القائمة الرئيسية

الصفحات

 

القانون الجنائي الخاص المغربي: دراسة تحليلية للأركان والتصنيفات

مقدمة: ماهية القانون الجنائي الخاص وأهميته في المنظومة القانونية المغربية

التعريف بالقانون الجنائي الخاص

يُعرَّف القانون الجنائي الخاص بأنه مجموعة القواعد القانونية الموضوعية التي تتولى تحديد الأركان الخاصة بكل جريمة على حدة، وتبيان العقوبة المقررة لها. وتتمثل وظيفته الجوهرية في حماية المصالح الأساسية للمجتمع والفرد، وذلك من خلال تحديد الأفعال التي يعتبرها المشرع جرائم بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي، ويوجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو تدابير وقائية. وبهذا، فهو يختلف جوهرياً عن فروع القانون الأخرى، كالقانون المدني، حيث يركز القانون الجنائي على السلوك المنهي عنه الذي يهدد أمن وسلامة العامة ومصلحتها.

لمحة تاريخية عن تطور التشريع الجنائي المغربي

يعود تاريخ أول تقنين جنائي حديث في المغرب إلى سنة 1913، والذي تم وضعه إبان فترة الحماية الفرنسية. وبعد استقلال المملكة، صدرت مجموعة القانون الجنائي الحالية بموجب الظهير الشريف المؤرخ في 26 نوفمبر 1962، ودخلت حيز التنفيذ في 17 يونيو 1963، لتحل محل مجموعة عام 1913.

إن ما يميز القانون الجنائي المغربي هو طبيعته الديناميكية، حيث يخضع لتعديلات متلاحقة تهدف إلى مواءمته مع التطورات المجتمعية والالتزامات الدولية التي تصادق عليها المملكة. وقد شهد القانون إصلاحات جوهرية، كان أبرزها مشروع الإصلاح الشامل الذي قُدم عام 2015، والذي هدف إلى إدخال مفاهيم جديدة كالعقوبات البديلة وتشديد العقوبات على جرائم التحرش الجنسي والتمييز. هذا التوتر المستمر بين ضرورة استقرار النص القانوني لضمان الحقوق والحريات، وحتمية تطوره لمواكبة التحولات الاجتماعية، يشكل السمة الأساسية للسياسة الجنائية المغربية. فالنظام القانوني، الذي يرتكز على مبدأ الشرعية الصارم، يجد نفسه في حالة "مواكبة تشريعية" دائمة، حيث يتدخل المشرع بشكل متواصل لمعالجة الظواهر الإجرامية المستجدة، مما يبرز الدور المحوري للسلطة التشريعية في تشكيل نطاق القانون الجنائي الخاص.

الجزء الأول: المبادئ الحاكمة والإطار النظري للقانون الجنائي الخاص

الفصل الأول: سيادة مبدأ الشرعية الجنائية (La Légalité Criminelle)

المضمون الدستوري والقانوني

يُعد مبدأ "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص" () حجر الزاوية في صرح القانون الجنائي المغربي. وقد كرّس المشرع هذا المبدأ على أعلى مستوى في الدستور ، كما نص عليه صراحة في الفصل الثالث من مجموعة القانون الجنائي. وتكمن الغاية الأساسية من هذا المبدأ في حماية الحريات الفردية والعامة من أي تعسف، وذلك عبر تقييد السلطة التقديرية للقاضي الجنائي، الذي لا يملك سلطة تجريم فعل لم ينص القانون صراحة على اعتباره جريمة، ولا يمكنه الحكم بعقوبة لم يقررها النص التشريعي.

النتائج المترتبة على المبدأ

يترتب على إعمال مبدأ الشرعية الجنائية نتيجتان أساسيتان تشكلان ضمانات جوهرية للمتهم:

  1. حصرية التشريع كمصدر للتجريم والعقاب: يتميز القانون الجنائي الخاص بكونه "أحادي المصدر"، بمعنى أن النص التشريعي المكتوب، الصادر عن السلطة التشريعية وفق الإجراءات التي يحددها الدستور، هو المصدر الوحيد والحصري لقواعد التجريم والعقاب. ويترتب على ذلك استبعاد أي مصدر آخر، كالعرف أو مبادئ الشريعة الإسلامية أو قواعد العدالة، من إمكانية إنشاء جرائم جديدة أو فرض عقوبات لم ينص عليها القانون.

  2. التفسير الضيق للنص الجنائي: تقتضي حماية الحريات أن تُفسر النصوص الجنائية تفسيراً ضيقاً ومحصوراً، فلا يجوز التوسع في شرحها أو القياس عليها لخلق جرائم جديدة. وفي حالة وجود شك أو غموض في معنى النص، فإنه يُفسر دائماً لمصلحة المتهم، تطبيقاً لقاعدة "الشك يفسر لصالح المتهم".

الفصل الثاني: العلاقة التكاملية بين القانون الجنائي العام والقانون الجنائي الخاص

القسم العام كإطار نظري

يشكل القانون الجنائي العام الإطار النظري والمفاهيمي الذي يحكم المنظومة الجنائية برمتها. فهو يضم مجموعة المبادئ والقواعد العامة المجردة التي تنطبق على جميع الجرائم دون استثناء. وتشمل محاوره الأساسية النظرية العامة للجريمة، حيث يتم تحديد أركانها العامة (الشرعي، المادي، والمعنوي)، وصورها المختلفة كالمحاولة والمشاركة والمساهمة. كما يتناول النظرية العامة للمسؤولية الجنائية، بتحديد أسسها وموانعها كحالة الضرورة والدفاع الشرعي. وأخيراً، يضع النظرية العامة للعقوبة والتدابير الوقائية، مبيناً أنواعها وشروط تطبيقها وقواعد تفريدها.

القسم الخاص كتطبيق عملي

أما القانون الجنائي الخاص، فهو يمثل الجانب التطبيقي والملموس للقانون الجنائي. ففي هذا القسم، يتناول المشرع كل جريمة على حدة، ليحدد أركانها الخاصة التي تميزها عن غيرها من الجرائم، ويفصّل عناصرها المادية والمعنوية، ثم يخصص لها العقوبة المناسبة. فعلى سبيل المثال، يطبق القسم الخاص المبادئ العامة للركن المادي على جريمة القتل، فيحدد أن النشاط الإجرامي هو فعل إزهاق الروح، وأن النتيجة هي الوفاة.

التبعية المتبادلة بين القسمين

توجد علاقة تبعية وتكامل لا تنفصم عراها بين القسمين العام والخاص. فلا يمكن للقاضي أو الباحث تحليل أركان جريمة معينة من جرائم القسم الخاص، كالسرقة أو النصب، دون الرجوع إلى المفاهيم والمبادئ العامة التي أرساها القسم العام، مثل تعريف القصد الجنائي أو شروط قيام المحاولة.

وفي المقابل، فإن القسم الخاص هو الذي يمنح القسم العام حيويته ومضمونه العملي. فمن الناحية التاريخية، سبقت التشريعات الخاصة (التي كانت تكتفي بتعداد الأفعال المجرمة وعقوباتها) ظهور النظريات العامة. فقد قام الفقه القانوني باستقراء الجرائم المختلفة وتحديد القواسم المشتركة بينها، ومن ثم استخلاص المبادئ العامة التي شكلت لاحقاً القسم العام. هذا التطور التاريخي يكشف عن الطبيعة العملية للقانون الجنائي، حيث إن المبادئ العامة ليست مجرد نظريات مفروضة، بل هي تجريدات مستمدة من ضرورة تنظيم سلوكيات محددة ومضرة بالمجتمع، مما يجعل دراسة القسم الخاص أمراً محورياً لفهم المنظومة الجنائية بأكملها.

الجزء الثاني: التصنيف الهيكلي للجرائم في القانون الجنائي الخاص المغربي

الفصل الأول: التصنيف الثلاثي للجرائم وأهميته الإجرائية

أساس التصنيف

يعتمد المشرع المغربي، على غرار العديد من التشريعات اللاتينية، تصنيفاً ثلاثياً للجرائم يقوم على معيار جسامة وخطورة العقوبة الأصلية المقررة لكل فعل إجرامي. هذا التصنيف ليس مجرد تقسيم نظري، بل تترتب عليه آثار إجرائية وموضوعية بالغة الأهمية.

الجنايات (Les crimes)

تعتبر الجنايات أخطر أنواع الجرائم، وهي الأفعال التي خصص لها المشرع إحدى العقوبات الجنائية الأصلية التالية: الإعدام، السجن المؤبد، السجن المؤقت من خمس سنوات إلى ثلاثين سنة، الإقامة الإجبارية، أو التجريد من الحقوق الوطنية.

الجنح (Les délits)

تحتل الجنح مرتبة وسطى من حيث الخطورة، وهي الجرائم المعاقب عليها بالحبس أو بغرامة تتجاوز 1200 درهم. وقد قسمها المشرع إلى فئتين فرعيتين:

  • الجنح التأديبية: وهي التي تصل عقوبة الحبس المقررة لها إلى أكثر من سنتين كحد أقصى.

  • الجنح الضبطية: وهي التي لا يتجاوز الحد الأقصى لعقوبة الحبس فيها سنتين، أو التي تقتصر عقوبتها على غرامة تزيد عن 1200 درهم.

المخالفات (Les contraventions)

تمثل المخالفات أدنى درجات السلم الإجرامي، وهي الأفعال البسيطة التي يعاقب عليها القانون بعقوبات خفيفة، تتمثل في الاعتقال لمدة تقل عن شهر أو غرامة تتراوح بين 30 و1200 درهم.

الأهمية العملية للتصنيف

تتجلى أهمية هذا التصنيف الثلاثي في الآثار القانونية المترتبة عليه، والتي تمس جوهر الإجراءات الجنائية والموضوعية، ومن أبرزها:

  • الاختصاص القضائي: تختص غرف الجنايات بمحاكم الاستئناف بالنظر في الجنايات، بينما تختص المحاكم الابتدائية بالنظر في الجنح والمخالفات.

  • المحاولة: يعاقب على المحاولة دائماً في الجنايات، أما في الجنح فلا يعاقب عليها إلا بوجود نص قانوني خاص، في حين لا يعاقب عليها إطلاقاً في المخالفات.

  • التقادم: تختلف مدد تقادم الدعوى العمومية والعقوبة باختلاف نوع الجريمة.

  • الاعتقال الاحتياطي: تختلف مدده وشروط تطبيقه بشكل كبير بين الجنايات والجنح.

الفصل الثاني: التقسيم الموضوعي للجرائم في مجموعة القانون الجنائي

إلى جانب التصنيف الشكلي القائم على العقوبة، اتبع المشرع المغربي تقسيماً موضوعياً للجرائم في الكتاب الثالث من مجموعة القانون الجنائي، الذي يمتد من الفصل 163 إلى الفصل 612. يعكس هذا التقسيم طبيعة الحق أو المصلحة التي يسعى القانون إلى حمايتها من الاعتداء. وقد تم تنظيم هذه الجرائم ضمن أبواب متسلسلة على النحو التالي :

  1. الجنايات والجنح ضد أمن الدولة: وتشمل الجرائم التي تهدد كيان الدولة وسيادتها، سواء من الخارج (كالخيانة والتجسس) أو من الداخل (كالمؤامرة والاعتداء على الملك والأسرة المالكة).

  2. الجنايات والجنح الماسة بحريات المواطنين وحقوقهم: وتهدف إلى حماية الحقوق الأساسية للأفراد من تعسف السلطة.

  3. الجنايات والجنح التي يرتكبها الموظفون ضد النظام العام: وتضم جرائم استغلال الوظيفة العامة، كالرشوة والغدر واستغلال النفوذ.

  4. الجنايات والجنح التي يرتكبها الأفراد ضد النظام العام: وتشمل جرائم كإهانة الموظفين العموميين وكسر الأختام.

  5. الجنايات والجنح ضد الأمن العام: وتتعلق بالأفعال التي تروع السكينة العامة، كتكوين العصابات الإجرامية.

  6. جرائم التزوير والتزييف وانتحال الصفة: وتهدف إلى حماية الثقة العامة في المحررات والعملات والعلامات الرسمية.

  7. الجنايات والجنح ضد الأشخاص: وتضم الاعتداءات على الحق في الحياة (القتل) والسلامة الجسدية (الإيذاء).

  8. الجنايات والجنح ضد نظام الأسرة والأخلاق العامة: وتشمل جرائم كالخيانة الزوجية والإجهاض غير المشروع.

  9. الجنايات والجنح المتعلقة بالأموال: وتضم جرائم الاعتداء على الملكية، كالسرقة والنصب وخيانة الأمانة.

الجزء الثالث: دراسة تحليلية لأبرز الجرائم ضد الأشخاص

الفصل الأول: جريمة القتل العمد (الفصول 392 وما بعدها)

الأركان المكونة للجريمة

تعتبر جريمة القتل العمد من أبشع الجرائم التي تستهدف الحق في الحياة، ولقيامها لا بد من توافر ثلاثة أركان أساسية:

  • الركن القانوني: يتمثل في النص التشريعي الذي يجرم الفعل ويعاقب عليه، وهو الفصل 392 من مجموعة القانون الجنائي الذي ينص على أن "كل من تسبب عمدا في قتل غيره يعد قاتلا".

  • الركن المادي: يتألف من ثلاثة عناصر متكاملة يجب إثباتها:

    1. النشاط الإجرامي: وهو السلوك الصادر عن الجاني والذي يؤدي إلى الوفاة. قد يكون هذا النشاط إيجابياً، كاستعمال العنف بالضرب أو إطلاق النار، أو سلبياً، كالامتناع عن تقديم العون لشخص في خطر أو امتناع الأم عن إرضاع وليدها بقصد قتله.

    2. النتيجة الإجرامية: وتتمثل في إزهاق روح إنسان كان على قيد الحياة لحظة بدء النشاط الإجرامي. فلا جريمة قتل تقع على جنين لم يولد بعد أو على شخص متوفى أصلاً.

    3. العلاقة السببية: وهي الرابطة المباشرة التي تجمع بين نشاط الجاني والنتيجة الحاصلة (الوفاة). يجب أن يثبت أن فعل الجاني هو الذي أدى بشكل مباشر وحتمي إلى موت الضحية، ولولا هذا الفعل لما تحققت الوفاة.

  • الركن المعنوي (القصد الجنائي): لا يكفي لقيام جريمة القتل العمد مجرد إتيان الركن المادي، بل لا بد من توافر القصد الجنائي الخاص، والذي يتمثل في "نية إزهاق الروح" (). وهذا يعني أن إرادة الجاني يجب أن تكون قد اتجهت بشكل واضح وصريح إلى تحقيق نتيجة القتل، مع علمه بأن فعله من شأنه أن يؤدي إلى هذه النتيجة.

الظروف المشددة والعقوبات

حدد المشرع عقوبة أصلية لجريمة القتل العمد وهي السجن المؤبد. إلا أنه شدد هذه العقوبة لترتفع إلى الإعدام في حالات معينة تعكس خطورة إضافية في شخصية الجاني أو في ظروف ارتكاب الجريمة، وأهمها:

  • سبق الإصرار والترصد (الفصل 393): وهما ظرفان يتعلقان بالتصميم المسبق على ارتكاب الجريمة والتربص بالضحية.

  • قتل الأصول (الفصل 396): عندما يرتكب الابن جريمة القتل في حق أحد أصوله (الأب، الأم، الجد، أو الجدة).

  • القتل المصحوب بجناية أو المرتبط بجنحة (الفصل 392): إذا ارتكبت جريمة القتل لتسهيل ارتكاب جناية أخرى (كالسرقة الموصوفة) أو لضمان الإفلات من العقاب بعد ارتكاب جنحة.

  • القتل باستعمال مواد سامة (الفصل 398): نظراً للطبيعة الغادرة لهذه الوسيلة.

الأعذار القانونية المخففة

في مقابل الظروف المشددة، نص القانون على أعذار قانونية مخففة من شأنها أن تخفض العقوبة بشكل وجوبي. ومن أبرز هذه الأعذار في جرائم الدم:

  • عذر الاستفزاز (الفصل 416): يستفيد من هذا العذر من ارتكب القتل نتيجة تعرضه لاستفزاز ناتج عن ضرب أو عنف جسيم ضده.

  • القتل لدفع اعتداء على المسكن (الفصل 416): يستفيد من العذر المخفف من يرتكب القتل نهاراً لدفع تسلق أو كسر سور أو حائط منزل مسكون.

الفصل الثاني: جريمة الإيذاء العمدي (الفصول 400 وما بعدها)

الأركان المكونة للجريمة

تستهدف جريمة الإيذاء العمدي حماية السلامة الجسدية للأفراد، وتتطلب لقيامها الأركان التالية:

  • الركن القانوني: مجموعة الفصول المنظمة للجريمة بدءاً من الفصل 400 من القانون الجنائي.

  • الركن المادي: يتمثل في أي سلوك إجرامي يشكل اعتداءً على جسد الغير، وقد أورده المشرع بصيغة عامة تشمل "الضرب أو الجرح أو أي نوع آخر من العنف أو الإيذاء".

  • الركن المعنوي: تتطلب هذه الجريمة توفر القصد الجنائي العام، والذي يعني انصراف إرادة الجاني إلى إلحاق الأذى بالضحية، دون أن تتجه نيته إلى إزهاق روحها. فإذا نتج عن الإيذاء موت الضحية دون أن يكون الجاني قاصداً ذلك، يتغير وصف الجريمة إلى "الضرب أو الجرح المفضي إلى الموت دون نية إحداثه"، وهي جناية يعاقب عليها الفصل 403.

تدرج العقوبة حسب النتيجة

تتسم جريمة الإيذاء العمدي بتدرج عقوبتها بشكل دقيق تبعاً لخطورة النتيجة المترتبة على الفعل، وهو ما يعكس مبدأ تناسب العقوبة مع الضرر:

  • الإيذاء البسيط (جنحة ضبطية): إذا لم ينتج عن الفعل أي مرض أو عجز عن الأشغال الشخصية، أو نتج عنه عجز لا تتجاوز مدته 20 يوماً، فإن العقوبة تكون الحبس من شهر إلى سنة وغرامة.

  • الإيذاء الجسيم (جنحة تأديبية): إذا تجاوزت مدة العجز عن الأشغال الشخصية 20 يوماً، ترتفع العقوبة لتصبح الحبس من سنة إلى ثلاث سنوات.

  • الإيذاء المفضي إلى عاهة مستديمة (جناية): إذا أدى الفعل إلى فقد عضو أو بتره أو الحرمان من منفعته أو أي عاهة مستديمة أخرى، فإن الفعل يرقى إلى مصاف الجنايات وتكون العقوبة هي السجن من خمس إلى عشر سنوات.

الجزء الرابع: دراسة تحليلية لأبرز الجرائم ضد الأموال

تُعد جرائم الأموال من أكثر الجرائم شيوعاً، وقد خصها المشرع بتنظيم دقيق يهدف إلى حماية الملكية والثقة في المعاملات. وتكمن الدقة في التمييز بين هذه الجرائم في تحليل الظروف المحيطة بانتقال الحيازة، وتحديداً دور "رضا الضحية" في العملية. فبينما يتم الاعتداء في السرقة على الحيازة بالقوة أو خلسةً دون أي رضا، فإن الرضا في جريمة النصب موجود ولكنه معيب ومشوب بالتدليس، أما في خيانة الأمانة، فيكون الرضا سليماً في البداية ثم تتم خيانة الثقة التي بني عليها لاحقاً. هذه الفروق الجوهرية هي التي تحدد التكييف القانوني الصحيح للفعل.

الفصل الأول: جريمة السرقة (الفصل 505)

الأركان الخاصة بالجريمة

تُعرف السرقة في الفصل 505 من القانون الجنائي بأنها "اختلاس مال منقول مملوك للغير". ويتطلب قيامها توافر الأركان التالية:

  • الركن القانوني: الفصل 505 والفصول اللاحقة له.

  • الركن المادي (فعل الاختلاس): وهو جوهر الجريمة، ويقصد به انتزاع حيازة الشيء من مالكه أو حائزه الشرعي ونقلها إلى حيازة الجاني، وذلك دون رضا صحيح من المجني عليه.

  • محل الجريمة: يجب أن ينصب فعل الاختلاس على "مال منقول مملوك للغير". وهذا يقتضي ثلاثة شروط: أن يكون للشيء قيمة مالية، وأن يكون منقولاً بطبيعته، وأن يكون في ملكية شخص آخر غير الجاني وقت ارتكاب الفعل.

  • الركن المعنوي: يتطلب قيام السرقة توافر قصد جنائي مزدوج:

    1. قصد جنائي عام: وهو علم الجاني بأن المال الذي يختلسه مملوك للغير وأنه يأخذه دون رضاه.

    2. قصد جنائي خاص: وهو نية تملك الشيء المختلس والتصرف فيه تصرف المالك.

السرقة البسيطة والسرقة الموصوفة (المشددة)

يميز القانون بين السرقة البسيطة، التي لا تقترن بأي ظرف من ظروف التشديد، وعقوبتها الحبس من سنة إلى خمس سنوات وغرامة ، وبين السرقة الموصوفة التي تتحول إلى جناية وتُشدد عقوبتها بشكل كبير لوجود ظروف تزيد من خطورتها. ومن أبرز هذه الظروف التي نصت عليها الفصول من 507 إلى 510: استعمال العنف أو التهديد، حمل السلاح، ارتكابها ليلاً، تعدد الجناة، استعمال التسلق أو الكسر للدخول إلى مكان السرقة، وقوعها في الطرق العمومية، أو ارتكابها في أوقات الكوارث.

الفصل الثاني: جريمة النصب (الفصل 540)

الأركان الخاصة بالجريمة

تختلف جريمة النصب عن السرقة في أن المجني عليه يسلم ماله للجاني بإرادته، ولكن هذه الإرادة تكون معيبة نتيجة وقوعه في غلط مدبر. وتتكون أركانها من:

  • الركن القانوني: الفصل 540 من القانون الجنائي.

  • الركن المادي: وهو ركن مركب يتطلب تلازم ثلاثة عناصر:

    1. فعل الاحتيال: لا تقوم جريمة النصب بمجرد الكذب المجرد، بل لا بد من تدعيم هذا الكذب بأحد الأفعال المادية التي حددها المشرع على سبيل الحصر، وهي: استعمال تأكيدات خادعة (مثل تقديم مستندات مزورة)، أو إخفاء وقائع صحيحة (كإخفاء عيب جوهري في المبيع)، أو استغلال ماكر لخطأ وقع فيه الغير.

    2. النتيجة: وهي دفع الضحية إلى القيام بتصرف يمس بمصالحه المالية أو مصالح الغير، كتسليم مبلغ من النقود، أو التوقيع على سند دين، أو التنازل عن حق.

    3. العلاقة السببية: يجب أن تكون الوسائل الاحتيالية التي استخدمها الجاني هي السبب المباشر والدافع الذي أدى بالضحية إلى القيام بالتصرف المالي الضار.

  • الركن المعنوي: هو جريمة عمدية تتطلب قصداً جنائياً عاماً (نية استخدام وسائل الخداع) وقصداً خاصاً (نية الاستيلاء على مال الغير).

الفصل الثالث: جريمة خيانة الأمانة (الفصل 547)

الأركان الخاصة بالجريمة

في هذه الجريمة، يكون تسليم المال للجاني في البداية مشروعاً وقائماً على الثقة، ثم تنقلب نية الحائز الأمين إلى نية خائنة. وتتطلب الجريمة الأركان التالية:

  • الركن القانوني: الفصل 547 وما يليه من القانون الجنائي.

  • الركن المادي: يتكون من عنصرين متتابعين:

    1. التسليم المسبق للمال: وهو شرط مفترض لقيام الجريمة. يجب أن يكون الجاني قد تسلم المال المنقول (نقود، بضائع، سندات...) تسليماً ناقلاً للحيازة الناقصة أو المؤقتة، وذلك بموجب عقد من عقود الأمانة التي حددها القانون، كالوديعة، أو الوكالة، أو الإيجار، أو الرهن الحيازي. الغرض من التسليم هو إما رد الشيء أو استعماله في غرض معين.

    2. فعل الاختلاس أو التبديد: وهو النشاط الإجرامي اللاحق للتسليم، ويتمثل في قيام الجاني بتغيير نيته من حائز أمين إلى حائز بقصد التملك، كأن يتصرف في الشيء المؤتمن عليه بالبيع أو الرهن، أو أن ينكر تسلمه للشيء، مما يلحق ضرراً بالمالك الأصلي.

  • الركن المعنوي: هو القصد الجنائي العام، ويتجلى في انصراف إرادة الجاني إلى تبديد الشيء أو اختلاسه، مع علمه التام بأنه مملوك للغير وأن حيازته له هي حيازة ناقصة ومؤقتة.

الجريمةالنص القانونيالتسليم الأولي للمالرضا الضحيةالفعل الإجرامي الأساسيالقصد الجنائي الخاص
السرقةالفصل 505لا يوجد تسليم إراديمنعدمالاختلاس (انتزاع الحيازة)نية التملك
النصبالفصل 540يوجد تسليم إراديموجود ولكنه معيب (ناتج عن تدليس)استعمال وسائل احتياليةنية الاستيلاء على مال الغير
خيانة الأمانةالفصل 547يوجد تسليم إراديموجود وسليم (بموجب عقد أمانة)الاختلاس أو التبديد (خيانة الثقة)تغيير نية الحيازة من ناقصة إلى كاملة

تعليقات