قانون المسطرة المدنية المغربي: تحليل شامل لنظام في مرحلة انتقالية
مقدمة
مركزية القانون الإجرائي
يحتل قانون المسطرة المدنية موقعاً محورياً في المنظومة القانونية المغربية، فهو لا يمثل مجرد مجموعة من القواعد الشكلية، بل هو "المفتاح" الذي لا غنى عنه لإنفاذ كافة الحقوق الموضوعية في المجالات المدنية، التجارية، والأسرية. إنه بمثابة الدليل الإجرائي الذي يرسم خارطة الطريق للولوج إلى العدالة، وينظم كيفية تقديم الدعاوى، وسير الخصومات، وإصدار الأحكام وتنفيذها. وبدون هذا القانون، تظل الحقوق التي تكفلها القوانين الموضوعية، كقانون الالتزامات والعقود ومدونة الأسرة، مجرد نصوص نظرية تفتقر إلى آلية الحماية القضائية الفعالة.
المسار التاريخي
يمتد تاريخ قانون المسطرة المدنية في المغرب إلى فترة الحماية الفرنسية، حيث كانت القواعد الإجرائية مستمدة إلى حد كبير من النظام القانوني الفرنسي. إلا أن المحطة الفارقة في تاريخ هذا القانون كانت سنة 1974، التي شهدت صدور الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1.74.447 بتاريخ 28 شتنبر 1974، والذي أرسى مدونة موحدة ومعربة للمسطرة المدنية، منهياً بذلك فترة ازدواجية القوانين الإجرائية المطبقة في المملكة. منذ ذلك الحين، خضع القانون لسلسلة من التعديلات الجزئية التي هدفت إلى مواكبة التطورات القضائية والاجتماعية، ومن أبرزها التعديلات التي طرأت في سنوات 2011، 2019، و2021.
حتمية الإصلاح
في العقد الأخير، تزايدت الضغوط لإجراء إصلاح شامل وعميق لقانون المسطرة المدنية. وتأتي هذه الحتمية مدفوعة بعوامل متعددة، أبرزها الحاجة الملحة لتعزيز نجاعة القضاء وتحقيق العدالة في آجال معقولة، ومواءمة النص القانوني مع المبادئ الدستورية التي كرسها دستور 2011، خاصة فيما يتعلق باستقلال السلطة القضائية وحقوق المتقاضين، فضلاً عن ضرورة مواكبة التحول الرقمي الذي يشهده العالم، والانتقال نحو عدالة رقمية أكثر فعالية وشفافية.
إشكالية التقرير
يطرح هذا التقرير أن الإصلاح الجاري لقانون المسطرة المدنية المغربي، والذي تجسد في مشروع القانون رقم 02.23، يمثل منعطفاً حاسماً تم فيه إعادة ضبط التوازن بين سعي الدولة لتحقيق النجاعة القضائية من جهة، وحماية الحقوق الإجرائية الأساسية من جهة أخرى، وذلك بفعل التدخل الحاسم للمحكمة الدستورية. لقد أرسى قرار المحكمة مساراً جديداً للإصلاح، محوره الأساسي هو سمو الدستور وضمانات المحاكمة العادلة، مما يعيد تشكيل مستقبل العدالة المدنية في المغرب.
الجزء الأول: الأسس العقدية والفلسفية للمسطرة المدنية المغربية
الفصل الأول: شروط قبول الدعوى: بوابة المحكمة
لا يكفي مجرد الادعاء بوجود حق للولوج إلى القضاء، بل وضع المشرع المغربي، من خلال الفصل الأول من قانون المسطرة المدنية، شروطاً جوهرية لا بد من توفرها لقبول أي دعوى. هذه الشروط، التي تعتبر من النظام العام، تشكل بوابة العبور إلى المحكمة، وتضمن جدية التقاضي وتوجيهه نحو غايته الأساسية، وهي حماية الحقوق المشروعة.
1.1. مبدأ الصفة
الصفة هي الشرط الأول والأساسي لقبول الدعوى، وتعني العلاقة القانونية المباشرة التي تربط رافع الدعوى بالحق موضوع النزاع. فلا يصح التقاضي إلا ممن يدعي حقاً لنفسه أو من ينوب عنه قانوناً. وقد كرس الاجتهاد القضائي لمحكمة النقض هذا المبدأ بشكل صارم، حيث استقر على أن الصفة تقتضي وجود علاقة قانونية مباشرة بالحق المطالب به. فعلى سبيل المثال، قضت المحكمة بعدم قبول دعاوى أقامها أشخاص نيابة عن آخرين دون سند قانوني، كدعوى يرفعها أخ بالنيابة عن شقيقه دون وكالة خاصة، أو دعوى ترفعها شركة في شخص مالكها بدلاً من ممثلها القانوني، معتبرة أن الشخص المعنوي يتمتع بشخصية قانونية مستقلة عن شخص الشركاء.
ما يميز المقاربة التشريعية المغربية هو الدور الإيجابي الممنوح للقاضي في هذا الصدد. فالفصل الأول من قانون المسطرة المدنية لا يكتفي بإقرار شرط الصفة، بل يلزم المحكمة بإثارته تلقائياً sua sponte إذا تبين لها انعدامه. والأهم من ذلك، أن المشرع لم يجعل من انعدام الصفة سبباً للحكم بعدم القبول بشكل فوري، بل أوجب على القاضي إنذار الطرف المعني لتصحيح المسطرة داخل أجل محدد. يعكس هذا التوجه فلسفة قضائية توازن بين الصرامة الإجرائية وضرورة تجنب رفض الدعاوى لأسباب شكلية بحتة يمكن تداركها، مما يضمن عدم حرمان المتقاضي من حقه في الوصول إلى العدالة بسبب خطأ مسطري قابل للتصحيح.
1.2. الأهلية القانونية
الأهلية هي صلاحية الشخص لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات، وهي شرط جوهري لمباشرة الدعاوى القضائية. ويجب على المتقاضي أن يكون متمتعاً بالأهلية القانونية الكاملة لكي تكون دعواه مقبولة. وفي الحالات التي يكون فيها أحد الأطراف فاقداً للأهلية (كالقاصر غير المميز) أو ناقصها (كالقاصر المميز أو السفيه)، فإن القانون يفرض إجراءات خاصة لضمان حماية حقوقه. في هذه الحالات، يجب أن يمثل هؤلاء الأشخاص أمام القضاء بواسطة نائبهم القانوني (الولي أو الوصي أو المقدم)، أو بإذن خاص من القاضي المكلف بشؤون القاصرين في بعض الحالات. ومثلها مثل الصفة، تعتبر الأهلية من النظام العام، وعلى المحكمة إثارتها تلقائياً وإنذار الطرف المعني بتصحيح المسطرة.
1.3. المصلحة في الدعوى
تعتبر المصلحة مناط الدعوى، فـ "لا دعوى حيث لا مصلحة". والمصلحة هي الفائدة أو المنفعة التي يسعى المدعي إلى تحقيقها من خلال اللجوء إلى القضاء. ولكي تكون المصلحة معتبراً قانونياً، يجب أن تتوفر فيها شروط محددة: أن تكون قانونية، أي تستند إلى حق أو مركز قانوني يحميه القانون؛ وأن تكون شخصية ومباشرة، أي أن رافع الدعوى هو صاحب الحق المعتدى عليه؛ وأن تكون قائمة وحالة، أي أن الاعتداء على الحق قد وقع بالفعل.
ومع ذلك، أظهر الاجتهاد القضائي المغربي مرونة كبيرة في تفسير شرط "المصلحة القائمة والحالة"، حيث أقر بما يعرف بـ "المصلحة الاحتمالية" (المصلحة الممكنة أو المستقبلية) في حالات معينة تهدف إلى درء ضرر محدق أو الحفاظ على دليل قد يزول مع مرور الزمن. يتجلى هذا التوجه البراغماتي في قبول دعاوى وقائية تهدف إلى منع وقوع ضرر مستقبلي، كالدعاوى التي يرفعها الدائن للطعن في تصرفات مدينه التي من شأنها أن تؤدي إلى إعساره مستقبلاً. كما يتجلى في قبول "دعوى إثبات الحالة"، التي تتيح لأي شخص يخشى زوال معالم واقعة مادية قد تصبح محلاً لنزاع مستقبلي أن يطلب من قاضي المستعجلات إثبات تلك الحالة بموجب معاينة قضائية. إن هذا التفسير الواسع لشرط المصلحة يعكس فهماً عميقاً لوظيفة القضاء، التي لا تقتصر على جبر الأضرار بعد وقوعها، بل تمتد لتشمل الوقاية منها والحفاظ على الحقوق قبل تعرضها للخطر.
الفصل الثاني: بنية المحاكمة العادلة
لا تقتصر المسطرة المدنية على تحديد شروط قبول الدعوى، بل ترسي مجموعة من المبادئ الأساسية التي تشكل الإطار العام لضمان محاكمة عادلة ومنصفة لجميع الأطراف. هذه المبادئ، المستمدة من الدستور والمواثيق الدولية، هي جوهر العدالة الإجرائية.
2.1. مبدأ المواجهة
يقوم هذا المبدأ على حق كل طرف في الخصومة في العلم بجميع الطلبات والدفوع والمستندات التي يقدمها خصمه، وفي الحصول على فرصة كافية للرد عليها ومناقشتها. ويعد هذا المبدأ حجر الزاوية في حق الدفاع، وتعتبر إجراءات التبليغ الصحيح والفعال الآلية الأساسية لتفعيله. فبدون تبليغ قانوني يضمن علم الخصم بالدعوى المرفوعة ضده وبجلساتها، ينهار مبدأ المواجهة وتصبح المحاكمة غير عادلة.
2.2. دور القاضي وحدوده
يحدد قانون المسطرة المدنية دور القاضي المدني بشكل دقيق، فهو ليس مجرد حكم سلبي، بل له دور إيجابي في إدارة الدعوى، ولكنه مقيد بحدود تضمن حياده وموضوعيته.
البت في حدود طلبات الأطراف: يلزم الفصل الثالث من القانون القاضي بأن يبت في حدود طلبات الأطراف، ولا يجوز له أن يغير تلقائياً موضوع أو سبب هذه الطلبات. هذا المبدأ يمنع القاضي من أن يحكم بما لم يطلب منه أو بأكثر مما طلب منه، مما يضمن أن تظل الخصومة ملكاً لأطرافها.
عدم الامتناع عن الحكم: يمنع الفصل الثاني على القاضي الامتناع عن الحكم أو إصدار قرار تحت أي ذريعة، ولو في حالة سكوت القانون أو غموضه. هذا المبدأ يهدف إلى مكافحة "إنكار العدالة" ويضمن حق المتقاضي في الحصول على قرار قضائي يحسم نزاعه.
ضمان الحياد: يمنع الفصل الرابع على القاضي أن ينظر في قضية في طور الاستئناف أو النقض سبق له أن نظر فيها في درجة أدنى. هذا المبدأ يهدف إلى ضمان حياد القاضي وتجرده، وتجنب أن يكون حكماً وخصماً في آن واحد.
2.3. مبدأ حسن النية
يفرض الفصل الخامس على كل متقاضٍ أن يمارس حقوقه الإجرائية طبقاً لقواعد حسن النية. ويهدف هذا المبدأ إلى محاربة الدعاوى الكيدية والتعسف في استعمال الحق في التقاضي. وقد سعى مشروع القانون رقم 02.23 إلى تعزيز هذا المبدأ من خلال التنصيص على إمكانية الحكم بغرامات مالية لفائدة الخزينة العامة على كل من يثبت أنه يتقاضى بسوء نية، وذلك بشكل مستقل عن التعويضات التي يمكن أن يحكم بها للطرف المتضرر.
الفصل الثالث: الدور الفريد للنيابة العامة
تتميز المسطرة المدنية المغربية بالدور المزدوج الذي تلعبه النيابة العامة أمام المحاكم المدنية، وهو دور يعكس وظيفتها كممثلة للمجتمع وحامية للنظام العام.
3.1. الوظائف المزدوجة
تتدخل النيابة العامة في الدعوى المدنية بصفتين مختلفتين:
كطرف رئيسي: في هذه الحالة، تكون النيابة العامة مدعية أو مدعى عليها، وتتمتع بنفس الحقوق وتتحمل نفس الالتزامات كباقي الخصوم، بما في ذلك الحق في ممارسة جميع طرق الطعن (عدا التعرض). ويكون تدخلها بهذه الصفة إلزامياً في قضايا محددة بنص القانون لما لها من ارتباط وثيق بالنظام العام، كالقضايا المتعلقة بالدولة والجماعات المحلية، وقضايا الأسرة، والقضايا المتعلقة بفاقدي الأهلية.
كطرف منضم: في هذه الحالة، لا تكون النيابة العامة خصماً لأحد الأطراف، بل تتدخل لتقديم رأيها ومستنتجاتها للمحكمة بهدف تنويرها ومساعدتها على التطبيق السليم للقانون. وفي هذه الصفة، لا يحق لها ممارسة أي طريق من طرق الطعن. ويكون تدخلها إما وجوبياً في قضايا نص القانون على ضرورة تبليغها إليها، أو اختيارياً عندما ترى ضرورة للتدخل أو عندما تطلب منها المحكمة ذلك.
3.2. الإصلاح والرقابة الدستورية
شكل دور النيابة العامة أحد المحاور الرئيسية في مشروع الإصلاح رقم 02.23. فقد تضمن المشروع مقتضى يهدف إلى توسيع صلاحياتها بشكل كبير، حيث أجاز لها، سواء كانت طرفاً في الدعوى أم لا، أن تطعن بالبطلان في أي حكم انتهائي ترى أنه مخالف للنظام العام، وذلك دون التقيد بأي أجل من آجال الطعن. أثار هذا المقتضى جدلاً واسعاً، حيث اعتبره الكثير من الحقوقيين مساساً خطيراً بمبدأ استقرار الأحكام القضائية والأمن القضائي. وقد حسمت المحكمة الدستورية هذا الجدل في قرارها التاريخي، حيث قضت بعدم دستورية هذا المقتضى، معتبرة أنه يخرق مبدأ "حجية الشيء المقضي به" الذي يقتضي أن تكون الأحكام النهائية عنواناً للحقيقة ومستقرة، وأن فتح الباب للطعن فيها بشكل غير مقيد بآجال يزعزع ثقة المتقاضين في القضاء ويهدد الأمن القانوني. وبهذا القرار، وضعت المحكمة حداً فاصلاً بين مصلحة الدولة في حماية النظام العام، وحق الأفراد الدستوري في اليقين القانوني واستقرار المراكز القانونية.
الجزء الثاني: المسار الإجرائي: من رفع الدعوى إلى صدور الحكم
الفصل الرابع: الاختصاص القضائي
يعد تحديد المحكمة المختصة للنظر في النزاع الخطوة الإجرائية الأولى والأساسية في أي دعوى. وينقسم الاختصاص في قانون المسطرة المدنية إلى ثلاثة أنواع رئيسية: نوعي، ومكاني، وقيمي.
4.1. الاختصاص النوعي
يحدد الاختصاص النوعي نوع المحكمة التي يعود إليها النظر في قضية معينة بناءً على طبيعة النزاع وموضوعه. القاعدة العامة، وفقاً للفصل 18 من قانون المسطرة المدنية، هي أن المحاكم الابتدائية صاحبة الولاية العامة، أي أنها تختص بالنظر في جميع القضايا المدنية، الأسرية، التجارية، الإدارية، والاجتماعية، ما لم ينص قانون خاص على إسناد الاختصاص لمحكمة أخرى.
إلى جانب هذه القاعدة العامة، توجد قواعد خاصة تحدد الاختصاص النوعي في مجالات معينة. على سبيل المثال، تختص المحاكم التجارية بالنظر في النزاعات المتعلقة بالعقود التجارية والأوراق التجارية والشركات التجارية. كما أن المشرع وضع قواعد خاصة لدعاوى معينة، حيث تختص محكمة موقع المؤسسة بالنظر في نزاعات الشغل المتعلقة بالعمل المنجز بها، بينما تختص محكمة مكان وقوع الحادثة بالنظر في دعاوى حوادث الشغل.
ويعتبر الدفع بعدم الاختصاص النوعي من النظام العام، ويمكن للمحكمة أن تثيره تلقائياً. ومع ذلك، فقد ألزم المشرع الأطراف، بموجب الفصل 16، بإثارة هذا الدفع قبل الخوض في أي دفاع في جوهر النزاع، وإلا سقط حقهم في إثارته لاحقاً، باستثناء حالة الأحكام الغيابية.
4.2. الاختصاص المكاني
يحدد الاختصاص المكاني (أو المحلي) المحكمة المختصة جغرافياً للنظر في الدعوى. القاعدة العامة، المنصوص عليها في الفصل 27، هي أن الاختصاص يعود لمحكمة الموطن الحقيقي أو المختار للمدعى عليه. وتهدف هذه القاعدة إلى حماية المدعى عليه من الاضطرار إلى التنقل للدفاع عن نفسه أمام محاكم بعيدة عن موطنه.
ولكن، وضع المشرع استثناءات عديدة على هذه القاعدة تمليها طبيعة بعض النزاعات. ومن أبرز هذه الاستثناءات:
الدعاوى العقارية: يكون الاختصاص لمحكمة موقع العقار المتنازع فيه.
دعاوى النفقة: يمكن رفعها أمام محكمة موطن أو محل إقامة المدعي أو المدعى عليه، تخييراً للمدعي.
دعاوى التعويض: ترفع أمام محكمة المحل الذي وقع فيه الفعل المسبب للضرر أو أمام محكمة موطن المدعى عليه.
4.3. الاختصاص القيمي
يحدد الاختصاص القيمي نطاق صلاحيات المحكمة بناءً على القيمة المالية للطلب موضوع النزاع. وتلعب القيمة دوراً حاسماً في تحديد ما إذا كان الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية سيكون ابتدائياً (قابلاً للاستئناف) أم انتهائياً (غير قابل للاستئناف). كما تحدد الجهة المختصة بالنظر في الاستئناف (غرف الاستئنافات بالمحاكم الابتدائية أو محاكم الاستئناف).
كان هذا الجانب محوراً رئيسياً في مشروع الإصلاح رقم 02.23، حيث اقترحت الحكومة رفع سقف الاختصاص الانتهائي للمحاكم الابتدائية بشكل كبير، بهدف تقليص عدد القضايا التي تصل إلى مراحل الاستئناف والنقض، وبالتالي تسريع وتيرة العدالة وتخفيف العبء على المحاكم العليا. إلا أن هذا التوجه قوبل بانتقادات واسعة من قبل الهيئات الحقوقية والمهنية التي اعتبرت أنه يحد من حق المتقاضين في التقاضي على درجتين، وهو من ضمانات المحاكمة العادلة.
الفصل الخامس: إجراءات الدعوى
بمجرد تحديد المحكمة المختصة، تبدأ سلسلة من الإجراءات المسطرية التي تهدف إلى تجهيز القضية للحكم، مع ضمان حقوق جميع الأطراف.
5.1. تقديم المقال
تبدأ الخصومة بتقديم مقال افتتاحي مكتوب وموقع عليه من طرف المدعي أو وكيله، أو بتصريح شفوي يدلي به المدعي شخصياً أمام أحد أعوان كتابة الضبط، الذي يقوم بتحرير محضر به. ويجب أن يتضمن المقال أو المحضر، وفقاً للفصل 31، مجموعة من البيانات الإلزامية، أهمها تحديد هوية الأطراف (الاسم العائلي والشخصي، الصفة أو المهنة، الموطن أو محل الإقامة)، وموضوع الدعوى، والوقائع والوسائل المثارة.
5.2. العملية الحرجة للتبليغ
يعتبر التبليغ من أخطر وأهم الإجراءات المسطرية، فهو الوسيلة القانونية التي يتم من خلالها إعلام الأطراف بإجراءات الدعوى، وضمان حقهم في الدفاع. وتنظم الفصول 37 و38 و39 من قانون المسطرة المدنية إجراءات التبليغ، حيث يجب أن يتم تسليم الاستدعاء والوثائق المرفقة به إلى الشخص المعني نفسه أو في موطنه أو محل عمله.
الغوص في "أزمة التبليغ": على الرغم من وضوح النصوص القانونية، يمثل التبليغ في الواقع العملي أحد أكبر التحديات التي تواجه العدالة في المغرب، ويطلق عليه العديد من الممارسين "أزمة التبليغ". وتعود هذه الأزمة إلى أسباب متعددة، منها تعمد بعض الخصوم التهرب من تسلم الاستدعاءات، وعدم دقة العناوين المصرح بها، والصعوبات اللوجستية التي تواجه أعوان التبليغ. ويؤدي فشل التبليغ إلى تأجيل الجلسات لمرات عديدة، مما يطيل أمد النزاعات بشكل كبير ويقوض ثقة المتقاضين في فعالية القضاء.
وقد حاول مشروع الإصلاح رقم 02.23 التصدي لهذه الإشكالية عبر اقتراح حلول مبتكرة، كتخويل المحاكم صلاحية اعتماد المعلومات المتوفرة في قاعدة بيانات بطاقة التعريف الوطنية لتحديد عناوين الأطراف. لكنه في المقابل، اقترح حلولاً أخرى أثارت جدلاً كبيراً، كالسماح بالتبليغ بناءً على "المظهر الخارجي" للشخص الذي يتسلم الاستدعاء. وقد قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية هذا المقتضى، معتبرة أنه يفتح الباب أمام التبليغات غير الموثوقة وينطوي على مساس خطير بحق الدفاع، الذي يقتضي التأكد بشكل يقيني من وصول الاستدعاء إلى المعني بالأمر أو من له الصفة في تسلمه نيابة عنه.
5.3. المسطرة الكتابية والشفوية
كقاعدة عامة، تطبق أمام المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف المسطرة الكتابية، التي تقتضي أن تكون جميع الطلبات والدفوع والمذكرات والمستنتجات مكتوبة. وتهدف هذه القاعدة إلى ضبط إجراءات التقاضي وتسهيل مهمة القاضي في دراسة الملف.
ومع ذلك، فقد استثنى المشرع بعض القضايا من هذه القاعدة وأخضعها للمسطرة الشفوية، التي تتيح للأطراف تقديم طلباتهم ودفوعهم شفوياً أمام المحكمة. وتهدف هذه الاستثناءات إلى تبسيط الإجراءات وتسريعها في القضايا التي تتسم بالبساطة أو الطابع الاجتماعي أو الاستعجالي، ومنها قضايا النفقة والطلاق، والقضايا الاجتماعية (نزاعات الشغل)، وقضايا استيفاء ومراجعة واجبات الكراء.
الفصل السادس: وسائل الإثبات في المادة المدنية
بعد تقديم الطلبات والدفوع، تدخل الدعوى مرحلة التحقيق، التي تهدف إلى تمكين المحكمة من تكوين قناعتها بناءً على الأدلة والحجج التي يقدمها الأطراف، أو التي تأمر بها المحكمة من تلقاء نفسها.
6.1. إجراءات التحقيق القضائي
يمنح قانون المسطرة المدنية للقاضي سلطة تقديرية واسعة في الأمر بأي إجراء من إجراءات التحقيق يراه مفيداً للوصول إلى الحقيقة. وتشمل هذه الإجراءات:
الخبرة القضائية: عندما يتعلق النزاع بمسألة فنية أو تقنية لا يستطيع القاضي الإلمام بها (كتقييم عقار، أو تحديد مسؤولية طبية)، يمكنه أن يعين خبيراً مختصاً لإبداء رأيه في تقرير مكتوب.
الوقوف على عين المكان: يمكن للقاضي أن ينتقل إلى مكان النزاع لمعاينته بشكل مباشر وتكوين صورة أوضح عن وقائعه.
شهادة الشهود: يمكن للمحكمة أن تستمع إلى شهادة الشهود الذين لديهم معلومات حول وقائع القضية، بعد أدائهم اليمين القانونية.
6.2. الطعون الشكلية في الأدلة
إلى جانب تقديم الأدلة، ينظم القانون أيضاً آليات للطعن في صحتها. ومن أبرز هذه الآليات "دعوى الزور الفرعية"، التي تتيح لأحد الخصوم أن يطعن في صحة مستند قدمه خصمه في الدعوى، مدعياً أنه مزور. وفي هذه الحالة، توقف المحكمة البت في الدعوى الأصلية إلى حين الفصل في دعوى الزور.
الجزء الثالث: سبل الانتصاف ونهائية العدالة
الفصل السابع: طرق الطعن
لا يعتبر الحكم الصادر عن محكمة أول درجة نهاية المطاف دائماً، فقد أتاح المشرع للأطراف الذين يرون أن الحكم قد أضر بحقوقهم مجموعة من الآليات القانونية لمراجعته، تعرف بـ "طرق الطعن". وتنقسم هذه الطرق إلى عادية وغير عادية.
7.1. طرق الطعن العادية
وهي الطرق المتاحة لمراجعة الحكم من حيث الوقائع والقانون، وتشمل:
التعرض: وهو طريق طعن متاح للطرف الذي صدر في حقه حكم غيابي، أي أنه لم يحضر هو أو وكيله في أي مرحلة من مراحل الدعوى. ويهدف التعرض إلى إعادة نشر القضية من جديد أمام نفس المحكمة التي أصدرت الحكم الغيابي، لتمكين الطرف المتغيب من تقديم دفاعه.
الاستئناف: وهو الطريق الأساسي والأكثر شيوعاً للطعن، ويجسد مبدأ التقاضي على درجتين. يتيح الاستئناف للطرف المحكوم عليه أن يطرح النزاع برمته، من حيث وقائعه وقانونه، أمام محكمة أعلى درجة (محكمة الاستئناف أو غرفة الاستئنافات بالمحكمة الابتدائية) لمراجعة الحكم الابتدائي وتصحيح ما قد يكون قد شابه من أخطاء.
7.2. طرق الطعن غير العادية
وهي طرق استثنائية لا تفتح إلا في حالات محددة على سبيل الحصر، ولا توقف تنفيذ الحكم المطعون فيه كقاعدة عامة. وتشمل:
تعرض الغير الخارج عن الخصومة: وهو طعن يمارسه شخص لم يكن طرفاً ولا ممثلاً في الدعوى، ولكن الحكم الصادر فيها يمس بحقوقه. ويهدف هذا الطعن إلى مراجعة الحكم فقط في الجزء الذي يضر بحقوق هذا الغير.
إعادة النظر: وهي آلية استثنائية تتيح الطعن في الأحكام النهائية (غير القابلة للتعرض أو الاستئناف) في حالات حصرية نص عليها القانون، كأن يقع تدليس من الخصم، أو أن يبنى الحكم على مستندات صرح فيما بعد بزوريتها، أو اكتشاف مستندات حاسمة كانت محتجزة لدى الخصم.
النقض: وهو طعن يرفع أمام أعلى هيئة قضائية في المملكة، وهي محكمة النقض. ولا يعتبر النقض درجة ثالثة من درجات التقاضي، فمحكمة النقض لا تنظر في وقائع النزاع، بل تقتصر رقابتها على مدى التطبيق السليم للقانون من قبل محاكم الموضوع. وتهدف هذه الرقابة إلى توحيد الاجتهاد القضائي وضمان احترام سيادة القانون.
الجدول 1: دليل طرق الطعن في المسطرة المدنية المغربية
تعليقات
إرسال تعليق