القائمة الرئيسية

الصفحات

اهم مقتضيات قانون 03 23 المتعلق بالمسطرة الجنائية

 

المسطرة الجنائية المغربية: تحليل شامل للقانون والممارسة والإصلاح

مقدمة: بنية العدالة الجنائية في المغرب

يُمثل قانون المسطرة الجنائية، أو كما يُعرف بـ "المسطرة الجنائية"، الإطار الإجرائي الذي تُطبق من خلاله قواعد القانون الجنائي الموضوعي في المملكة المغربية. فهو ليس مجرد مجموعة من القواعد الشكلية، بل هو الآلية الحيوية التي تترجم نصوص التجريم والعقاب إلى واقع ملموس، منظمةً مسار الدعوى الجنائية منذ لحظة وقوع الجريمة وحتى تنفيذ الحكم النهائي. ويختلف هذا القانون جوهرياً عن المسطرة المدنية؛ ففي حين تهدف الأخيرة إلى حماية الحقوق الخاصة للأفراد في نزاعاتهم الشخصية، تنطلق المسطرة الجنائية استجابةً لوقوع جريمة تهدد النظام العام والسلم الاجتماعي، مما يجعل المجتمع، ممثلاً في النيابة العامة، طرفاً أصيلاً في الخصومة.

تكمن الفلسفة الجوهرية للمسطرة الجنائية الحديثة في تحقيق توازن دقيق بين ضرورات متعارضة: من جهة، سلطة الدولة في البحث عن الجرائم ومتابعة مرتكبيها حمايةً للمجتمع (حماية المجتمع)، ومن جهة أخرى، واجبها في صون الحقوق والحريات الفردية من أي تعسف أو شطط (حماية الحريات الفردية). هذا التوازن ليس مجرد هدف نظري، بل هو المبدأ الموجه الذي يشكل جوهر القانون القائم رقم 22.01، والمحرك الأساسي لجهود الإصلاح المستمرة، وأبرزها مشروع القانون رقم 03.23 الذي تمت المصادقة عليه مؤخراً، والذي يأتي استجابةً لمقتضيات دستور 2011 والتزامات المغرب الدولية.

يقدم هذا التقرير تحليلاً شاملاً للمسطرة الجنائية المغربية، منطلقاً من أركانها ومبادئها الأساسية، ثم متتبعاً للمسار الزمني للدعوى العمومية عبر مراحلها المختلفة، ومحدداً أدوار الفاعلين الرئيسيين في نظام العدالة الجنائية. كما يسلط الضوء على الضمانات المكفولة للحريات الفردية ضمن هذا الإطار الإجرائي، ويختتم بتحليل معمق لمشروع الإصلاح الأخير، وما أثاره من نقاشات تعكس مستقبل العدالة الجنائية في المملكة.

الجزء الأول: الركائز الأساسية للمسطرة الجنائية المغربية

يقوم صرح المسطرة الجنائية المغربية على مجموعة من المبادئ الأساسية التي تشكل الضمانات الجوهرية لتحقيق العدالة. هذه المبادئ ليست مجرد قواعد منفصلة، بل هي منظومة متكاملة ومترابطة، حيث إن المساس بأحدها يقوض بالضرورة المبادئ الأخرى. فافتراض البراءة لا قيمة له دون محاكمة عادلة تتيح دحضه بأدلة قانونية، وكلاهما يفقد معناه إذا لم تكن الإجراءات المتبعة محكومة بنصوص قانونية واضحة ومسبقة.

1.1 مبدأ الشرعية الإجرائية

يُعد مبدأ الشرعية الإجرائية حجر الزاوية في بناء دولة الحق والقانون، وهو المبدأ الذي يقضي بأن جميع الإجراءات الجنائية، بدءاً من التوقيف والاعتقال، ومروراً بالتحقيق والمتابعة، ووصولاً إلى الإدانة وتنفيذ العقوبة، يجب أن تكون منصوصاً عليها ومُنظمة بموجب القانون. هذا المبدأ هو النظير الإجرائي للقاعدة الموضوعية "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص"، ويمثل قيداً أساسياً على سلطات إنفاذ القانون والسلطة القضائية، بحيث لا يمكن اتخاذ أي إجراء ماس بالحرية دون سند قانوني صريح. ويكرس الدستور المغربي هذا المبدأ في فصله 23 الذي ينص على أنه "لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته، إلا في الحالات وطبقاً للإجراءات التي ينص عليها القانون".

1.2 قرينة البراءة

تعتبر قرينة البراءة من أسمى الضمانات التي كرسها المشرع المغربي، حيث نصت المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية صراحة على أن "كل متهم أو مشتبه فيه بارتكاب جريمة يعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانوناً بمقرر مكتسب لقوة الشيء المقضي به، بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية". هذا المبدأ، الذي يحظى أيضاً بحماية دستورية، ليس مجرد افتراض نظري، بل تترتب عليه نتائج عملية حاسمة.

الآثار المترتبة على قرينة البراءة:

  • عبء الإثبات: يقع عبء إثبات ارتكاب الجريمة بالكامل على عاتق سلطة الاتهام، المتمثلة في النيابة العامة، ولا يُكلَّف المتهم بإثبات براءته.

  • تفسير الشك: يترتب على هذه القرينة قاعدة جوهرية مفادها أن الشك يجب أن يُفسر دائماً لمصلحة المتهم (يفسر الشك لفائدة المتهم)، مما يعني أن الإدانة لا يمكن أن تبنى على الاحتمال أو الظن، بل على اليقين الذي لا يتطرق إليه شك.

  • استثنائية الإجراءات السالبة للحرية: تقتضي قرينة البراءة أن تكون الإجراءات الماسة بالحرية، كالحراسة النظرية والاعتقال الاحتياطي، تدابير استثنائية لا يُلجأ إليها إلا في حالات الضرورة القصوى التي يحددها القانون، وليس كقاعدة عامة.

v

تستمد ضمانات المحاكمة العادلة جذورها من دستور المملكة لسنة 2011، ومن المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، وتهدف إلى تحقيق التوازن بين أطراف الخصومة الجنائية وتوفير "أسلحة متكافئة" للدفاع في مواجهة سلطة الاتهام. وتتجلى هذه الضمانات في مجموعة من المبادئ الإجرائية التي تحكم مرحلة المحاكمة على وجه الخصوص.

المبادئ الإجرائية الأساسية للمحاكمة العادلة:

  • العلنية: كقاعدة عامة، يجب أن تكون جلسات المحاكمة علنية، مما يسمح للجمهور بمراقبة سير العدالة ويضمن شفافية الإجراءات. ولا يمكن الخروج عن هذا المبدأ إلا في حالات استثنائية يحددها القانون، كالحفاظ على النظام العام أو حماية الآداب.

  • الشفوية: تقضي هذه القاعدة بضرورة عرض جميع الأدلة ومناقشتها شفوياً وحضورياً أمام هيئة الحكم. وبالتالي، لا يمكن للمحكمة أن تبني قناعتها على المحاضر والوثائق المكتوبة في مرحلة البحث والتحقيق وحدها، بل يجب أن تخضع كل الأدلة للنقاش الشفوي والمواجهة في الجلسة.

  • الحضورية (التواجهية): يكفل هذا المبدأ حق كل طرف في الخصومة، وخاصة المتهم، في الحضور شخصياً لجميع إجراءات المحاكمة، والعلم بجميع أدلة الإثبات القائمة ضده، ومناقشتها، واستجواب الشهود، وتقديم كافة دفوعه ووسائل دفاعه.

الجزء الثاني: التسلسل الزمني للدعوى العمومية

تتبع الدعوى العمومية مساراً إجرائياً دقيقاً يمكن تشبيهه بـ "قمع إجرائي" (Procedural Funnel)، حيث تبدأ الإجراءات واسعة النطاق في مرحلة البحث الأولي لتشمل العديد من الوقائع والمشتبه فيهم، ثم تضيق تدريجياً عبر مراحل التصفية والتمحيص القضائي، لتصل في النهاية القضايا الأكثر جدية وثبوتاً فقط إلى مرحلة المحاكمة النهائية. هذا التصميم يهدف إلى تحقيق الكفاءة القضائية وحماية الأفراد من الخضوع لإجراءات المحاكمة الكاملة بناءً على أدلة واهية.

2.1 إقامة وسقوط الدعوى العمومية

الدعوى العمومية هي الوسيلة القانونية التي يمارسها المجتمع، عبر جهاز النيابة العامة، للمطالبة بتوقيع العقاب على مرتكب الجريمة. وتعتبر النيابة العامة هي الطرف الأصيل المخول له قانوناً إقامة وممارسة الدعوى العمومية، وإن كان المشرع قد منح للمتضرر وبعض الإدارات حق إقامتها في حالات محددة. وكما أن للدعوى العمومية أسباباً لإقامتها، فإن لها أسباباً لسقوطها وانقضائها، مما يضع حداً للمتابعة الجنائية. وتشمل هذه الأسباب وفاة الشخص المتابع، والعفو الشامل، ونسخ المقتضيات الجنائية التي تجرم الفعل، والتقادم، والصلح عندما ينص القانون صراحة على أثره المسقط للدعوى.

2.2 البحث التمهيدي

تمثل هذه المرحلة نقطة الانطلاق في المسطرة الجنائية، وهي مجموعة من الإجراءات التي تقوم بها الشرطة القضائية تحت إشراف النيابة العامة، بهدف التثبت من وقوع الجرائم وجمع الأدلة عنها والبحث عن مرتكبيها. ويُميز المشرع بين نظامين مختلفين للبحث التمهيدي بناءً على درجة الاستعجال وخطورة الموقف:

  • البحث العادي: يجري في الحالات التي لا تتسم بطابع الاستعجال، أي بعد مرور فترة زمنية على ارتكاب الجريمة. وفي هذا الإطار، تكون صلاحيات الشرطة القضائية مقيدة نسبياً، حيث يتطلب الأمر، على سبيل المثال، الحصول على موافقة صريحة ومكتوبة من صاحب المنزل لإجراء التفتيش.

  • حالة التلبس: وهي الحالة التي تُضبط فيها الجريمة أثناء ارتكابها أو على إثر ذلك بوقت وجيز. يمنح القانون في هذه الحالة صلاحيات استثنائية وواسعة للشرطة القضائية، كإجراء التفتيشات ودخول المنازل دون الحاجة لإذن مسبق، ووضع المشتبه فيهم تحت الحراسة النظرية، وذلك لضرورة الحفاظ على الأدلة التي قد تندثر مع مرور الوقت.

2.3 التحقيق الإعدادي

يعد التحقيق الإعدادي مرحلة قضائية بامتياز، يتولاها قاضي التحقيق، وهو قاض مستقل عن النيابة العامة وهيئة الحكم، ويعمل كحلقة وصل وسيطة بين مرحلة البحث البوليسي ومرحلة المحاكمة. دوره الأساسي هو تعميق البحث والتحري في القضايا الجنائية المعقدة، وجمع الأدلة سواء كانت في صالح الاتهام أو في صالح الدفاع، وتصفية الملفات لتحديد مدى كفاية الأدلة لإحالة المتهم على المحاكمة.

يكون التحقيق إلزامياً في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد أو التي يصل حدها الأقصى إلى 30 سنة، وكذلك في الجرائم المرتكبة من طرف الأحداث. ويكون اختيارياً في باقي الجنايات وبعض الجنح بنص خاص. ومن الجدير بالذكر أن مشروع القانون الجديد يهدف إلى تقليص نطاق التحقيق الإلزامي وجعله اختيارياً حتى في أخطر الجنايات، وهو تعديل قد يغير من ديناميكية "القمع الإجرائي" بشكل كبير. تشمل إجراءات التحقيق استنطاق المتهم، والاستماع للشهود، وإجراء المعاينات والتفتيشات، والأمر بإجراء الخبرات. وفي نهاية التحقيق، يصدر قاضي التحقيق أمراً قضائياً إما بعدم المتابعة لعدم كفاية الأدلة، أو بالإحالة على هيئة الحكم المختصة.

2.4 المحاكمة

تعتبر المحاكمة المرحلة الحاسمة التي يتم فيها عرض القضية على هيئة الحكم للبت فيها بشكل نهائي. وتختلف المحكمة المختصة حسب طبيعة الجريمة؛ حيث تنظر المحاكم الابتدائية في المخالفات والجنح، بينما تختص غرف الجنايات بمحاكم الاستئناف بالنظر في الجنايات. تتميز إجراءات المحاكمة بالعلنية والشفوية والحضورية، حيث يتم استدعاء الأطراف، والتحقق من هوية المتهم، وتلاوة التهم الموجهة إليه، ثم تقديم الأدلة ومناقشتها من طرف النيابة العامة والدفاع، والاستماع للشهود والخبراء، وتقديم المرافعات النهائية، قبل أن تختلي هيئة الحكم للمداولة وإصدار حكمها. ويجب على القضاة أن يبنوا حكمهم بالإدانة على اقتناعهم الصميم، الذي يتكون لديهم من خلال ما راج أمامهم في الجلسة من حجج وأدلة نوقشت بشكل حضوري وشفوي.

2.5 طرق الطعن

أقر المشرع آليات لمراجعة الأحكام القضائية بهدف تدارك الأخطاء المحتملة وضمان تحقيق العدالة. وتنقسم طرق الطعن إلى قسمين:

  • طرق الطعن العادية: تسمح بإعادة نشر القضية من جديد أمام محكمة أعلى درجة للنظر في وقائعها وقانونها.

    • التعرض: هو طريق طعن متاح للمحكوم عليه غيابياً، يهدف إلى إعادة محاكمته من جديد أمام نفس المحكمة التي أصدرت الحكم الغيابي.

    • الاستئناف: هو الطريق الرئيسي للطعن، وينقل النزاع برمته إلى محكمة الاستئناف (أو الغرفة الاستئنافية بالمحكمة الابتدائية) لتعيد النظر فيه واقعاً وقانوناً.

  • طرق الطعن غير العادية: لا تهدف إلى إعادة المحاكمة، بل تقتصر على مراقبة تطبيق القانون أو تصحيح أخطاء جوهرية محددة.

    • النقض: يمارس أمام محكمة النقض، وهي أعلى هيئة قضائية في المملكة. ودورها لا يتمثل في إعادة فحص وقائع القضية، بل يقتصر على مراقبة مدى تطبيق محاكم الموضوع للقانون تطبيقاً سليماً.

    • إعادة النظر: طريق استثنائي يهدف إلى مراجعة حكم نهائي حائز لقوة الشيء المقضي به في حالات حصرية نص عليها القانون، كظهور وقائع جديدة أو أدلة لم تكن معلومة أثناء المحاكمة وتثبت براءة المحكوم عليه.

الجزء الثالث: الفاعلون الرئيسيون في نظام العدالة الجنائية

يتفاعل داخل منظومة المسطرة الجنائية عدد من الفاعلين المؤسساتيين الذين تتكامل أدوارهم وتتوازن صلاحياتهم لضمان سير العدالة.

3.1 الشرطة القضائية

تعتبر الشرطة القضائية الجهاز التنفيذي الأول الذي يباشر الإجراءات الجنائية على أرض الواقع. وتتكون من فئات مختلفة تشمل الضباط السامين (قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق)، وضباط الشرطة القضائية العاديين (من الأمن الوطني والدرك الملكي)، وأعوان الشرطة القضائية. تتمثل مهمتها الأساسية في التثبت من وقوع الجرائم وجمع الأدلة عنها والبحث عن مرتكبيها، وتنفيذ أوامر وإنابات السلطات القضائية. تعمل الشرطة القضائية في مهامها القضائية تحت السلطة المباشرة للنيابة العامة ورقابتها، وهو ما سعى مشروع القانون الجديد إلى تعزيزه عبر إشراك رئيس النيابة العامة في إجراءات تعيين وتنقيط ضباط الشرطة القضائية.

3.2 النيابة العامة

تمثل النيابة العامة الحق العام والمجتمع في الخصومة الجنائية، وهي هيئة قضائية قائمة بذاتها، تتميز ببنيتها الهرمية التي يرأسها الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، بصفته رئيساً للنيابة العامة. وقد شكل استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية (وزارة العدل) أحد أهم الإصلاحات الهيكلية في السنوات الأخيرة. تتمتع النيابة العامة بصلاحيات واسعة تشمل تحريك الدعوى العمومية وممارستها، والإشراف المباشر على عمل الشرطة القضائية وتوجيه أبحاثها، واتخاذ القرارات بشأن مآل الملفات (متابعة، حفظ، أو طلب تحقيق)، والسهر على تنفيذ السياسة الجنائية للدولة.

3.3 قاضي التحقيق

يحتل قاضي التحقيق موقعاً محورياً في القضايا الجنائية الهامة. وهو قاض من قضاة الحكم، يتميز باستقلاليته عن النيابة العامة، وتتمثل مهمته في إجراء تحقيق قضائي محايد ومستقل، يهدف إلى جمع كافة الأدلة، سواء كانت أدلة إثبات أو أدلة نفي. يمتلك قاضي التحقيق صلاحيات تحقيقية واسعة (استنطاق، تفتيش، حجز، استماع للشهود، انتداب خبراء) وصلاحيات قسرية تمس بحرية الأفراد، أهمها إصدار الأوامر القضائية كالأمر بالحضور، أو إلقاء القبض، أو الإيداع في السجن (الاعتقال الاحتياطي).

3.4 هيئة الحكم

تتكون هيئة الحكم من قضاة المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف الذين يتولون مهمة الفصل في القضايا المعروضة عليهم. وتتمثل وظيفتهم في إدارة جلسات المحاكمة، والاستماع إلى أطراف الدعوى ومرافعاتهم، وتقييم الأدلة المعروضة عليهم، والمداولة لإصدار حكم بالإدانة أو البراءة بناءً على اقتناعهم الصميم. وتنعقد الجلسات في القضايا الجنائية غالباً في إطار القضاء الجماعي، حيث تتألف الهيئة من ثلاثة قضاة في الجنح الاستئنافية وخمسة قضاة في غرف الجنايات، مما يضمن التداول والتروي في اتخاذ القرارات. كما أن حضور النيابة العامة في الجلسات الزجرية يعتبر إلزامياً تحت طائلة بطلان الإجراءات.

الجزء الرابع: ضمانات الحريات الفردية في الإطار الإجرائي

على الرغم من أن المسطرة الجنائية تمنح الدولة سلطات واسعة للتحقيق والمتابعة، إلا أنها تضع في المقابل سياجاً من الضمانات لحماية الحقوق والحريات الفردية. ومع ذلك، يظل هناك توتر مستمر بين النص القانوني الذي يكرس هذه الحقوق، والممارسة العملية التي قد تشهد تجاوزات أو تهاوناً في تطبيقها. وتهدف الإصلاحات التشريعية المتعاقبة إلى سد هذه الفجوة عبر جعل الحقوق أكثر وضوحاً والإجراءات أكثر شفافية.

4.1 الحراسة النظرية

الحراسة النظرية هي تدبير سالب للحرية تتخذه الشرطة القضائية في مرحلة البحث التمهيدي، ويؤكد القانون والممارسة القضائية على طابعه الاستثنائي. لا يمكن اللجوء إليه إلا في الجنايات والجنح المعاقب عليها بالحبس، وعندما تقتضي ضرورة البحث ذلك. وقد حدد المشرع مدة الحراسة النظرية بـ 48 ساعة، يمكن تمديدها مرة واحدة لمدة 24 ساعة بإذن كتابي معلل من النيابة العامة في الجرائم العادية.

حقوق الشخص الموضوع تحت الحراسة النظرية:

  • الحق في التزام الصمت: يجب إشعار المشتبه فيه بحقه في عدم الإدلاء بأي تصريح، وقد أكد مشروع القانون الجديد صراحة على أن صمته لا يمكن تفسيره كاعتراف ضمني بالتهمة المنسوبة إليه.

  • الحق في الاتصال بمحام: شهد هذا الحق تطوراً كبيراً، حيث يهدف مشروع القانون الجديد إلى تمكين المشتبه فيه من الاتصال بمحاميه منذ الساعة الأولى لوضعه تحت الحراسة، وهو ما يمثل نقلة نوعية مقارنة بالوضع الحالي.

  • الحق في إعلام العائلة وإجراء فحص طبي: يضمن القانون حق المشتبه فيه في إعلام عائلته بتوقيفه، وحقه في طلب إجراء فحص طبي.

4.2 الاعتقال الاحتياطي

يُعرَّف الاعتقال الاحتياطي بأنه إيداع المتهم في السجن قبل صدور حكم نهائي في قضيته. ورغم أن القانون ينص على أنه "تدبير استثنائي"، فإن العديد من التقارير الحقوقية والتحليلات القانونية تشير إلى أن الممارسة العملية حولته في كثير من الأحيان إلى قاعدة، حيث ترتفع نسب المعتقلين احتياطياً في السجون بشكل مقلق، مما يمس في الصميم بقرينة البراءة.

وقد سعى مشروع القانون الجديد إلى ترشيد هذا الإجراء عبر تحديد الحالات التي يجوز فيها الأمر به بشكل دقيق وحصري، كوجود خشية من عرقلة سير إجراءات التحقيق، أو لوضع حد للجريمة أو منع تكرارها، أو للحفاظ على الأدلة، أو لضمان حضور المتهم للمحاكمة. كما أن مدة الاعتقال الاحتياطي محددة قانوناً بآجال قصوى لا يمكن تجاوزها، وتختلف حسب طبيعة الجريمة (جنحة أو جناية). وللحد من اللجوء إليه، نص المشرع على بدائل كالمراقبة القضائية، التي تفرض على المتهم التزامات معينة دون سلبه حريته، وأضاف المشروع الجديد آلية المراقبة الإلكترونية كبديل إضافي.

4.3 حقوق الدفاع

تعتبر حقوق الدفاع ركناً أساسياً ومقدساً في المحاكمة العادلة، وهي مكفولة في جميع مراحل المسطرة، بدءاً من البحث التمهيدي وانتهاءً بصدور الحكم النهائي. ويشمل هذا المفهوم الواسع حق المتهم في العلم بالتهم الموجهة إليه، وحقه في الاطلاع على ملف القضية، وحقه في مناقشة الأدلة، وحقه في الاستعانة بمحام لمؤازرته. وقد شهد حق الاستعانة بمحام تطوراً ملحوظاً، حيث يسعى الإصلاح الجديد إلى ترسيخه منذ اللحظات الأولى للتوقيف، إدراكاً لأهمية المؤازرة القانونية في مرحلة البحث التمهيدي التي تعتبر من أخطر المراحل التي يمر منها المشتبه فيه.

الجزء الخامس: تطور ومستقبل المسطرة الجنائية المغربية

إن النقاش الدائر حول مشروع القانون رقم 03.23 ليس مجرد نقاش قانوني تقني، بل هو مرآة تعكس التجاذبات السياسية والاجتماعية الأوسع في المغرب. فمن جهة، هناك خطاب رسمي يتبنى لغة الحداثة وحقوق الإنسان والكفاءة، استجابةً للتطلعات الداخلية والالتزامات الدولية. ومن جهة أخرى، تكشف بعض المقتضيات الخلافية، كتلك المتعلقة بمكافحة الفساد المالي، عن وجود ضغوط من جماعات مصالح تسعى للحفاظ على امتيازاتها. وبالتالي، فإن النص النهائي للقانون سيكون نتاجاً لهذه القوى المتنافسة، وتحليله يوفر نافذة لفهم ميزان القوى الحالي في المملكة.

5.1 تحليل مشروع القانون رقم 03.23

يعد مشروع القانون رقم 03.23 أكبر عملية مراجعة وتعديل لقانون المسطرة الجنائية منذ صدوره سنة 2002، حيث شملت التعديلات أكثر من 420 مادة. وتتمثل أهدافه المعلنة في تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة، وتقوية حقوق الدفاع، وتحديث آليات العدالة الجنائية، وتطوير وسائل مكافحة الجريمة.

أبرز التعديلات المقترحة:

  • تعزيز الحقوق الفردية: إقرار حق الاتصال بالمحامي منذ الساعة الأولى للتوقيف، واعتماد التسجيل السمعي البصري للاستجوابات، وتقييد اللجوء للحراسة النظرية والاعتقال الاحتياطي بشروط أكثر صرامة.

  • تحديث العدالة: توسيع استعمال الوسائل الرقمية في الإجراءات الجنائية، وتبسيط بعض المساطر لتسريع وتيرة التقاضي.

  • بدائل المتابعة: توسيع نطاق الجرائم التي يمكن أن تكون موضوع صلح بين الأطراف، مما يتيح حلاً بديلاً للدعوى العمومية.

  • السياسة الجنائية: لأول مرة، يتم وضع إطار قانوني واضح للسياسة الجنائية، يحدد دور الحكومة في وضعها ودور رئيس النيابة العامة في تنفيذها.

المقتضى / الحقالقانون الحالي (رقم 22.01)مشروع القانون (رقم 03.23)التحليل والأثر
حق الاتصال بالمحامي أثناء الحراسة النظريةيُسمح به بعد تمديد مدة الحراسة النظرية، ويمكن تأخيره في قضايا أمن الدولة والإرهاب.

يُمنح الحق ابتداءً من الساعة الأولى لإيقاف المشتبه فيه، مع إمكانية حضور المحامي أثناء استجواب الأحداث وذوي الإعاقة.

خطوة تقدمية كبرى تتماشى مع المعايير الدولية، وتهدف إلى الحد من الاعترافات المنتزعة بالإكراه. فعاليتها تعتمد على توفير الموارد وتدريب الشرطة.
التسجيل السمعي البصري للاستجواباتغير منصوص عليه.

إحداث آلية التسجيل السمعي البصري أثناء قراءة تصريحات المشتبه فيه وتوقيعه عليها في الجنايات والجنح الخطيرة.

ضمانة هامة للوقاية من التعذيب وسوء المعاملة، وتوفر دليلاً محايداً حول ظروف الاستجواب.
شروط الاعتقال الاحتياطييعتبر تدبيراً استثنائياً، لكن أسبابه غير محددة بدقة، مما فتح الباب لتوسع الممارسة.

تحديد حصري ومفصل للأسباب التي تبرر اللجوء إليه (مثل الخشية من عرقلة التحقيق أو منع تكرار الجريمة).

يهدف إلى عقلنة وترشيد اللجوء للاعتقال الاحتياطي والحد من تحوله إلى قاعدة، استجابةً للانتقادات الحقوقية.
بدائل الاعتقال الاحتياطيالمراقبة القضائية.

إضافة المراقبة الإلكترونية (السوار الإلكتروني) كبديل جديد للاعتقال الاحتياطي.

تحديث لآليات العدالة الجنائية وتوفير خيار إضافي يقلل من الآثار السلبية للاعتقال على الأفراد والمجتمع.
نطاق الصلح الزجرييقتصر على الجنح البسيطة المعاقب عليها بسنتين حبساً أو أقل.

توسيع وعاء الجرائم القابلة للصلح لتشمل الجنح المعاقب عليها بخمس سنوات حبساً.

تعزيز للعدالة التصالحية وتخفيف العبء على المحاكم، لكنه قد يثير تساؤلات حول إمكانية "شراء" العدالة في جرائم أكثر خطورة.
تحريك الدعوى في جرائم المال العاميمكن للجمعيات ذات المنفعة العامة أن تكون طرفاً مدنياً.

أثارت مسودات سابقة جدلاً حول حصر حق تحريك الدعوى في رئيس النيابة العامة، مما يقيد دور المجتمع المدني.

نقطة خلافية كبرى تعكس التوتر بين مكافحة الفساد وحماية المصالح النافذة. الإبقاء على دور المجتمع المدني ضروري للشفافية.

5.2 نقاط الخلاف والنقاشات المستمرة

لم يمر مشروع تعديل المسطرة الجنائية دون أن يثير نقاشات مجتمعية وقانونية حادة، عكست التوجهات المختلفة داخل المشهد المغربي.

  • تقييد دور المجتمع المدني: كان أبرز النقاط الخلافية هو التعديل الذي اقترح في مسودات سابقة (المادة 3) والذي كان يهدف إلى حصر صلاحية تحريك الدعوى العمومية في جرائم الفساد المالي في يد رئيس النيابة العامة وحده. وقد اعتبر العديد من الحقوقيين والمراقبين هذا التوجه تراجعاً خطيراً عن المكتسبات في مجال الشفافية ومكافحة الفساد، لأنه يقيد بشكل كبير قدرة الجمعيات المتخصصة على فضح هذه الجرائم ومتابعة مرتكبيها.

  • الامتياز القضائي للبرلمانيين: شهدت النقاشات داخل لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب تركيزاً كبيراً على مسألة الامتياز القضائي الممنوح للبرلمانيين، مما أثار مخاوف حول مبدأ المساواة أمام القانون.

  • الانفصال عن القانون الجنائي: أشار عدد من المحللين إلى صعوبة إصلاح قانون الشكل (المسطرة) بمعزل عن قانون الموضوع (القانون الجنائي)، نظراً للارتباط العضوي بينهما، حيث إن فعالية الإجراءات تعتمد بشكل كبير على طبيعة الجرائم والعقوبات المحددة في القانون الجنائي.

5.3 المواءمة مع المعايير الدستورية والدولية

يأتي مشروع الإصلاح في سياق مجهود أوسع لملاءمة الترسانة القانونية الوطنية مع المقتضيات المتقدمة التي جاء بها دستور 2011، خاصة في مجال الحقوق والحريات. كما يهدف إلى تجسيد التزامات المغرب الدولية، لا سيما تلك المنبثقة عن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي يضع معايير صارمة للمحاكمة العادلة وحقوق المحتجزين. وبالفعل، فإن العديد من التعديلات، كتعزيز الحق في الاستعانة بمحام والتسجيل السمعي البصري، تقرب التشريع المغربي من أفضل الممارسات الدولية. ومع ذلك، تبقى بعض المقتضيات، خاصة تلك التي قد تقيد دور المجتمع المدني، موضع تساؤل حول مدى انسجامها الكامل مع هذه المعايير.

الخاتمة والتوصيات

يكشف التحليل الشامل لقانون المسطرة الجنائية المغربي عن منظومة قانونية ذات طبيعة مزدوجة؛ فهي من جهة، تشهد تطوراً مستمراً وتتجه نحو تبني المعايير الدولية لحقوق الإنسان، خاصة فيما يتعلق بضمانات المحاكمة العادلة وحقوق الدفاع. ومن جهة أخرى، لا تزال تواجه تحديات كبيرة في الممارسة العملية، تتمثل في الفجوة بين النصوص القانونية وتطبيقها الفعلي، وتتأثر بتجاذبات سياسية واجتماعية معقدة. إن مشروع القانون الجديد يمثل خطوة هامة إلى الأمام في العديد من الجوانب، ولكنه يظل محكوماً بقدرته على تجاوز هذه التحديات.

بناءً على هذا التحليل، يمكن تقديم التوصيات التالية:

توصيات تشريعية

  • إعادة النظر في المواد المقيدة للمجتمع المدني: من الضروري الإبقاء على حق الأفراد وهيئات المجتمع المدني في التبليغ عن الجرائم الماسة بالمال العام، مع الحفاظ على اختصاص النيابة العامة في تحريك الدعوى، وذلك تكريساً لالتزامات المغرب الدولية في محاربة الفساد.

  • المراجعة الموازية للقانون الجنائي: يجب الإسراع بإصدار قانون جنائي جديد يواكب التعديلات المسطرية، لوضع سياسة جنائية متكاملة تضمن الانسجام بين قانون الموضوع وقانون الشكل.

توصيات على مستوى التنفيذ

  • التكوين والتدريب: يجب الاستثمار بشكل مكثف في برامج تكوين وتدريب موجهة للشرطة القضائية وقضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق والحكم، للتشبع بفلسفة الإصلاح وضمان التطبيق السليم للمقتضيات الجديدة، خاصة تلك المتعلقة بقرينة البراءة وبدائل الاعتقال.

  • تغيير الثقافة القضائية: ينبغي العمل على تغيير الثقافة السائدة التي تميل إلى التوسع في الاعتقال الاحتياطي، وتشجيع القضاة على تبني بدائله كالمراقبة القضائية والإلكترونية.

توصيات على مستوى الموارد

  • توفير الموارد التقنية واللوجستية: يتطلب تفعيل آليات مثل التسجيل السمعي البصري للاستجوابات، والمحاكمة عن بعد، والمراقبة الإلكترونية، تخصيص موارد مالية وبشرية كافية لتجهيز جميع مقرات الشرطة القضائية والمحاكم بالبنية التحتية اللازمة.

  • تعزيز مكاتب المساعدة الاجتماعية: يجب دعم وتوسيع مكاتب المساعدة الاجتماعية بالمحاكم لتتمكن من تقديم الدعم النفسي والقانوني اللازم للضحايا، خاصة النساء والأطفال.

توصيات على مستوى الرقابة

  • آليات المراقبة المستقلة: يُوصى بإنشاء آليات مستقلة لمراقبة وتقييم تنفيذ القانون الجديد، ورصد أثره على المؤشرات الرئيسية كنسبة الاعتقال الاحتياطي، ومدى احترام آجال المحاكمة، وفعالية حقوق الدفاع في مرحلة البحث التمهيدي.

    المسطرة الجنائية عماد القانون فادا صلحت كانت قريبة للعدالة . 

تعليقات