كالتبرع بأمواله) تكون باطلة.27

      3. التصرفات الدائرة بين النفع والضرر: (كالبيع والشراء والكراء) تكون قابلة للإبطال، أي أنها موقوفة على إجازة نائبه الشرعي (الولي أو الوصي أو المقدم). فإذا أجازها النائب الشرعي أصبحت صحيحة، وإذا لم يجزها بقيت باطلة.25

المحل

المحل هو الأداء الذي يلتزم به كل متعاقد في مواجهة الآخر. ويميز الفقه بين "محل الالتزام" و "محل العقد". فمحل الالتزام هو الشيء أو العمل أو الامتناع عن العمل الذي يلتزم به المدين (مثلاً، في عقد البيع، محل التزام البائع هو تسليم المبيع، ومحل التزام المشتري هو دفع الثمن). أما محل العقد فهو العملية القانونية التي يهدف الطرفان إلى تحقيقها (مثلاً، في عقد البيع، محل العقد هو نقل الملكية مقابل ثمن).30 وقد نظم المشرع شروط المحل في الفصول من 57 إلى 61 من ق.ل.ع.

  • شروط المحل:

    1. أن يكون موجوداً أو ممكن الوجود: لا يصح التعاقد على شيء مستحيل استحالة مطلقة، سواء كانت استحالة طبيعية (كالتعهد بلمس السماء) أو قانونية (كالتعامل في تركة إنسان على قيد الحياة).1 أما الاستحالة النسبية (التي تكون مستحيلة على المدين فقط ولكنها ممكنة لغيره) فلا تمنع من نشوء الالتزام. ويجوز أن يكون محل الالتزام شيئاً مستقبلياً، كبيع محصول زراعي قبل نضجه.22

    2. أن يكون معيناً أو قابلاً للتعيين: يجب أن يكون محل الالتزام محدداً تحديداً نافياً للجهالة. فإذا كان شيئاً قيمياً (معين بالذات كسيارة معينة)، يجب وصفه وصفاً دقيقاً. وإذا كان شيئاً مثلياً (معين بالنوع ككمية من القمح)، يجب تحديد نوعه ومقداره، أو على الأقل بيان العناصر التي تمكن من تحديده لاحقاً.14

    3. أن يكون مشروعاً: يجب أن يكون محل الالتزام مما يجوز التعامل فيه قانوناً. فلا يصح أن يكون مخالفاً للقانون أو للنظام العام أو للأخلاق الحميدة، كالتعاقد على بيع المخدرات أو على ارتكاب جريمة.13

السبب

السبب هو الركن الرابع في العقد، وهو الغرض أو الباعث الذي دفع المتعاقد إلى الالتزام. وقد أثار مفهوم السبب جدلاً فقهياً واسعاً، نتج عنه نظريتان رئيسيتان:

  • النظرية التقليدية (سبب الالتزام): ترى أن السبب هو الغرض المباشر والمجرد الذي يقصده الملتزم. وهو سبب ثابت لا يتغير في النوع الواحد من العقود. ففي العقود الملزمة للجانبين، سبب التزام كل طرف هو التزام الطرف الآخر. وفي عقود التبرع، سبب التزام المتبرع هو نية التبرع.36

  • النظرية الحديثة (سبب العقد): لا تكتفي بالسبب المجرد، بل تبحث في الباعث الدافع الحقيقي الذي حدا بالمتعاقد إلى إبرام العقد. وهذا الباعث شخصي ومتغير من عقد لآخر. فمن يشتري منزلاً، قد يكون باعثه السكن، أو الاستثمار، أو تحويله إلى مكان لممارسة نشاط غير مشروع.36

يبدو أن المشرع المغربي، في الفصول من 62 إلى 65 من ق.ل.ع، قد أخذ بمفهوم واسع للسبب يجمع بين النظريتين، فهو يهتم بالسبب القصدي المباشر (التقليدي) وفي نفس الوقت يراقب مشروعية الباعث الدافع (الحديث).1

  • شروط السبب:

    1. أن يكون موجوداً: "الالتزام الذي لا سبب له... يعد كأن لم يكن" (الفصل 62). فلا بد من وجود غرض يهدف إليه المتعاقد.1

    2. أن يكون حقيقياً: يجب ألا يكون السبب صورياً أو وهمياً. ومع ذلك، يفترض الفصل 63 أن لكل التزام سبباً حقيقياً ومشروعاً ولو لم يذكر، وعلى من يدعي العكس أن يثبت ذلك.1

    3. أن يكون مشروعاً: "يكون السبب غير مشروع، إذا كان مخالفا للأخلاق الحميدة أو للنظام العام أو للقانون" (الفصل 62). وهذا الشرط هو الذي يسمح للقاضي بمراقبة البواعث الحقيقية للتعاقد. فإذا كان عقد البيع في ظاهره صحيحاً، ولكن كان الباعث الحقيقي للمشتري هو استخدام المنزل للدعارة، فإن سبب العقد يكون غير مشروع، ويقع العقد باطلاً.1

المبحث الثاني: صحة التراضي - عيوب الرضا

لا يكفي وجود التراضي لانعقاد العقد صحيحاً، بل يجب أن يكون هذا التراضي سليماً، أي صادراً عن إرادة حرة وواعية. فإذا شابت الإرادة شائبة أو عيب، فإن العقد يكون قابلاً للإبطال. وقد حصر المشرع عيوب الرضا في الفصل 39 من ق.ل.ع في: الغلط، والتدليس، والإكراه، والغبن، وحالة المرض والحالات المشابهة.

الغلط (Erreur)

الغلط هو وهم يقوم في ذهن المتعاقد يجعله يتصور الواقع على غير حقيقته، ويكون هو الدافع إلى التعاقد.37 ويميز الفقه بين ثلاثة أنواع من الغلط:

  • الغلط المانع: وهو غلط جسيم يعدم الرضا من أساسه، ويجعل العقد باطلاً بطلاناً مطلقاً لا قابلاً للإبطال. ويقع هذا الغلط على ماهية العقد (كأن يعتقد أحد الطرفين أنه يبيع والآخر يعتقد أنه يرهن)، أو على ذاتية الشيء محل العقد (كأن يبيع شخص سيارة معينة ويعتقد المشتري أنه يشتري سيارة أخرى).1

  • الغلط المبرر للإبطال: وهو الذي يعيب الإرادة دون أن يعدمها، ويجعل العقد قابلاً للإبطال. وقد حدد المشرع حالاته في الفصول 40 إلى 42:

    • الغلط في القانون: كأن يبيع وارث نصيبه في تركة معتقداً أنه الربع ثم يتبين أن القانون يمنحه النصف. ويشترط لإبطال العقد أن يكون الغلط في القانون هو السبب الوحيد أو الأساسي للتعاقد، وأن يكون مما يمكن العذر عنه.11

    • الغلط في الشيء: ويقع إما في ذاتية الشيء (وهو غلط مانع كما ذكرنا) أو في صفة جوهرية فيه كانت هي الدافع الأساسي للتعاقد (كشراء تمثال على أنه أثري ثم يتبين أنه مقلد).38

    • الغلط في شخص المتعاقد أو صفته: لا يخول الإبطال إلا إذا كانت شخصية المتعاقد أو صفة من صفاته هي السبب الدافع إلى التعاقد (كالهبة لشخص معين اعتقاداً بفقره ثم يتبين غناه، أو التعاقد مع فنان معين لرسم لوحة).37

  • الغلط غير المنتج: وهو غلط لا يؤثر في صحة العقد، كالغلط في الحساب الذي يقتصر أثره على وجوب تصحيحه (الفصل 43)، أو الغلط في البواعث الشخصية التي لم تكن هي الدافع الأساسي للتعاقد.1

التدليس (Dol)

التدليس هو استعمال وسائل احتيالية أو حيل بقصد إيقاع المتعاقد الآخر في غلط يدفعه إلى التعاقد.37 فالتدليس يولد غلطاً لدى المدلَّس عليه، ولولاه لما أبرم العقد. ولكي يكون التدليس سبباً للإبطال، يجب توافر ثلاثة شروط نص عليها الفصلان 52 و 53 من ق.ل.ع:

  1. استعمال وسائل احتيالية: قد تكون أفعالاً إيجابية (كتقديم وثائق مزورة) أو كتمان معلومات كان من الواجب الإفصاح عنها (الكتمان التدليسي).

  2. أن تكون هذه الحيل هي الدافعة إلى التعاقد: أي أنه لولا التدليس لما تعاقد الطرف الآخر.

  3. أن تصدر الحيل عن المتعاقد الآخر أو نائبه أو شخص يعمل بالتواطؤ معه، أو أن يكون على الأقل على علم بها واستفاد منها.39

الإكراه (Violence)

الإكراه هو "إجبار يباشر من غير أن يسمح به القانون يحمل بواسطته شخص شخصاً آخر على أن يعمل عملاً بدون رضاه" (الفصل 46 ق.ل.ع).39 الإكراه لا يعدم الإرادة، فالشخص المكرَه يختار التعاقد، ولكنه يختاره تفادياً لشر أكبر، فإرادته موجودة ولكنها معيبة وغير حرة. ولتحقق الإكراه المبرر للإبطال، لا بد من توافر الشروط التالية (الفصول 46 إلى 51):

  1. استعمال وسيلة ضغط غير مشروعة: سواء كانت مادية (كالضرب والتهديد بالقتل) أو معنوية (كالتهديد بالتشهير أو بفضح سر).

  2. أن تبعث هذه الوسيلة رهبة في نفس المتعاقد: أي خوفاً يجعله يتوقع حدوث ألم جسيم أو اضطراب نفسي له أو لأحد أقاربه في النفس أو الشرف أو المال.13

  3. أن تكون هذه الرهبة هي الدافع إلى التعاقد: أي أنه لولا الخوف الذي تولد لديه لما أبرم العقد.39

  4. أن يكون الغرض من الإكراه تحقيق منفعة غير مشروعة.23

الغبن وحالة المرض (Lésion et état de maladie)

  • الغبن (Lésion): هو مجرد التفاوت أو عدم التعادل بين ما يعطيه المتعاقد وما يأخذه في عقود المعاوضة.41

    القاعدة العامة التي أرساها الفصل 55 من ق.ل.ع هي أن الغبن المجرد لا يخول الإبطال إذا كان المتعاقد كامل الأهلية، وذلك حفاظاً على استقرار المعاملات.42

  • الاستثناءات: هناك حالات يعتد فيها بالغبن كسبب للإبطال:

    1. الغبن المقرون بالتدليس: إذا كان الغبن نتيجة مباشرة لتدليس الطرف الآخر (الفصل 55).

    2. الغبن اللاحق بناقص الأهلية: إذا كان ضحية الغبن قاصراً أو ناقص أهلية، يجوز إبطال العقد ولو لم يكن هناك تدليس (الفصل 56).

    3. حالة المرض والحالات المشابهة (الفصل 54): يخول هذا الفصل للقاضي سلطة تقديرية واسعة لإبطال العقد المبرم من شخص في حالة مرض أو حالات أخرى مشابهة (كالطيش والهوى الجامح) إذا كان هذا العقد مشوباً بالغبن. وقد استقر الاجتهاد القضائي لمحكمة النقض على تفسير هذا الفصل بأنه يؤسس لنظرية "الغبن الاستغلالي"، حيث يشترط للإبطال توافر عنصرين: عنصر نفسي (استغلال حالة الضعف الناتجة عن المرض) وعنصر مادي (عدم التعادل الصارخ بين الأداءات).28 كما ذهب القضاء إلى أن دعوى الإبطال المبنية على هذا الفصل هي دعوى شخصية لا تنتقل إلى الورثة، وهو موقف محل نقاش فقهي لمخالفته الظاهرة للفصل 313 من ق.ل.ع.28

الفصل الثالث: جزاء تخلف أركان العقد وشروط صحته: نظرية البطلان والإبطال

عندما لا يستوفي العقد جميع أركانه وشروط صحته، فإن القانون يرتب على ذلك جزاءً يتمثل في عدم قيام العقد صحيحاً، وهذا الجزاء يأخذ صورتين: البطلان والإبطال.

  • البطلان (Nullité absolue): هو الجزاء الذي يترتب على تخلف ركن من أركان انعقاد العقد، كـ:

    • انعدام الرضا.

    • تخلف المحل أو عدم مشروعيته.

    • تخلف السبب أو عدم مشروعيته.

    • تخلف الشكل في العقود الشكلية.

    • مخالفة نص قانوني آمر يتعلق بالنظام العام.1

    العقد الباطل يعتبر كأن لم يكن، فهو منعدم الوجود قانوناً منذ البداية ولا يرتب أي أثر. ويمكن لكل ذي مصلحة (المتعاقدين، الخلف، الدائنين) أن يتمسك بالبطلان، كما يجب على المحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها إذا تبينت وجود سببه. دعوى البطلان لا تسقط بالتقادم إلا بمرور 15 سنة، ولكن الدفع بالبطلان لا يسقط أبداً. والعقد الباطل لا تلحقه الإجازة أو التصديق.1

  • الإبطال (Nullité relative): هو الجزاء الذي يترتب على تخلف شرط من شروط صحة العقد، وليس ركناً من أركانه. وحالاته هي:

    • وجود عيب من عيوب الرضا (غلط، تدليس، إكراه، غبن استغلالي).

    • نقصان أهلية أحد المتعاقدين.1

    العقد القابل للإبطال هو عقد موجود ومنتج لآثاره، ولكنه مهدد بالزوال. فالحق في طلب إبطاله مقرر فقط لحماية الطرف الذي شاب رضاه عيب أو كان ناقص الأهلية. لا يمكن للمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها. وهذا الحق في طلب الإبطال يسقط بمرور سنة واحدة من يوم زوال العيب أو بلوغ سن الرشد. كما أن العقد القابل للإبطال يمكن أن يُصحح عن طريق الإجازة الصريحة أو الضمنية ممن له الحق في طلب الإبطال.1

  • آثار البطلان والإبطال: إذا حُكم بالبطلان أو بالإبطال، فإن الأثر يكون واحداً: يعتبر العقد كأن لم يكن بأثر رجعي، ويجب إعادة المتعاقدين إلى الحالة التي كانا عليها قبل التعاقد. فالبائع يسترد المبيع والمشتري يسترد الثمن.1

جدول مقارن بين البطلان والإبطال

الميزةالبطلان (Nullité Absolue)الإبطال (Nullité Relative)
السبب

تخلف ركن من أركان العقد (رضا، محل، سبب، شكلية) أو مخالفة النظام العام. 1

عيب في الرضا (غلط، تدليس، إكراه) أو نقص في الأهلية. 1

من له حق التمسك به

كل ذي مصلحة (المتعاقدان، الخلف، الدائنون)، والمحكمة من تلقاء نفسها. 1

من شُرّع الإبطال لمصلحته فقط (ضحية العيب أو ناقص الأهلية). 43

الإجازة أو التصديق

لا يقبل الإجازة أو التصديق. 1

يقبل الإجازة الصريحة أو الضمنية بعد زوال سبب الإبطال. 43

التقادم

تسقط دعوى البطلان بمضي 15 سنة، لكن الدفع به لا يسقط أبداً. 1

تسقط دعوى الإبطال بمضي سنة واحدة من يوم زوال العيب أو بلوغ سن الرشد. 43

دور القاضي

يقضي به من تلقاء نفسه متى تبين له سببه. 43

لا يقضي به إلا بناءً على طلب من له الحق فيه.
طبيعة العقديعتبر منعدماً منذ البداية (كأن لم يكن).يعتبر موجوداً ومنتجاً لآثاره إلى أن يُحكم بإبطاله.

الفصل الرابع: آثار العقد

متى نشأ العقد صحيحاً ومستوفياً لكافة أركانه وشروط صحته، فإنه يرتب آثاره القانونية. وتتمثل هذه الآثار في إنشاء الالتزامات التي تقع على عاتق أطرافه. ويحكم هذه الآثار مبدآن أساسيان: القوة الملزمة للعقد، ونسبية آثار العقد.

القوة الملزمة للعقد (Force obligatoire)

  • مبدأ "العقد شريعة المتعاقدين": هذا المبدأ هو حجر الزاوية في نظرية العقد، وقد كرسه المشرع المغربي في الفصل 230 من ق.ل.ع الذي ينص على أن: "الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها، ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معاً أو في الحالات المنصوص عليها في القانون".34 هذه الصياغة تعني أن العقد يتمتع بقوة إلزامية تماثل قوة القانون بين طرفيه. فلا يستطيع أحد الطرفين أن ينفرد بنقضه أو تعديله، كما لا يستطيع القاضي نفسه أن يتدخل لتعديل بنوده إلا في الحالات التي يسمح بها القانون (كنظرية الظروف الطارئة التي لم يأخذ بها المشرع المغربي صراحة ولكن يمكن الوصول لنتائجها عبر مبدأ حسن النية).

  • تنفيذ العقد بحسن نية: لا تقتصر القوة الملزمة للعقد على ما تم التصريح به صراحة فقط. فالفصل 231 من ق.ل.ع يضيف بعداً أخلاقياً واجتماعياً للعقد، حيث ينص على أن "كل تعهد يجب تنفيذه بحسن نية. وهو لا يلزم بما وقع التصريح به فحسب، بل أيضاً بكل ملحقات الالتزام التي يقررها القانون، أو العرف أو الإنصاف وفقاً لما تقتضيه طبيعته".46 هذا المبدأ يفرض على المتعاقدين واجب الولاء والتعاون في تنفيذ العقد، ويسمح للقاضي بإضافة التزامات لم ينص عليها صراحة (كالتزام البائع بتقديم شهادات الضمان) إذا كانت من مستلزمات العقد.

نسبية آثار العقد (Effet relatif)

  • المبدأ: القاعدة العامة، المنصوص عليها في الفصل 228 من ق.ل.ع، هي أن آثار العقد تقتصر على أطرافه، فلا تنصرف إلى الغير الأجنبي عنه، بمعنى أن العقد لا يمكن أن يكسب الغير حقاً ولا أن يحمله التزاماً.44

  • تحديد الأطراف والغير:

    • الأطراف (Les parties): هم المتعاقدون الذين أبرموا العقد بأنفسهم أو بواسطة نوابهم.

    • الخلف العام (Les successeurs universels): وهم الورثة والموصى لهم بحصة من التركة. القاعدة هي أن آثار العقد (حقوقاً والتزامات) تنصرف إلى الخلف العام، فيعتبرون بمثابة امتداد لشخص السلف، ما لم يتبين من طبيعة العقد (كالعقود القائمة على الاعتبار الشخصي) أو من نص القانون أو من اتفاق المتعاقدين عكس ذلك (الفصل 229 ق.ل.ع).34

    • الخلف الخاص (Les successeurs à titre particulier): وهو من يتلقى من سلفه حقاً معيناً كان داخلاً في ذمته (كالمشتري والموهوب له). القاعدة أن آثار العقد الذي أبرمه السلف لا تنتقل إلى الخلف الخاص، إلا إذا كانت هذه الآثار من مستلزمات الشيء المنقول أو كانت محددة له.

    • الغير (Les tiers): هو كل شخص أجنبي تماماً عن العقد، لم يكن طرفاً فيه ولا خلفاً عاماً أو خاصاً لأحد أطرافه.

  • الاستثناءات على مبدأ النسبية: هناك حالات استثنائية يمكن فيها للعقد أن يرتب أثراً مباشراً للغير، وأهمها:

    • الاشتراط لمصلحة الغير (La stipulation pour autrui): وهو عقد يبرمه شخص يسمى "المشترط" مع شخص آخر يسمى "المتعهد"، يشترط فيه المشترط على المتعهد أن يقوم بأداء معين لمصلحة شخص ثالث أجنبي عن العقد يسمى "المنتفع". في هذه الحالة، يكتسب المنتفع حقاً مباشراً من العقد ذاته، يمكنه المطالبة به مباشرة من المتعهد، دون المرور عبر ذمة المشترط. ومثالها الشائع عقد التأمين على الحياة الذي يبرمه المؤمن له (المشترط) مع شركة التأمين (المتعهد) لمصلحة ورثته أو شخص معين (المنتفع).10

الجزء الثالث: أوصاف الالتزام وانتقاله وانقضاؤه

الفصل الأول: جزاء عدم تنفيذ الالتزام

إذا لم يقم المدين بتنفيذ التزامه التعاقدي طواعية، فإن القانون يمنح الدائن مجموعة من الوسائل القانونية لإجباره على التنفيذ أو لتعويضه عن الضرر الناتج عن عدم التنفيذ.

  • التنفيذ العيني الجبري: هو الأصل والغاية من التعاقد. فمتى كان التنفيذ العيني ممكناً، جاز للدائن أن يطالب به ويجبر المدين على أداء عين ما التزم به عن طريق القضاء. فإذا امتنع البائع عن تسليم المبيع، يمكن للمشتري استصدار حكم بإلزامه بالتسليم.48

  • التنفيذ بطريق التعويض (المسؤولية العقدية): إذا أصبح التنفيذ العيني مستحيلاً بخطأ المدين، أو كان ممكناً ولكنه غير مجدٍ للدائن أو مرهقاً بشكل كبير للمدين، فإن الالتزام يتحول إلى التزام بالتعويض.46 ويشمل التعويض، حسب الفصل 264 من ق.ل.ع، ما لحق الدائن من خسارة فعلية وما فاته من كسب، بشرط أن يكونا نتيجة مباشرة لعدم الوفاء بالالتزام.49

  • الفسخ (Résolution): هو جزاء خاص بالعقود الملزمة للجانبين (التبادلية). فإذا أخل أحد المتعاقدين بالتزامه، يحق للمتعاقد الآخر، الذي يكون قد نفذ التزامه أو مستعداً لتنفيذه، أن يطلب من القضاء حل الرابطة العقدية.1

    • أنواع الفسخ:

      1. الفسخ القضائي: هو الأصل العام، حيث لا يقع الفسخ إلا بحكم من المحكمة، التي تملك سلطة تقديرية في الاستجابة للطلب أو رفضه أو منح المدين أجلاً للتنفيذ (الفصل 259 ق.ل.ع).51

      2. الفسخ الاتفاقي: يجوز للمتعاقدين الاتفاق مسبقاً في العقد على أن يعتبر العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه بمجرد إخلال أحد الطرفين بالتزاماته، دون حاجة لحكم قضائي. وهذا ما يسمى بـ "الشرط الفاسخ الصريح".51

      3. الفسخ القانوني (الانفساخ): يقع بقوة القانون إذا أصبح تنفيذ التزام أحد الطرفين مستحيلاً بسبب قوة قاهرة لا يد له فيها. ففي هذه الحالة، ينقضي التزامه وينقضي معه الالتزام المقابل له، ويعتبر العقد مفسوخاً (الفصل 338 ق.ل.ع).53

    • آثار الفسخ: يترتب على الفسخ، كالبطلان، زوال العقد بأثر رجعي، وإعادة المتعاقدين إلى الحالة التي كانا عليها قبل التعاقد، مع إمكانية الحكم بالتعويض للدائن إذا كان لعدم التنفيذ ما يبرره.50

  • الوسائل المتاحة للدائن لضمان التنفيذ:

    • الدفع بعدم التنفيذ (L'exception d'inexécution): في العقود الملزمة للجانبين، إذا لم يقم أحد الطرفين بتنفيذ التزامه، يحق للطرف الآخر أن يمتنع بدوره عن تنفيذ التزامه المقابل إلى أن يقوم الطرف الأول بتنفيذ ما عليه. وهي وسيلة ضغط خاصة لا تتطلب حكماً قضائياً.57

    • حق الحبس (Le droit de rétention): هو حق يثبت للدائن الذي يحوز شيئاً مملوكاً لمدينه، في أن يمتنع عن تسليم هذا الشيء إلى أن يستوفي حقه الذي يكون مرتبطاً بالشيء المحبوس. كحق صاحب الفندق في حبس أمتعة النزيل ضماناً لأجرة الإقامة.59

الفصل الثاني: انتقال الالتزام

يمكن للالتزام، باعتباره عنصراً مالياً في ذمة الشخص، أن ينتقل من شخص لآخر. وهذا الانتقال قد يرد على الجانب الإيجابي للالتزام (حق الدائن) أو على جانبه السلبي (دين المدين).

  • حوالة الحق (Cession de créance): نظمها المشرع في الفصول 189 إلى 208 من ق.ل.ع. وهي اتفاق ينقل بموجبه الدائن الأصلي (ويسمى المحيل) حقه الشخصي تجاه المدين إلى شخص آخر يصبح هو الدائن الجديد (ويسمى المحال له).60

    • شروطها: تنعقد الحوالة بمجرد تراضي المحيل والمحال له، ولا يشترط رضا المدين (المحال عليه) لانعقادها، لأن تغيير شخص الدائن لا يثقل كاهله عادة.61 ولكن لكي تكون الحوالة نافذة في مواجهة المدين وفي مواجهة الغير، لا بد من

      تبليغها رسمياً للمدين أو قبوله لها في محرر ثابت التاريخ (الفصل 195 ق.ل.ع). فقبل هذا الإجراء، إذا وفى المدين للدائن الأصلي، تبرأ ذمته.60

    • آثارها: يترتب على الحوالة انتقال الحق المحال به إلى المحال له مع جميع توابعه وتأميناته (كالرهن والكفالة). كما يلتزم المحيل بأن يضمن للمحال له وجود الحق وقت الحوالة، ولكنه لا يضمن يسار المدين (قدرته على الوفاء) إلا إذا وجد اتفاق خاص بذلك.60

  • حوالة الدين (Cession de dette): على عكس حوالة الحق، لم ينظم المشرع المغربي حوالة الدين كنظرية عامة ومستقلة.62 هذا الفراغ التشريعي يعكس التأثر بالنظرة التقليدية التي تعتبر شخصية المدين عنصراً جوهرياً في الالتزام لا يمكن تغييره بسهولة دون موافقة الدائن. ومع ذلك، يمكن تحقيق نتيجة حوالة الدين (أي انتقال الدين من مدين إلى آخر) بوسائل قانونية أخرى أقرها المشرع، أهمها:

    • التجديد بتغيير المدين: وهو اتفاق بين الدائن والمدين الجديد على أن يحل هذا الأخير محل المدين الأصلي الذي تبرأ ذمته (الفصل 350 ق.ل.ع).33

    • الإنابة (Délégation): وهي أن يعطي المدين (المنيب) أمراً لشخص آخر (المناب) بأن يلتزم مباشرة تجاه الدائن (المناب لديه). إذا قبل الدائن هذه الإنابة وصرح بأنه يبرئ ذمة مدينه الأصلي، فإنها تؤدي إلى حوالة دين كاملة (إنابة كاملة). أما إذا لم يصرح بذلك، فإن المدين الجديد يضاف إلى المدين الأصلي (إنابة ناقصة).62

  • الحلول (Subrogation): هو أن يقوم شخص غير المدين الأصلي بوفاء الدين للدائن، فيحل هذا الشخص (الموفي) محل الدائن الأصلي في جميع حقوقه تجاه المدين. والحلول نوعان:

    • الحلول الاتفاقي: يتم باتفاق بين الموفي والدائن، أو بين الموفي والمدين (الفصل 212 و 213 ق.ل.ع).62

    • الحلول القانوني: يقع بقوة القانون في حالات محددة نص عليها الفصل 214 من ق.ل.ع، كحالة الدائن الذي يوفي دائناً آخر متقدماً عليه في المرتبة.68

الفصل الثالث: أسباب انقضاء الالتزام

ينقضي الالتزام وينتهي وجوده القانوني بعدة أسباب، بعضها يتم فيه الوفاء بالأداء المستحق، وبعضها ينقضي بما يعادل الوفاء، وبعضها ينقضي دون أي وفاء. وقد عدد الفصل 319 من ق.ل.ع هذه الأسباب.

الوفاء (Paiement)

الوفاء هو الطريق الطبيعي والأصلي لانقضاء الالتزام، ويقصد به قيام المدين بتنفيذ عين ما التزم به.33 ويجب أن يتم الوفاء للدائن أو من يمثله، وأن يكون الموفي أهلاً للتصرف في الشيء الذي وفى به.46 ويحق للمدين الذي وفى بالدين كاملاً أن يطلب استرداد سند الدين أو الحصول على مخالصة تثبت براءة ذمته.46

ما يعادل الوفاء

وهي طرق ينقضي بها الالتزام بأداء يختلف عن الأداء الأصلي ولكنه يقوم مقامه ويعادله في نظر القانون.

  • الوفاء بمقابل (Dation en paiement): وهو أن يقبل الدائن، استيفاءً لحقه، شيئاً آخر غير الشيء المستحق له أصلاً. هذا القبول يبرئ ذمة المدين.33

  • التجديد (Novation): هو اتفاق على إنهاء التزام قديم واستبداله بالتزام جديد يختلف عنه إما في محله أو في سببه أو في أحد طرفيه (الدائن أو المدين). التجديد يقضي على الالتزام القديم بكل تأميناته وتوابعه.33

  • المقاصة (Compensation): هي انقضاء دينين متقابلين بين شخصين، كل منهما دائن ومدين للآخر، وذلك في حدود الأقل منهما مقداراً. وتقع المقاصة بقوة القانون متى توافرت شروطها (الفصل 357 وما بعده).33

  • اتحاد الذمة (Confusion): وهو انقضاء الالتزام لاجتماع صفتي الدائن والمدين في شخص واحد بالنسبة لنفس الدين، كأن يرث الدائن مدينه. فلا يعقل أن يطالب الشخص نفسه بنفسه.70

الانقضاء دون وفاء

وهي حالات ينقضي فيها الالتزام وتبرأ ذمة المدين دون أن يقدم أي أداء للدائن.

  • الإبراء (Remise de dette): هو تنازل الدائن عن حقه بإرادته المنفردة ودون مقابل. وهو تصرف من أعمال التبرع، يتم بإرادة الدائن وحدها ولا يتوقف على قبول المدين، ولكنه يرتد إذا رفضه المدين فوراً.33

  • استحالة التنفيذ: ينقضي الالتزام إذا أصبح محله مستحيلاً استحالة طبيعية أو قانونية، بشرط أن تكون هذه الاستحالة لاحقة لنشأة الالتزام، وأن تكون بسبب أجنبي لا يد للمدين فيه (قوة قاهرة أو حادث فجائي)، وألا يكون المدين في حالة مطل (الفصل 335 ق.ل.ع).33

  • التقادم المسقط (Prescription extinctive): هو نظام قانوني يقوم على فكرة أن الحقوق لا تبقى مؤبدة إذا أهمل أصحابها المطالبة بها. فهو لا يسقط الالتزام نفسه (الذي يتحول إلى التزام طبيعي يصح الوفاء به)، بل يسقط الحق في رفع الدعوى للمطالبة به قضائياً بعد مرور مدة معينة يحددها القانون.73

    • المدة العامة للتقادم في القانون المغربي هي خمس عشرة سنة (الفصل 387 ق.ل.ع).77

    • هناك تقادمات خاصة أقصر مدة، كتقادم دعاوى الأطباء والمحامين (سنة واحدة حسب الفصل 388)، وتقادم دعاوى الأجور (سنتان حسب مدونة الشغل)، وتقادم دعاوى المسؤولية التقصيرية (خمس سنوات).79

    • التقادم ليس من النظام العام، فلا يمكن للقاضي أن يحكم به من تلقاء نفسه، بل يجب على من له مصلحة (المدين) أن يتمسك به.77

خاتمة: تقييم واستشراف

خلاصة المبادئ الأساسية

لقد استعرض هذا التقرير المعالم الكبرى للنظرية العامة للالتزامات والعقود في القانون المغربي. واتضح أن هذه النظرية تقوم على أسس متينة ومبادئ محورية، في مقدمتها الطبيعة المزدوجة لمصادرها التي تجمع بين التأثيرات اللاتينية والجذور الإسلامية، مما منحها مرونة وقدرة على الاستمرار. كما أن مبدأ سلطان الإرادة، رغم تراجعه النسبي، لا يزال هو المبدأ الحاكم في إنشاء العقود، مع تقييده بضوابط النظام العام والأخلاق الحميدة. ويظل التراضي السليم الخالي من العيوب هو الركن الأهم لقيام أي علاقة تعاقدية، بينما يمنح مبدأ القوة الملزمة للعقد ("العقد شريعة المتعاقدين") الاستقرار والأمن القانوني اللازمين للمعاملات.

تقييم مدى المواكبة والتحديات المعاصرة

إن بقاء ظهير 1913 كنص أساسي لأكثر من قرن من الزمان يطرح تساؤلاً مشروعاً حول مدى قدرته على مواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية الهائلة. ففي حين أثبتت المبادئ العامة التي يقوم عليها (كحسن النية، والسبب المشروع، والمسؤولية عن الخطأ) مرونة كبيرة سمحت للقضاء بتكييفها مع وقائع جديدة، إلا أن هناك مجالات ظهر فيها قصور النص، مما استدعى تدخل المشرع بنصوص خاصة.

هذا الوضع خلق ما يمكن تسميته بـ "مفارقة القانون الحي": نص أساسي قديم ومستقر، يتعايش مع تشريعات قطاعية حديثة ومتغيرة. فالمشرع لم يلجأ إلى تعديل شامل للظهير، بل فضل إصدار قوانين خاصة تعالج المسائل المستجدة، كالقانون رقم 31.08 القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك، الذي فرض التزامات جديدة على المهنيين (كالالتزام بالإعلام والحق في التراجع) لم تكن معروفة في النظرية الكلاسيكية للعقد.7 وكذلك القانون رقم 53.05 المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية، الذي أقر حجية الوثيقة الإلكترونية والتوقيع الإلكتروني، وأخضع العقود المبرمة عبر الإنترنت لقواعد خاصة.6 هذه القوانين الخاصة تعمل كطبقات إضافية فوق "الشريعة العامة" التي يمثلها ق.ل.ع، فتكملها أو تستثني من أحكامها في نطاقها المحدد.

دور القضاء في تطوير النظرية

أمام هذا الاستقرار التشريعي النسبي للنص الأصلي، برز الدور المحوري للاجتهاد القضائي، وعلى رأسه محكمة النقض، كآلية حيوية لتطوير وتحديث وتكييف قواعد النظرية العامة. فالقضاء المغربي لم يقف موقفاً جامداً من النصوص، بل عمل على بث الروح فيها لتستجيب لمتطلبات العدالة المعاصرة. ويتجلى هذا الدور في عدة جوانب:

  • تفسير المفاهيم المرنة: لقد استثمر القضاء المفاهيم الفضفاضة في الظهير، كـ"النظام العام" و"الأخلاق الحميدة" و"حسن النية"، لفرض حلول منصفة في قضايا لم يتوقعها المشرع سنة 1913، كضبط الشروط التعسفية في عقود الإذعان.21

  • خلق نظريات قضائية: كما رأينا، فإن الاجتهاد القضائي هو الذي بلور "نظرية الغبن الاستغلالي" انطلاقاً من الفصل 54 الغامض، ووضع شروطها وضوابطها.28 كما أنه يراقب سلطة قضاة الموضوع في تقدير التعويض عن الفسخ لضمان تحقيق التوازن العقدي.56

  • توحيد التطبيق: تلعب محكمة النقض دوراً حاسماً في توحيد تفسير وتطبيق قانون الالتزامات والعقود على صعيد محاكم المملكة، مما يضمن الأمن القانوني واستقرار المعاملات، وهو ما تعكسه قراراتها المبدئية التي تصدرها سنوياً.83

في الختام، يمكن القول إن النظرية العامة للالتزامات والعقود في المغرب هي مثال حي على قانون يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين الاستقرار التشريعي والديناميكية القضائية. ورغم قدم نصه التأسيسي، فإنه يظل، بفضل مرونة مبادئه وغنى تراثه المزدوج وتطور اجتهاده القضائي، قادراً على تنظيم الحاضر واستشراف المستقبل.

تعليقات