فن الترجيح في القضاء المغربي: كيف يوازن القاضي بين الأدلة المتعارضة؟
مقدمة: عندما تتصادم الحجج
في ساحة القضاء، لا تسير الأمور دائمًا على وتيرة واحدة؛ فغالبًا ما يجد القاضي نفسه أمام أدلة وحجج متناقضة يقدمها الخصوم، كلٌّ منها يدعم ادعاءه. هنا، تبرز إحدى أهم وأدق مهام القاضي، وهي عملية "الترجيح بين البينات"، أي المفاضلة بين الأدلة المتعارضة لاختيار أقواها وأكثرها إقناعًا لتأسيس حكمه. 1
يستند نظام الإثبات المغربي إلى منظومة قانونية غنية تجمع بين أصول الفقه الإسلامي، خاصة المذهب المالكي الذي يُعد مصدرًا تاريخيًا أساسيًا، وبين القواعد الوضعية الحديثة المكرسة في نصوص قانونية كقانون الالتزامات والعقود ومدونة الحقوق العينية. 3 وقد وضعت مدونة الحقوق العينية في مادتها الثالثة إطارًا عامًا لهذه العملية، مؤكدة أنه عند تعارض البينات وعدم إمكانية الجمع بينها، يُعمَل بقواعد الترجيح. 1
يهدف هذا المقال إلى استعراض أهم قواعد الترجيح المعمول بها في القضاء المغربي، مبيناً كيف يوازن القاضي بين الحجج المختلفة، والدور المحوري الذي تلعبه سلطته التقديرية في سبيل الوصول إلى الحقيقة وتحقيق العدالة.
الجزء الأول: المنهجية القضائية في التعامل مع الأدلة المتعارضة
قبل اللجوء إلى ترجيح دليل على آخر، يتبع القاضي منهجية متدرجة تهدف إلى حل التعارض بأكبر قدر ممكن من التوافق. 1
1. الجمع والتوفيق بين الأدلة
القاعدة الأولى التي يسعى القاضي لتطبيقها هي محاولة الجمع والتوفيق بين الأدلة المتعارضة، فإذا أمكن الجمع بين البينتين، فلا يُلجأ إلى الترجيح. 1 هذه القاعدة تعكس مبدأ احترام كافة الأدلة المقدمة ومحاولة إعطاء كل دليل أثره القانوني دون إهدار قيمته.
2. الترجيح عند استحالة الجمع
عندما يكون التعارض بين الأدلة كليًا بحيث يستحيل التوفيق بينها، ينتقل القاضي إلى مرحلة الترجيح. 1 والترجيح هو عملية فكرية وقانونية تهدف إلى تقوية أحد الدليلين المتعارضين على الآخر بناءً على مجموعة من الضوابط والقواعد المستقرة فقهًا وقضاءً. 1
3. تساقط البينات كحل أخير
في حالات نادرة، قد تتساوى الأدلة في قوتها تمامًا بحيث يتعذر على القاضي ترجيح أحدها على الآخر، وهنا قد يلجأ إلى قاعدة "تساقط البينات"، أي استبعاد كلا الدليلين والبحث عن وسائل إثبات أخرى أو الحكم بناءً على حالة الحيازة الفعلية. 4
الجزء الثاني: أهم قواعد الترجيح في المادة العقارية والمدنية
حدد المشرع المغربي، استلهامًا من الفقه المالكي، مجموعة من الضوابط للترجيح بين الحجج، خاصة في المنازعات العقارية، ويمكن القياس عليها في مجالات أخرى. 1
1. قواعد الترجيح الموضوعية (المتعلقة بمضمون الحجة)
تركز هذه القواعد على محتوى الدليل نفسه:
تقديم الحجة التي تبين سبب الملك: تُرجح البينة التي تذكر سبب تملك العقار (كالشراء أو الإرث) على البينة التي تقتصر على إثبات الملكية دون ذكر سببها. 1
تقديم بينة الملك على بينة الحوز: الحجة التي تثبت أصل الملكية تكون أقوى من الحجة التي تثبت مجرد الحيازة أو التصرف (الحوز). 1
تقديم بينة النقل على بينة الاستصحاب: الحجة التي تثبت انتقال الملكية (بينة النقل) تُقدم على الحجة التي تثبت فقط استمرار حالة سابقة (بينة الاستصحاب). 4
2. قواعد الترجيح الشكلية (المتعلقة بصفات الوثيقة)
تتعلق هذه القواعد بالخصائص الشكلية للدليل:
تقديم الحجة المؤرخة على غير المؤرخة: الوثيقة التي تحمل تاريخًا تكون لها الأسبقية على تلك التي لا تحمل تاريخًا. 2
تقديم الحجة الأسبق تاريخًا: عند تعارض حجتين مؤرختين، يُعمل بالحجة الأقدم تاريخًا، لأنها تثبت الحق لصاحبها أولاً. 2
ترجيح الحجة الرسمية على العرفية: كقاعدة عامة، تتمتع الوثيقة الرسمية (التي يحررها موظف عمومي كالعدول أو الموثقين) بقوة ثبوتية أعلى من الوثيقة العرفية (التي يحررها الأفراد)، ولا يمكن الطعن في الرسمية إلا بالزور. 5
3. قواعد الترجيح المتعلقة بالشهود
عندما يكون الإثبات قائمًا على شهادة الشهود، يتم الترجيح وفقًا لما يلي:
الترجيح بزيادة العدالة: تُرجح شهادة الشهود الأكثر عدالة وتقوى، حتى وإن كانوا أقل عددًا. 1
الترجيح بزيادة العدد: عند تساوي الشهود في درجة العدالة، يمكن للقاضي أن يرجح البينة التي استندت إلى عدد أكبر من الشهود. 2
الجزء الثالث: السلطة التقديرية للقاضي ودورها الحاسم
على الرغم من وجود هذه القواعد المنظمة، فإنها لا تطبق بشكل آلي. فالقانون يمنح القاضي سلطة تقديرية واسعة في وزن الأدلة وتكوين قناعته الوجدانية. 5
قاضي الموضوع خبير الخبراء: للقاضي كامل الصلاحية في تقدير قيمة كل دليل، بما في ذلك تقارير الخبرة وشهادة الشهود والقرائن القضائية التي يستنبطها من وقائع الدعوى. 5
الاقتناع الصميم المبني على اليقين: يجب على القاضي أن يبني حكمه على الجزم واليقين، وأن يعلل قراره ويبين الأسباب التي دفعته إلى ترجيح دليل على آخر. 10
الترجيح بين الأدلة المختلفة: في حالة تعارض دليل كتابي مع شهادة شهود، يميل القضاء غالبًا إلى ترجيح الدليل الكتابي، لكن تبقى للقاضي سلطة تقدير الظروف المحيطة بكل قضية. 13
خاتمة: التوازن بين النص والاجتهاد
إن قواعد الترجيح بين الأدلة في القانون المغربي تمثل نظامًا متكاملاً يهدف إلى تمكين القاضي من حسم النزاعات المعقدة التي تتضارب فيها الحجج. هذا النظام يوازن ببراعة بين القواعد الفقهية الموروثة والنصوص القانونية الحديثة، مانحًا القاضي الأدوات اللازمة لتقييم الأدلة، وفي الوقت نفسه، معززًا سلطته التقديرية التي تظل الضمانة الأخيرة للوصول إلى حكم عادل ومنصف.
شكرا
ردحذف