مستجدات المسطرة الجنائية بالمغرب: تحليل معمق لمشروع القانون رقم
03.23
ملخص تنفيذي
يمثل مشروع القانون رقم 03.23 المتعلق بتغيير وتتميم القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، الإصلاح الأعمق الذي يشهده القانون الإجرائي الجنائي المغربي منذ سنة 2002. يهدف هذا التعديل الشامل، الذي طال أكثر من 420 مادة، إلى تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة، وترشيد تدابير الاعتقال الاحتياطي، وتوسيع بدائل العدالة الجنائية. ومع ذلك، أثار المشروع نقاط خلافية مهمة تتعلق بدور المجتمع المدني في قضايا الفساد، ومحدودية مقاربة النوع، والنهج التشريعي المتبع. يخلص هذا التقرير إلى أن تحقيق الأهداف المرجوة من هذا الإصلاح يتطلب نهجًا شموليًا يدمج الإصلاح التشريعي مع تعزيز القدرات البشرية والمادية، وتفعيل آليات الرقابة، وضمان مشاركة أوسع للمجتمع المدني.
1. مقدمة: سياق ومنطق إصلاح المسطرة الجنائية بالمغرب
1.1. لمحة تاريخية عن قانون المسطرة الجنائية المغربي
يمثل القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، الصادر سنة 2002، تحولاً جوهريًا عن القانون السابق لسنة 1959 والمراسيم الانتقالية لسنة 1974. لقد سعى هذا القانون إلى إرساء مبادئ حديثة للمسطرة الجنائية، وتعزيز ضمانات حقوق الإنسان، وتحسين آليات المحاكمة. قبل مشروع القانون 03.23، خضع القانون لتعديلات عدة، أبرزها القانونان رقم 23.05 و 24.05 الصادران سنة 2005، واللذان استهدفا معالجة قضايا مثل بطء الإجراءات، وظهور أنواع جديدة من الجرائم، وتراكم القضايا. كما كانت جهود إحداث أقسام متخصصة في الجرائم المالية جزءًا من مبادرات الإصلاح السابقة.
إن التعديلات والإصلاحات المستمرة التي شهدها قانون المسطرة الجنائية المغربي منذ عام 1959، بما في ذلك التحديثات الهامة في عامي 2002 و 2005 ، تشير إلى أن مشروع القانون 03.23 ليس إصلاحًا جذريًا منفردًا، بل هو استمرار لعملية تطور مستمرة ضمن منظومة العدالة المغربية. هذا النمط التاريخي يشير إلى أن التحديات التي تواجه العدالة الجنائية متجذرة وقد استمرت على الرغم من الجهود التشريعية السابقة. وهذا يعني أن التعديلات المستقبلية والتكيف المستمر، بدلاً من حل واحد ونهائي، ستكون ضرورية على الأرجح لتلبية المتطلبات الاجتماعية والقانونية المتغيرة.
1.2. الدوافع وراء الإصلاح الحالي (مشروع القانون 03.23): التحديات والأهداف
ينبع الزخم وراء الإصلاح الحالي من ضرورة مزدوجة: ملاءمة التشريع الجنائي الوطني مع المقتضيات التقدمية لدستور 2011 ومعايير المحاكمة العادلة المعترف بها دوليًا، مما يؤكد التزام المغرب بحقوق الإنسان. وفي الوقت نفسه، يسعى الإصلاح إلى معالجة التحديات العملية الملحة داخل منظومة العدالة، ولا سيما تزايد حجم وتعقيد القضايا الجنائية. في عام 2024 وحده، تلقت النيابة العامة حوالي 2.5 مليون محضر و 600 ألف شكاية، مما أدى إلى وضع حوالي 90 ألف شخص رهن الاعتقال الاحتياطي. هذا العبء القضائي يساهم بشكل كبير في تراكم القضايا والاكتظاظ الشديد في السجون. وقد أوضح وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، أن الهدف الأساسي للمشروع هو تحقيق التوازن بين ضرورة مكافحة الجريمة بفعالية وحماية الحقوق والحريات الأساسية للأفراد.
إن الدوافع المعلنة لهذا الإصلاح تبرز باستمرار هدفين غالبًا ما يكونان متنافسين: تعزيز كفاءة النظام القضائي (مثل تقليل تراكم القضايا، تبسيط الإجراءات، التكيف مع أنواع الجرائم الجديدة) وتعزيز ضمانات حقوق الإنسان (مثل ضمان المحاكمات العادلة، حماية حقوق الدفاع، منع التعذيب). العدد الكبير للمحتجزين احتياطيًا يؤكد بشكل مباشر التحدي المتمثل في الموازنة بين الإجراءات العقابية والحريات الفردية. هذا التوتر المتأصل يعني أن الخيارات التشريعية غالبًا ما تتضمن مفاضلات. سيتم الحكم على نجاح الإصلاح بقدرته على تحقيق هذا التوازن بفعالية، مع ضمان ألا تأتي مكاسب الكفاءة على حساب الحقوق الأساسية، وأن حماية الحقوق لا تعيق بشكل مفرط مكافحة الجريمة بفعالية.
1.3. المواءمة مع المبادئ الدستورية والمعايير الدولية لحقوق الإنسان
يُقدم مشروع القانون 03.23 كمكون أساسي ضمن ورش إصلاحي شامل لمنظومة العدالة الجنائية المغربية. يهدف إلى ضمان المواءمة الكاملة مع دستور 2011، ومختلف الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادق عليها المغرب، والمبادئ التوجيهية التي حددتها التوجيهات الملكية السامية. ويسعى المشروع إلى تعزيز المبادئ القانونية الأساسية مثل قرينة البراءة، وحق الدفاع، وضمانات المحاكمة العادلة، التي تعد ركائز الأطر القانونية الوطنية والدولية.
على الرغم من أن النص التشريعي والتصريحات الوزارية تعبر بقوة عن طموح المواءمة مع المعايير الدستورية والدولية لحقوق الإنسان، إلا أن تقارير منظمات حقوق الإنسان مثل هيومن رايتس ووتش وتقرير السفارة الأمريكية من عام 2020 تشير إلى تحديات عملية مستمرة. تشمل هذه التحديات قضايا مثل الاعتقال التعسفي، وعدم التزام الشرطة بالإجراءات القانونية بشكل متسق، والاعتماد على الاعترافات المنتزعة بالإكراه، والقيود على الحريات الأساسية. هذا يشير إلى وجود فجوة مستمرة بين المُثل المعيارية المنصوص عليها في القانون وواقع تطبيقها على أرض الواقع. وبالتالي، فإن التأثير والنجاح الحقيقي لمشروع القانون 03.23 لن يعتمد فقط على قوة أحكامه القانونية، بل سيتوقف بشكل حاسم على فعالية تنفيذه. وهذا يتطلب استثمارًا كبيرًا في تدريب موظفي إنفاذ القانون والقضاء، وتحولًا جوهريًا في الثقافة المؤسسية نحو الممارسات القائمة على الحقوق، وآليات رقابة قوية لضمان الالتزام المستمر بالمعايير الجديدة.
2. المسار التشريعي لمشروع القانون 03.23: من الاقتراح إلى الإصدار
2.1. مسار الإيداع والمراجعة البرلمانية (مجلس النواب ومجلس المستشارين)
بدأت العملية التشريعية لمشروع القانون 03.23 بإيداعه من قبل الحكومة لدى مجلس النواب بتاريخ 9 يناير 2025. وقدم وزير العدل المشروع رسميًا أمام لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان والحريات بمجلس النواب بتاريخ 22 يناير 2025. أجرت اللجنة مراجعة مكثفة، خصصت لها أكثر من 57 ساعة من الدراسة. وقدمت مختلف الفرق والمجموعات النيابية عددًا كبيرًا من التعديلات، بلغ مجموعها 1384 تعديلاً. وكان آخر أجل لتقديم هذه التعديلات هو 12 ماي 2025. وبعد ذلك، صادقت لجنة العدل بمجلس النواب على المشروع بتاريخ 11 ماي 2025، بأغلبية 18 صوتًا مقابل 7 أصوات.
عقب موافقة اللجنة، صادق مجلس النواب على المشروع في قراءته الأولى بتاريخ 20 ماي 2025، بأغلبية 130 صوتًا مقابل 40 صوتًا. ثم أحيل المشروع إلى مجلس المستشارين بتاريخ 21 ماي 2025 لمراجعته. في مجلس المستشارين، عقدت لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان عدة اجتماعات لمناقشة المشروع (27 ماي، 17 و 18 يونيو، و 7 يوليوز 2025). واقترحت لجنة فرعية 154 تعديلاً، كما قدمت مجموعة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل 46 تعديلاً إضافيًا. وفي النهاية، وافق مجلس المستشارين على المشروع، مع إدراج بعض التعديلات، بتاريخ 8 يوليوز 2025. وكانت نتيجة التصويت 24 صوتًا مؤيدًا، 4 معارضين، وامتناع 2 عن التصويت. تجدر الإشارة إلى أن مواد محددة (1، 3، 7، 66-3، 87) تمت الموافقة عليها بأغلبية الأصوات وليس بالإجماع، مما يشير إلى طبيعتها الخلافية خلال المداولات. وأخيرًا، عاد المشروع إلى مجلس النواب للقراءة الثانية وحصل على الموافقة النهائية بتاريخ 22 يوليوز 2025.
إن المسار البرلماني الذي تضمن نقاشات مكثفة، مع تقديم أكثر من 1300 تعديل من قبل مختلف الفرق ، قد أظهر دينامية معينة. ومع ذلك، فإن رفض وزير العدل للغالبية العظمى من هذه التعديلات ، بالإضافة إلى انتقادات المجتمع المدني لـ "السرعة غير المبررة" في المصادقة ، يشير إلى أن السلطة التنفيذية حافظت على سيطرة كبيرة على النص النهائي. هذا يشير إلى أنه على الرغم من أن الهيئة التشريعية اضطلعت بدورها التداولي، إلا أن الرؤية الحكومية الأولية للمشروع هي التي سادت إلى حد كبير. هذا التفاعل يسلط الضوء على اختلال محتمل في ميزان النفوذ التشريعي، حيث يمكن لأجندة السياسة التنفيذية أن تتجاوز المدخلات الواسعة من البرلمان والمجتمع المدني. قد يؤدي هذا إلى استمرار عدم الرضا بين أصحاب المصلحة الذين لم يتم تلبية مخاوفهم، مما قد يؤثر على الشرعية المتصورة وفعالية الإصلاح على المدى الطويل.
2.2. التواريخ والمحطات الرئيسية
9 يناير 2025: الحكومة تودع مشروع القانون 03.23 لدى مجلس النواب.
22 يناير 2025: وزير العدل يقدم المشروع أمام لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان والحريات بمجلس النواب.
11 فبراير 2025: مجلس النواب يحيل المشروع إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (CESE) لإبداء رأيه.
5 مارس 2025: المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي يعقد جلسة استماع مع الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها في إطار صياغة رأيه.
9 أبريل 2025: الجمعية العامة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي تصادق رسميًا على رأيها بشأن المشروع.
11 ماي 2025: لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان والحريات بمجلس النواب تصادق على المشروع.
12 ماي 2025: آخر أجل لتقديم التعديلات على مشروع القانون 03.23.
20 ماي 2025: مجلس النواب يصادق على المشروع في قراءته الأولى.
21 ماي 2025: إحالة المشروع إلى مجلس المستشارين لمراجعته.
8 يوليوز 2025: مجلس المستشارين يصادق على المشروع، مع إدراج تعديلات.
22 يوليوز 2025: مجلس النواب يصادق على المشروع بشكل نهائي في قراءته الثانية.
إن الجدول الزمني المكثف، الذي شهد تقدم المشروع من إيداعه الحكومي في يناير إلى الموافقة البرلمانية النهائية في يوليوز 2025 – أي في فترة تتراوح بين ستة وسبعة أشهر تقريبًا – يعتبر سريعًا بشكل ملحوظ بالنسبة لنص تشريعي يعدل أكثر من 420 مادة. هذه الوتيرة السريعة، التي وصفها المجتمع المدني بأنها "سرعة غير مبررة" ، تشير إلى ضرورة استراتيجية من الحكومة لإصدار هذه الإصلاحات بسرعة. هذه الضرورة الملحة قد تكون مدفوعة بمجموعة من العوامل، بما في ذلك قضية الاكتظاظ في السجون، والحاجة إلى الوفاء بالالتزامات الدولية لحقوق الإنسان، وربما المواءمة مع أجندات التنمية الوطنية الأوسع (مثل "المغرب 2030" المذكورة في بالنسبة لقوانين أخرى). وفي حين أن هذا يشير إلى إرادة سياسية قوية، فإن مثل هذه العملية التشريعية السريعة لقانون أساسي تثير مخاوف بشأن عمق المداولات العامة والخبراء، وشمولية تقييمات الأثر، واحتمال حدوث عواقب غير مقصودة. إن المفاضلة بين السرعة والمشاركة الشاملة لأصحاب المصلحة هي اعتبار حاسم لفعالية الإصلاح وقبوله على المدى الطويل.
2.3. استشارات أصحاب المصلحة (مثل المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، الهيئة الوطنية للنزاهة ومكافحة الرشوة)
لعب المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (CESE) دورًا استشاريًا رسميًا، حيث أجرى مراجعته من خلال نهج تشاركي تضمن جلسات استماع مع أصحاب المصلحة الرئيسيين، مثل الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها. وقد تمت الموافقة على رأي المجلس رسميًا بعد مناقشات داخلية مكثفة بين مكوناته المتنوعة.
ومع ذلك، أعربت منظمات المجتمع المدني، وخاصة الجمعيات النسائية، عن انتقادات شديدة بشأن "إقصائها الممنهج" من عملية المراجعة الشاملة. وقد جادلوا بأن خبراتهم ورؤاهم المتخصصة بشأن متطلبات العدالة الجنائية للنساء قد تم تجاهلها إلى حد كبير. وقد أكد المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي نفسه، في تقريره، على أهمية عملية استشارية أوسع لمثل هذا التشريع المؤثر.
إن وجود آليات استشارية رسمية، مثل مراجعة المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ، يتناقض بشكل حاد مع الانتقادات القوية من المجتمع المدني بشأن "إقصائهم الممنهج". هذا يشير إلى وجود فجوة محتملة بين الوفاء الإجرائي بمتطلبات الاستشارة والتصور الفعلي للشمولية والتأثير من قبل مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة المتأثرين. تأكيد المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي نفسه على الحاجة إلى استشارة أوسع يدعم هذه الملاحظة. هذا التباين يشير إلى أنه بينما تفاعلت الحكومة مع هيئات مؤسسية معينة، فإن العملية قد افتقرت إلى عمق الديمقراطية التشاركية اللازمة لإصلاح بهذا الحجم. مثل هذا النقص المتصور في الشمولية الحقيقية يمكن أن يؤدي إلى استمرار الدعوة والمقاومة المحتملة خلال مرحلة التنفيذ، حيث تظل المخاوف الرئيسية من المجتمع المدني، لا سيما بشأن قضايا مثل الحساسية الجندرية والأموال العامة، غير معالجة في النص النهائي.
3. التعديلات والابتكارات الأساسية التي جاء بها مشروع القانون 03.23
3.1. تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة وحقوق الدفاع
الأحكام المعدلة للاعتقال الاحتياطي والإيقاف المؤقت:
ينص المشروع صراحة على أن الاعتقال الاحتياطي يعتبر تدبيرًا استثنائيًا، لا يُلجأ إليه إلا عند الضرورة القصوى ولأسباب محددة ومحصورة. تشمل هذه الأسباب الحفاظ على الأدلة، ومنع فرار المشتبه فيه، وحماية الشهود، ومنع التواطؤ، وضمان سلامة المشتبه فيه، أو وضع حد للاضطراب الذي أحدثه الفعل الإجرامي.
ومن التغييرات الجوهرية تقليص المدة القصوى لتمديد الاعتقال الاحتياطي: من خمس مرات إلى مرتين بالنسبة للجنايات، ومن مرتين إلى مرة واحدة بالنسبة للجنح. وتُستثنى من ذلك الجرائم المتعلقة بأمن الدولة والإرهاب. والأهم من ذلك، أن المشروع يُقر حق الطعن في أوامر الإيداع بالسجن الصادرة عن وكيل الملك أو الوكيل العام للملك، مما يعزز الرقابة القضائية.
إن التركيز التشريعي على جعل الاعتقال الاحتياطي تدبيرًا استثنائيًا وتقليص مدده المسموح بها بشكل كبير هو استجابة مباشرة واستراتيجية لمشكلة الاكتظاظ المزمن في السجون المغربية، حيث يشكل المعتقلون احتياطيًا نسبة كبيرة من السجناء (على سبيل المثال، 90,000 في عام 2024 ). هذا يتوافق أيضًا مع مبادئ حقوق الإنسان الدولية التي تدعو إلى اعتبار الاعتقال إجراءً أخيرًا. كما أن إقرار حق الطعن في أوامر الاعتقال يعزز الإجراءات القانونية الواجبة والرقابة القضائية، ويعالج الانتقادات السابقة المتعلقة بالاعتقال التعسفي. وفي حين أن هذه الأحكام تمثل خطوة مهمة نحو مواءمة القانون المغربي مع المعايير الدولية ومعالجة قضية نظامية حرجة، فإن فعاليتها النهائية ستعتمد بشكل كبير على التطبيق المتسق والصارم من قبل القضاة والنيابة العامة. كما أن توفر البدائل الفعالة للاعتقال وتنفيذها الفعال أمران حاسمان لمنع مجرد نقل المشكلة بدلاً من حلها.
إدخال التسجيل السمعي البصري أثناء الاستجوابات:
ينص المشروع على إلزامية استخدام التسجيل السمعي البصري أثناء قراءة التصريحات ولحظة التوقيع من قبل المشتبه فيهم الموضوعين تحت الحراسة النظرية. ينطبق هذا الإجراء على الجنايات والجنح المعاقب عليها بخمس سنوات حبسًا أو أكثر. ومن المقرر أن يتم تحديد الكيفيات والشروط الدقيقة لهذا التسجيل بموجب نص تنظيمي لاحق.
إن إدخال التسجيل السمعي البصري يمثل تطورًا إيجابيًا يعزز الشفافية ويعمل كضمانة ضد الاعترافات المنتزعة بالإكراه، مما يتوافق مع المبادئ الأساسية لجمع الأدلة النزيهة (اللذان يؤكدان على حظر الاعترافات المنتزعة بالعنف أو الإكراه). ومع ذلك، فإن اقتصار التسجيل
فقط على قراءة التصريحات والتوقيع عليها، بدلاً من عملية الاستجواب بأكملها، وتطبيقه فقط على الجرائم الأكثر خطورة، يشكل قيدًا كبيرًا. وكما هو مذكور صراحة في ، فإن هذا يمثل "تراجعًا" عما كان مقررًا في المسودة السابقة التي كانت تقترح نطاقًا أوسع للتسجيل السمعي البصري. هذا التنفيذ الجزئي قد لا يعالج بشكل كامل المخاوف المتعلقة بنزاهة عملية الاستجواب. فقد يترك مجالًا كبيرًا لانتهاكات محتملة أو مخالفات خلال الأجزاء غير المسجلة من الاستجواب، مما قد يقوض الهدف العام المتمثل في منع التعذيب وضمان موثوقية الأدلة التي يتم الحصول عليها أثناء الحراسة النظرية.
تعزيز حق الاتصال بالمحامي:
يعزز المشروع بشكل كبير حق الشخص الموضوع تحت الحراسة النظرية في الاتصال بمحاميه، حيث يمنح هذا الحق من الساعة الأولى للإيقاف دون الحاجة إلى ترخيص مسبق من النيابة العامة. علاوة على ذلك، يجعل المشروع حضور المحامي
إلزاميًا أثناء استجوابات الشرطة القضائية للأحداث والأشخاص في وضعية إعاقة، إدراكًا لضعفهم الخاص.
إن منح الوصول الفوري إلى الاستشارة القانونية وإلزامية حضور المحامي للفئات الضعيفة يمثلان تقدمًا حاسمًا يعالج الانتقادات طويلة الأمد بشأن محدودية الوصول إلى التمثيل القانوني خلال المراحل الأولية للاحتجاز. تتوافق هذه التغييرات مع المعايير الدولية لضمان حقوق الدفاع الفعالة. ومع ذلك، يشير صراحة إلى أن المشروع "لا يكرس حق الدفاع في حضور عملية استجواب المشتبه فيه أمام الشرطة القضائية خلال مرحلة الوضع في الحراسة النظرية" لجميع المشتبه فيهم. وهذا تمييز حاسم، حيث أكدت هيئات حقوق الإنسان الدولية على أهمية حضور المحامي طوال جميع استجوابات الشرطة. وعلى الرغم من أن المشروع يحسن الوصول الأولي إلى الاستشارة القانونية، إلا أن غياب حضور المحامي الإلزامي طوال جميع استجوابات الشرطة لجميع المشتبه فيهم يظل فجوة كبيرة. هذا القيد قد يؤثر على عدالة وموثوقية الأدلة التي يتم جمعها أثناء الحراسة النظرية وقد يزيد من خطر انتهاكات الحقوق، لا سيما بالنسبة للمشتبه فيهم البالغين الذين لا يندرجون ضمن فئة "الضعفاء".
3.2. تعزيز المراقبة القضائية على عمل الشرطة القضائية ووضع آليات للوقاية من التعذيب
آليات جديدة للمراقبة والمساءلة:
يضع المشروع ضباط الشرطة القضائية، في إطار مهامهم القضائية، تحت السلطة المباشرة للهيئات القضائية، أي النيابة العامة وقضاة التحقيق. ويتطلب تعيينهم الآن قرارًا مشتركًا صادرًا عن رئيس النيابة العامة والسلطة الإدارية التي يتبعون لها، بهدف تعزيز المساءلة والتنسيق. كما يُمنح رئيس النيابة العامة صلاحية وضع معايير لتقييم أداء ضباط الشرطة القضائية، مما يزيد من إحكام الرقابة القضائية على عملهم. ومن الضمانات الحاسمة إلزام الوكيل العام للملك أو أحد نوابه بزيارة أماكن الإيداع في حال ورود أي بلاغات عن اعتقال تعسفي أو عمل تحكمي، مما يضمن التدخل القضائي الفوري.
تمثل هذه الأحكام إضفاء طابع رسمي كبير وتعزيزًا لسيطرة التسلسل الهرمي القضائي على الشرطة القضائية. هذه استجابة تشريعية مباشرة للانتقادات التاريخية المتعلقة بعدم امتثال الشرطة للإجراءات القانونية، ونقص المساءلة، والادعاءات المتعلقة بالإجراءات التعسفية. يهدف التركيز على التعيينات المشتركة ومعايير التقييم إلى ترسيخ السلطة القضائية على المستوى الهيكلي. وعلى الرغم من أن الإطار القانوني للرقابة قوي، إلا أن فعاليته العملية ستعتمد على الممارسة الاستباقية والمتسقة لهذه السلطة من قبل المسؤولين القضائيين. وهذا يشمل عمليات تفتيش منتظمة وغير معلنة لمرافق الاحتجاز، وإجراء تحقيقات فورية وشاملة في جميع ادعاءات الانتهاكات، وفرض عقوبات ذات مغزى على عدم الامتثال. بدون هذا التنفيذ الدؤوب، قد لا تحقق الآليات الرسمية تأثيرها المنشود بشكل كامل.
إلزامية الفحص الطبي للمحتجزين:
يفرض المشروع التزامًا واضحًا على ضباط الشرطة القضائية بترتيب فحص طبي لأي شخص موضوع تحت الحراسة النظرية. ويُطلب ذلك إذا لاحظ الضابط علامات مرض أو إصابة، أو إذا طلب المحتجز صراحة هذا الفحص، مع إشعار مسبق للنيابة العامة.
بالإضافة إلى ذلك، تلتزم النيابة العامة بالمثل بترتيب فحص طبي، يجريه طبيب شرعي مؤهل (أو طبيب آخر إذا تعذر ذلك)، إذا طلب المشتبه فيه أو دفاعه ذلك، أو إذا لاحظت النيابة العامة بنفسها علامات تستدعي الفحص الطبي. وينص حكم حاسم على أنه إذا طلب المتهم أو دفاعه فحصًا طبيًا وتم رفضه، فإن أي اعتراف يدلي به المتهم في محضر الشرطة القضائية يعتبر باطلاً.
يعد هذا الحكم ضمانة حاسمة وربما تحويلية ضد التعذيب وسوء المعاملة، حيث يعالج بشكل مباشر المخاوف التي أثارتها العديد من تقارير حقوق الإنسان بشأن الاعترافات المنتزعة بالإكراه وعدم المساءلة عن الانتهاكات أثناء الاحتجاز. من خلال الربط الصريح بين بطلان الاعترافات ورفض الفحص الطبي المطلوب، يقدم المشروع رادعًا قانونيًا قويًا ضد سوء المعاملة ويضمن نزاهة الأدلة. ومع ذلك، فإن نجاح هذا الإجراء يعتمد بشكل حاسم على تطبيقه الصارم والمتسق من قبل كل من الشرطة القضائية والنيابة العامة. علاوة على ذلك، فإن التزام القضاء الثابت بإنفاذ قاعدة البطلان في حالة عدم الامتثال أمر بالغ الأهمية. كما أن توفير الموارد الكافية، بما في ذلك توفر الأطباء الشرعيين المؤهلين، ضروري للتنفيذ العملي والفعال لهذه الحماية الحيوية.
4. ترشيد التحقيق الإعدادي وتوسيع بدائل الاعتقال
4.1. التغييرات في دور ونطاق قاضي التحقيق
يُدخل المشروع تغييرًا مهمًا بجعل التحقيق الإعدادي اختياريًا في الجنايات، بما في ذلك تلك المعاقب عليها بالإعدام. أما بالنسبة للجنح، فإن التحقيق يصبح غير ممكن عمومًا، باستثناء الحالات التي ينص عليها القانون صراحة. يهدف هذا التغيير إلى تخفيف عبء القضايا على قضاة التحقيق.
من خلال تقليص النطاق الإلزامي لدور قاضي التحقيق، لا سيما في الجنايات، ينقل المشروع فعليًا صلاحية تقديرية أكبر للنيابة العامة لاتخاذ قرار بشأن الإحالة المباشرة إلى المحاكمة أو ضرورة إجراء تحقيق إضافي. يتوافق هذا مع الاتجاهات الإجرائية الملاحظة في بعض الأنظمة القانونية الأخرى، مثل التشريع الجنائي الفرنسي، كما أشار إليه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. يهدف هذا التركيز في الصلاحية التقديرية إلى تبسيط المرحلة التمهيدية وتسريع معالجة القضايا. وفي حين أن هذا التحول يمكن أن يحسن الكفاءة القضائية ويقلل من تراكم القضايا، فإنه يركز أيضًا المزيد من السلطة داخل النيابة العامة. وهذا يثير تساؤلات مهمة بشأن توازن السلطات وشمولية التدقيق في مرحلة ما قبل المحاكمة، لا سيما إذا لم يكن مصحوبًا بآليات رقابة داخلية وخارجية قوية لمنع الانتهاكات المحتملة أو الإغفالات في غياب مرحلة تحقيق إلزامية.
4.2. التوسع في تطبيق الصلح والوساطة الجنائية
تم توسيع نطاق الصلح بشكل كبير ليشمل الجنح المعاقب عليها بالحبس لمدة تصل إلى خمس سنوات، وهو ما يمثل زيادة ملحوظة عن الحد السابق الذي كان أقل من سنتين. ويمنح المشروع النيابة العامة صلاحية كاملة لإبرام اتفاقات الصلح، مما يلغي الشرط السابق للمصادقة عليها من قبل رئيس المحكمة ويبسط الإجراء. كما تم إدخال مفهوم الوساطة الجنائية رسميًا كآلية جديدة.
يمثل توسيع نطاق الصلح وإدخال الوساطة الجنائية توجهًا سياسيًا واضحًا نحو تعزيز مبادئ العدالة التصالحية. من خلال حل نطاق أوسع من الجرائم البسيطة خارج الإجراءات القضائية الرسمية، تهدف هذه الآليات إلى تقليل العبء على النظام القضائي بشكل كبير، ومعالجة تراكم القضايا وتحسين الكفاءة العامة. كما أن منح النيابة العامة السلطة الكاملة يزيد من تبسيط هذه العملية، مما يجعلها أكثر سهولة وسرعة. ويعد هذا تطورًا إيجابيًا للكفاءة القضائية ومن المحتمل أن يعزز المصالحة بين الضحايا والجناة. ومع ذلك، هناك اعتبار حاسم، أبرزه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وهو التوصية بـ
استبعاد الوساطة في حالات العنف المتعمد القائم على النوع الاجتماعي، أو تلك التي تشمل قاصرين أو أشخاصًا ذوي إعاقة حيث أدى العنف إلى عجز أو مرض. هذا لضمان ألا يؤدي الصلح عن غير قصد إلى تطبيع العنف أو المساس بالموافقة الحرة والمستنيرة للأفراد الضعفاء، مما يؤكد الحاجة إلى تطبيق دقيق ومراعاة لهذه التدابير البديلة.
4.3. إدماج العقوبات البديلة
يتمثل أحد الأهداف الأساسية لمشروع القانون 03.23 في ترشيد اللجوء إلى الاعتقال الاحتياطي من خلال الترويج الفعال للتدابير البديلة للاعتقال وإدماجها. ويكمل هذا الجهد القانون رقم 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة، الذي تمت المصادقة عليه في ماي 2025. وقد صمم هذا التشريع التكميلي خصيصًا لمعالجة القضايا المتعلقة بالعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة، ويعتبر "تحولًا نوعيًا" في منظومة العدالة المغربية. كما يتضمن المشروع صراحة المراقبة الإلكترونية كتدبير جديد للرقابة القضائية، مما يوفر بديلاً غير احتجازي لإدارة المشتبه فيهم.
إن التطور المتزامن والموافقة على مشروع القانون 03.23 والقانون 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة يظهران استراتيجية سياساتية مدروسة ومتماسكة للتخفيف من الاكتظاظ في السجون وتعزيز إعادة التأهيل. هذا النهج يعكس إدراكًا متزايدًا للتكاليف الاجتماعية والاقتصادية والبشرية للاعتقال، ويسعى إلى تحقيق توازن أفضل بين الردع وإعادة الإدماج. ومع ذلك، فإن فعالية هذه الاستراتيجية تعتمد بشكل كبير على التنفيذ العملي لهذه البدائل. يتطلب ذلك بنية تحتية كافية، وتدريبًا متخصصًا للقضاة والنيابة العامة وموظفي السجون، بالإضافة إلى برامج دعم مجتمعية لضمان نجاح إعادة إدماج الأفراد. كما أن التحديات قد تنشأ من مقاومة التغيير في الممارسات القضائية التقليدية، والحاجة إلى موارد مالية وبشرية كبيرة لتفعيل هذه البدائل على نطاق واسع.
5. عقلنة الاعتقال الاحتياطي ووضع ضوابط للسياسة الجنائية
5.1. ترشيد اللجوء إلى الاعتقال الاحتياطي
أمام ظاهرة الاكتظاظ في السجون المغربية، حيث تجاوز عدد السجناء لأول مرة مائة ألف سجين، سعى المشروع إلى عقلنة وترشيد اللجوء إلى الاعتقال الاحتياطي باعتباره تدبيرًا استثنائيًا. وقد تم ذلك من خلال وضع ضوابط قانونية دقيقة وتقليص مدد الاعتقال. فإلى جانب اعتباره تدبيرًا استثنائيًا لا يُلجأ إليه إلا عند تعذر تطبيق تدبير بديل، أو في حالة تأثير وجود الشخص في حالة سراح على حسن سير العدالة، يتيح المشروع إمكانية الطعن في أمر الإيداع بالسجن الصادر عن وكيل الملك أمام هيئة الحكم أو أمام هيئة تتألف من ثلاثة قضاة. كما يمكن الطعن في أمر الإيداع الصادر عن الوكيل العام للملك أمام غرفة الجنايات الابتدائية، وهو حق لم يكن متاحًا سابقًا إلا في إطار الطعن في الموضوع.
ويقلص المشروع عدد تمديدات الاعتقال الاحتياطي في الجنايات من خمس مرات إلى مرتين، وفي الجنح من مرتين إلى مرة واحدة. وبالنسبة للأحداث، لا يمكن تمديد اعتقالهم احتياطيًا في الجنح إلا مرة واحدة لمدة شهر، وفي الجنايات مرتين لمدة شهرين، مع إمكانية التمديد لثلاث مرات بالنسبة لجرائم أمن الدولة أو الإرهاب. كما يتيح المشروع إمكانية الإحالة المباشرة من قبل الوكيل العام للملك على غرفة الجنايات في حالة سراح أو باستعمال تدابير المراقبة القضائية.
إن هذه التعديلات تمثل استجابة مباشرة وضرورية للتحديات الهيكلية التي يواجهها النظام القضائي المغربي، لا سيما الاكتظاظ في السجون والتكاليف البشرية والاقتصادية المرتبطة بالاعتقال الاحتياطي المفرط. من خلال ترسيخ مبدأ استثنائية الاعتقال وتوفير آليات للطعن فيه، يسعى المشروع إلى تعزيز ضمانات الحرية الفردية ومواءمة الممارسات القضائية مع المعايير الدولية. ومع ذلك، فإن تحقيق الأثر الكامل لهذه الأحكام يتطلب تحولًا ثقافيًا عميقًا داخل الجهاز القضائي وأجهزة إنفاذ القانون. يجب أن يتبنى القضاة والنيابة العامة بشكل فعال هذه الفلسفة الجديدة، وأن يُمنحوا الموارد والتدريب اللازمين لتطبيق البدائل المتاحة بفعالية. كما أن المراقبة المستمرة لمدد الاعتقال وتطبيق تدابير المراقبة القضائية، بما في ذلك المراقبة الإلكترونية، ستكون حاسمة لضمان أن هذه الإصلاحات لا تظل حبرًا على ورق، بل تتحول إلى واقع ملموس يقلل من عدد المعتقلين احتياطيًا ويحسن من كفاءة العدالة الجنائية.
5.2. مأسسة عمل رئيس النيابة العامة ووضع ضوابط للسياسة الجنائية
في إطار ملاءمة قانون المسطرة الجنائية مع قانون رئاسة النيابة العامة، نص المشروع على مجموعة من الاختصاصات المخولة للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسًا للنيابة العامة. ويؤكد المشروع على رئاسة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض للنيابة العامة ، وممارسته لسلطته على جميع قضاة النيابة العامة في كافة محاكم المملكة. كما وضع المشروع ضوابط لتعليمات رئيس النيابة العامة الموجهة إلى الوكلاء العامين للملك ووكلاء الملك، من خلال التنصيص على أن تكون قانونية وكتابية.
وللمرة الأولى، خصص المشروع فرعًا للسياسة الجنائية، تم من خلاله وضع ضوابط جديدة لتأطير وضع وتنفيذ السياسة الجنائية كجزء لا يتجزأ من السياسات العمومية للدولة. وتنص المادة 1-51 من المشروع على أن السياسة الجنائية تشمل القواعد والتدابير التي تتخذها الدولة في مجال مكافحة الجريمة والوقاية منها، ويشرف رئيس النيابة العامة على تنفيذها وفقًا لما يضعه المشرع أو ما تبلغه إليه الحكومة. كما يُسند لرئيس النيابة العامة مهمة الإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية التي يضعها المشرع، ويتم تضمين الإجراءات والتدابير المتخذة لتنفيذ هذه السياسة في التقرير السنوي الذي يعده. ويساهم المرصد الوطني للإجرام المحدث لدى وزارة العدل في رسم توجهات السياسة الجنائية من خلال جمع ومعالجة الإحصائيات الجنائية وتحليل الظواهر الإجرامية واقتراح الحلول.
إن هذه المقتضيات تعكس تحولاً مؤسسيًا هامًا نحو تعزيز دور النيابة العامة كفاعل محوري في صياغة وتنفيذ السياسة الجنائية، بما يتجاوز مجرد المتابعة القضائية. إن تحديد السياسة الجنائية كجزء من السياسات العمومية للدولة، ووضع ضوابط قانونية وكتابية لتعليمات رئيس النيابة العامة، يهدف إلى إضفاء المزيد من الشفافية والمساءلة على عمل النيابة العامة. كما أن إسناد مهمة الإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية لرئيس النيابة العامة وتضمينها في تقريره السنوي يعزز من دورها الرقابي والتقييمي. ومع ذلك، فإن فعالية هذه المأسسة ستعتمد على التنسيق الفعال بين النيابة العامة والجهات الحكومية الأخرى، لا سيما وزارة العدل، لضمان انسجام السياسات وتجنب الازدواجية أو التضارب. كما أن الدور المقترح للمرصد الوطني للإجرام، وإن كان مهمًا في توفير البيانات والتحليلات، يتطلب استقلالية كافية وموارد لضمان موضوعية تقاريره وتأثيرها على صياغة السياسات.
6. ملاحظات ختامية وتوصيات
يمثل مشروع القانون رقم 03.23 خطوة تشريعية بارزة في مسار تحديث منظومة العدالة الجنائية المغربية، ويسعى إلى تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة وحماية حقوق الأفراد ومكافحة الجريمة بفعالية. لقد أدخل المشروع مستجدات نوعية، لا سيما في ترشيد الاعتقال الاحتياطي، وتعزيز حقوق الدفاع، وتوسيع بدائل العدالة الجنائية، وتقوية الرقابة القضائية على الشرطة القضائية. هذه التعديلات تعكس التزامًا بمواءمة التشريع الوطني مع الدستور المغربي ومعايير حقوق الإنسان الدولية.
ومع ذلك، فإن تحقيق الأهداف الكاملة لهذا الإصلاح يتطلب تجاوز التحديات التي أثيرت خلال المسار التشريعي. إن السرعة التي تمت بها المصادقة على المشروع، ورفض غالبية التعديلات المقترحة من قبل الفرق البرلمانية، والانتقادات المتعلقة بإقصاء بعض مكونات المجتمع المدني، تشير إلى أن العملية لم تكن بالشمولية المرجوة. كما أن بعض المقتضيات، مثل النطاق المحدود للتسجيل السمعي البصري أثناء الاستجوابات ، والقيود المفروضة على حق التقاضي في قضايا الفساد ، وضعف مقاربة النوع ، تثير تساؤلات حول مدى تحقيق التوازن المنشود بين الفعالية وحماية الحقوق.
بناءً على التحليل السابق، يقدم هذا التقرير التوصيات التالية:
نهج تشريعي شامل: نظرًا للطبيعة الشاملة للتعديلات (أكثر من 420 مادة)، يُوصى بإصدار قانون جديد للمسطرة الجنائية في المستقبل القريب لضمان الاتساق التشريعي ومواءمته الكاملة مع المقتضيات المتقدمة للدستور. كما يجب تسريع إصدار قانون جنائي جديد يوضح جميع المبادئ والاستراتيجيات والتدابير المعتمدة من قبل الدولة لمكافحة الجريمة وضمان احترام الحقوق والحريات الأساسية.
تعزيز المشاركة والتشاور: يجب أن ترتبط المبادرات التشريعية المتعلقة بالسياسة الجنائية بتقييم مستمر وموضوعي لفعاليتها، بالاعتماد على البحوث الميدانية والدراسات العلمية. كما يجب الالتزام بالشفافية والانفتاح وإشراك أصحاب المصلحة في العدالة والخبراء والمجتمع المدني والمواطنين من خلال المنصات الرقمية في جميع المبادرات التشريعية الجنائية التي تؤثر على المجتمع.
تفعيل آليات الرقابة والمساءلة: يجب ضمان التطبيق الصارم والمتسق لأحكام المراقبة القضائية على الشرطة القضائية، بما في ذلك الزيارات المنتظمة لمرافق الاحتجاز والتحقيق الفوري في أي ادعاءات بالانتهاكات. كما يجب تفعيل مقتضى بطلان الاعترافات المنتزعة بالإكراه أو تلك التي لم يتم خلالها احترام حق الفحص الطبي، مع توفير الموارد الكافية للأطباء الشرعيين.
دعم البدائل للعقوبات السالبة للحرية: يجب الاستثمار في البنية التحتية والتدريب والبرامج المجتمعية اللازمة لتفعيل العقوبات البديلة والمراقبة الإلكترونية والوساطة الجنائية بشكل فعال. مع التأكيد على ضرورة استبعاد الوساطة والصلح في الجرائم التي تمس الفئات الهشة (كالنساء ضحايا العنف المتعمد، والقاصرين، وذوي الإعاقة) لضمان عدم المساس بحقوقهم أو تطبيع العنف.
تكامل السياسة الجنائية: يجب أن يكون إصلاح المسطرة الجنائية جزءًا لا يتجزأ من سياسة جنائية شاملة تهدف إلى تحقيق العدالة والحماية الاجتماعية، مع الأخذ في الاعتبار الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للجريمة. يتطلب ذلك تنسيقًا فعالًا بين مختلف القطاعات الحكومية والمؤسسات المعنية.
تطوير مقاربة النوع: يجب إدماج مقاربة النوع بشكل أعمق في قانون المسطرة الجنائية، من خلال وضع إجراءات خاصة للجرائم المتعلقة بالنوع الاجتماعي (مثل العنف الأسري والاغتصاب)، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي والقانوني للضحايا، وتدريب العاملين في مجال العدالة على هذه القضايا.
التحول الرقمي: تسريع مشاريع التحول الرقمي الاستراتيجية لمنظومة العدالة لتعميم الرقمنة في جميع المرافق والإدارات والإجراءات المتعلقة بالمنظومة، بما في ذلك العدالة الجنائية. وهذا يشمل تحديث القوانين لرقمنة إجراءات تبادل الوثائق وتدريب مهنيي العدالة على الرقمنة.
إن تحقيق إصلاح شامل وعميق لمنظومة العدالة الجنائية في المغرب يتطلب التزامًا مستمرًا بتعزيز دولة القانون، وحماية حقوق الإنسان، وضمان نجاعة وفعالية العدالة، مع الأخذ في الاعتبار التطورات الاجتماعية والتحديات الراهنة.
تعليقات
إرسال تعليق