القائمة الرئيسية

الصفحات

 

مستجدات قانون المسطرة المدنية بالمغرب: تحليل شامل لمشروع القانون 02.23 وتداعيات قرار المحكمة الدستورية

مقدمة

يُعد قانون المسطرة المدنية الإطار الإجرائي الأساسي الذي ينظم سير الدعاوى المدنية أمام المحاكم المغربية، ويجسد المدخل الرئيسي لممارسة حق التقاضي واقتضاء الحقوق، بما يضمن الأمن القانوني للمواطنين أفرادًا وجماعات. القانون الحالي، الذي تعود صيغته الأصلية إلى عام 1913، وقد مر بعدة تعديلات جزئية في سنوات 1965، 1974، 2011، 2014، 2019، و2021، أصبحت هذه التعديلات "متجاوزة" في ظل التطورات الهيكلية والجوهرية التي عرفها مرفق العدالة.

يأتي مشروع القانون رقم 02.23 في إطار ورش إصلاح شامل لمنظومة العدالة، استجابةً للتوجيهات الملكية السامية التي دعت إلى "الرفع من النجاعة القضائية للتصدي لما يعانيه المتقاضون من هشاشة وتعقيد وبطء العدالة". يهدف هذا المشروع إلى تبسيط وشفافية المساطر، والرفع من جودة الأحكام والخدمات القضائية، وتسهيل ولوج المتقاضين إلى المحاكم، وتسريع وتيرة معالجة الملفات وتنفيذ الأحكام. كما يسعى المشروع إلى ملاءمة النصوص القانونية مع مقتضيات الدستور المغربي لسنة 2011 ومبادئ حقوق الإنسان، وتجسيد استقلال السلطة القضائية.

المحور الأول: المسار التشريعي لمشروع القانون رقم 02.23

شهد مشروع القانون رقم 02.23 مسارًا تشريعيًا معقدًا ومكثفًا، عكس الأهمية البالغة لهذا النص في المنظومة القانونية المغربية. وقد تميز هذا المسار بمقاربة تشاركية واسعة ومناقشات مستفيضة داخل المؤسستين التشريعيتين.

مراحل إعداد المشروع وتقديمه للبرلمان

أكد وزير العدل، السيد عبد اللطيف وهبي، أن الوزارة حرصت على إعداد المشروع باعتماد منهجية تشاركية واسعة، استقت خلالها آراء ووجهات نظر مجموع المتدخلين في الحقل القضائي، بمن فيهم ممثلو السلطة القضائية والهيئات المهنية والمنظمات الحقوقية. تمت المصادقة على مشروع القانون من قبل الحكومة بتاريخ 24 غشت 2023. بعد ذلك، أودع النص بمكتب مجلس النواب يوم الخميس 9 نونبر 2023، وأحيل إلى لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان والحريات يوم الاثنين 13 نونبر 2023.

تفاصيل المناقشات والتعديلات في مجلس النواب ومجلس المستشارين

مر المشروع بقراءتين في كل من مجلس النواب ومجلس المستشارين، وشهد كل مرحلة نقاشات وتعديلات جوهرية:

القراءة الأولى في مجلس النواب

حظي المشروع بتفاعل كبير من أعضاء لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان، حيث تم قبول 256 تعديلاً كلياً و65 تعديلاً جزئياً. صادق مجلس النواب على مشروع القانون في الجلسة العامة بتاريخ الثلاثاء 23 يوليوز 2024، بأغلبية 104 نواب مقابل 35 معارضاً. تجدر الإشارة إلى أن المشروع أثار جدلاً حاداً واحتجاجات من قبل المحامين الذين اعتبروا بعض مقتضياته "غير دستورية ومهددة لمهنة المحاماة".

القراءة الأولى في مجلس المستشارين

ورد المشروع على مجلس المستشارين من مجلس النواب بتاريخ 24 يوليوز 2024، وأحيل إلى لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان في 25 يوليوز 2024. تدارست اللجنة المشروع في عدة اجتماعات مكثفة امتدت بين 18 شتنبر 2024 و7 ماي 2025، بحضور وزير العدل.

تقدم أعضاء الفرق والمجموعات البرلمانية وأعضاء المجلس غير المنتسبين بما مجموعه 549 تعديلاً، توزعت بين مختلف الفرق البرلمانية والمستشارين. استغرقت جلسة التصويت في اللجنة بتاريخ 7 ماي 2025 ما يقارب ثماني ساعات، وتم قبول حوالي 180 تعديلاً. وافقت لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان على مشروع القانون برمته معدلاً بالإجماع. وافق مجلس المستشارين على المشروع كما تم تعديله في الجلسة العامة بتاريخ 27 ماي 2025، بنتيجة 34 موافقاً، لا أحد معارضاً، و3 ممتنعين.

إن الحجم الهائل للتعديلات المقترحة (549 تعديلاً في مجلس المستشارين وحده) من قبل مختلف الفرق البرلمانية، يشير إلى أن المسودة الأولية لمشروع القانون 02.23 لم تحظَ بقبول شامل، واحتوت على العديد من النقاط المثيرة للجدل أو المجالات التي تتطلب تحسينات كبيرة. هذا المستوى من المشاركة البرلمانية، حيث تم قبول ما يقرب من 180 تعديلاً بعد جلسة تصويت مكثفة استغرقت ثماني ساعات، يؤكد على مدى التدقيق التشريعي العميق والجهد المبذول لتشكيل هذا القانون. هذا التفاعل المكثف يعكس التزامًا قويًا بصياغة القانون، آخذًا في الاعتبار مصالح سياسية ومهنية واجتماعية متنوعة. الموافقة بالإجماع من قبل اللجنة والأغلبية القوية في الجلسة العامة، على الرغم من الخلافات الأولية والنقاشات المستفيضة، تدل على تحقيق مستوى كبير من التوافق. هذه العملية لبناء التوافق ضرورية لشرعية القانون الحيوي وقابليته للتنفيذ في المستقبل، مما يشير إلى أن النص النهائي هو نتاج مفاوضات وتسويات كبيرة عبر الطيف السياسي، بهدف ضمان قبول أوسع وتطبيق أكثر سلاسة.

القراءة الثانية في مجلس النواب

أحيل النص إلى مجلس النواب مرة أخرى يوم الخميس 29 ماي 2025، بعد أن قام مجلس المستشارين بتعديل عدد من مواده، وهي المواد 31، 35، 90، 407، و477. صادق مجلس النواب على المشروع في الجلسة العامة للمرة الثانية يوم الثلاثاء 17 يونيو 2025، بأغلبية 100 نائب مقابل 33 معارضاً. أحيل النص نهائياً إلى السيد رئيس الحكومة والوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالعلاقات مع البرلمان الناطق الرسمي باسم الحكومة والأمين العام للحكومة ومجلس المستشارين بتاريخ 2025/06/17.

القراءة الثانية في مجلس المستشارين

ورد مشروع القانون من مجلس النواب في 18 يونيو 2025 في إطار قراءة ثانية. وافقت اللجنة على المشروع كما أحيل إليها بدون تعديل في الاجتماع المنعقد بتاريخ فاتح يوليوز 2025، بالأغلبية (8 موافقين، 1 معارض). وافق مجلس المستشارين على المشروع في إطار قراءة ثانية في الجلسة العامة بتاريخ 8 يوليوز 2025.

يبرز المسار التشريعي متعدد المراحل لمشروع القانون 02.23، الذي شمل مجلسي النواب والمستشارين، فعالية النظام التشريعي ثنائي الغرف في المغرب. إن قيام مجلس المستشارين بمراجعة المشروع وإدخال تعديلات محددة على مواد رئيسية (مثل المواد 31، 35، 90، 407، 477) قبل إعادته إلى مجلس النواب لقراءة ثانية، يؤكد الدور الرقابي والتدقيقي للغرفة الثانية. هذه العملية التكرارية مصممة لضمان أن التشريعات المعقدة، مثل قانون المسطرة المدنية، تخضع لمراجعة شاملة من وجهات نظر مختلفة، مما يسمح بتحسينات إضافية وتصحيح أي ثغرات أو أحكام مثيرة للجدل. الموافقة اللاحقة على هذه المواد المعدلة من قبل مجلس النواب تشير إلى وجود حوار تشريعي فعال والتزام بتحقيق نص قانوني متفق عليه وقوي. هذه العملية، على الرغم من أنها قد تستغرق وقتًا طويلاً، إلا أنها تعزز جودة وانسجام وامتثال القانون النهائي للدستور، مما يدل على نضج الإطار التشريعي القادر على التعامل مع الإصلاحات القانونية الكبرى.

جدول 1: مراحل المصادقة على مشروع القانون 02.23 في البرلمان (مجلس النواب ومجلس المستشارين)

المرحلةالجهةتاريخ الإيداع/الورودتاريخ الإحالة على اللجنةتواريخ اجتماعات اللجنة (أمثلة)عدد التعديلات المقترحةعدد التعديلات المقبولةتاريخ المصادقة في الجلسة العامةنتيجة التصويت (موافق/معارض/ممتنع)
القراءة الأولىمجلس النواب

2023/11/09

2023/11/13

--

256 كلي، 65 جزئي

2024/07/23

104/35/0

القراءة الأولىمجلس المستشارين

2024/07/24

2024/07/25

2024/09/18، 2024/12/17، 2025/05/07

549

~180

2025/05/27

34/0/3

القراءة الثانيةمجلس النواب

2025/05/29

2025/05/29

---

2025/06/17

100/33/0

القراءة الثانيةمجلس المستشارين

2025/06/18

2025/06/24

2025/07/01

--

2025/07/08

34/0/3

إن عرض المراحل التشريعية في هذا الجدول يوفر نظرة عامة واضحة وموجزة لعملية معقدة. يسمح هذا التنسيق بالتعرف السريع على الجدول الزمني، والإجراءات المحددة التي اتخذتها كل غرفة برلمانية (مجلس النواب ومجلس المستشارين)، ونتائج التصويت الرئيسية. تساعد هذه الهيكلية على تصور الطبيعة التكرارية لعملية سن القوانين في المغرب، لا سيما كيفية انتقال مشروع القانون بين الغرف. علاوة على ذلك، من خلال تضمين بيانات حول عدد التعديلات المقترحة والمقبولة، يسلط الجدول الضوء ضمنيًا على مدى التدقيق البرلماني ومجالات النقاش المكثف. هذا يعزز الفهم بأن النص النهائي هو نتاج تفاوض كبير وتوافق، مما يضمن قبولًا أوسع وتنفيذًا أكثر سلاسة للقانون.

المحور الثاني: أبرز المستجدات الجوهرية في مشروع القانون 02.23

تضمن مشروع القانون 02.23 المتعلق بالمسطرة المدنية العديد من المستجدات الجوهرية التي تهدف إلى تحديث المنظومة القضائية وتجويد الخدمات العدلية. وقد شملت هذه المستجدات إصلاحات هيكلية وإجرائية.

مقتضيات توحيد القضاء

أدمج المشروع المقتضيات المتعلقة بقضاء القرب والمحاكم المتخصصة والمحاكم العادية في نص واحد، تجسيداً لمبدأ وحدة القضاء. يهدف هذا التوحيد إلى تبسيط الهيكل القضائي وتسهيل فهم الاختصاصات القضائية، مما يسهم في تحقيق الانسجام القانوني.

تعديلات على شروط قبول الدعوى

نص القانون على أن "لا يصح التقاضي إلا ممن له الصفة، والأهلية، والمصلحة، لإثبات حقوقه". وقد أضاف المشروع شرط "الإذن بالتقاضي إن كان ضرورياً" كشرط رابع لقبول الدعوى. تتميز هذه التعديلات بكون المحكمة تثير تلقائياً انعدام هذه الشروط (الصفة، الأهلية، المصلحة، الإذن بالتقاضي) وتُنذر الطرف بتصحيح المسطرة داخل أجل محدد، وإلا صرح القاضي بعدم قبول الدعوى. هذا الإجراء يعزز دور القاضي في تصفية الدعاوى وضمان استيفاء الشروط الشكلية منذ البداية.

مراجعة طرق الطعن وتقليص مجالها، وتوسيع نطاق التقاضي بدون محام

يسعى المشروع إلى تقليص مجال الحق في الطعن في الأحكام بهدف تخفيف عدد القضايا المعروضة أمام القضاء ومواجهة مشكل الخصاص. وقد طُرحت انتقادات بشأن تقييد اللجوء إلى ممارسة بعض الطعون بقيمة مالية معينة، حيث أكدت أصوات حقوقية على ضرورة مراعاة مبدأ الضرورة والتناسب ووضع الفئات الهشة كالأجراء والمستهلكين، مع اقتراح حلول غير مالية لتخفيف العبء على المحاكم، مثل إخضاع بعض الطعون لإذن قضائي مسبق للتأكد من جديتها.

كما تضمن المشروع توسيع مجال القضايا التي يمكن التقاضي فيها بدون مساعدة محامٍ. تنص المادة 314 على إمكانية تمثيل الأطراف بمحامٍ أو بإذن من المحكمة في حالة تعذر الحضور الشخصي. إضافة إلى ذلك، فإن مسطرة تقديم الحساب (المواد 440 و447) معفاة من تنصيب محامٍ.

أثير جدل كبير حول المادة 78 من مسودة المشروع، التي تسمح بتمثيل الإدارات العمومية والجماعات الترابية بواسطة موظفين منتدبين لهذه الغاية بدلاً من المحامين. وقد أثار هذا المقتضى مخاوف بشأن هدر المال العام ونقص الكفاءة في الدفاع عن مصالح الجماعات الترابية، حيث أشار بعض المحامين إلى أن التجربة أثبتت عدم توفر الجماعات على كفاءات بشرية مؤهلة للدفاع عن مصالحها، مما قد يؤدي إلى خسارة مبالغ مالية كبيرة نتيجة سوء تدبير هذه المساطر أمام القضاء.

إن تركيز المشروع على تقليص نطاق الحق في الطعن وتوسيع إمكانية التقاضي بدون محامٍ، يوضح توجهًا تشريعيًا نحو تعزيز الكفاءة القضائية ومعالجة مشكلة تراكم القضايا في النظام العدلي. هذا التوجه يهدف إلى تسريع وتيرة التقاضي وتخفيف الأعباء على المحاكم. ومع ذلك، فإن هذا المسعى يخلق توازنًا دقيقًا مع مبادئ أساسية للعدالة، مثل الحق في الولوج إلى العدالة والمساواة أمام القانون. على سبيل المثال، قد يؤثر تقييد الطعون بناءً على القيمة المالية بشكل غير متناسب على الأفراد ذوي الدخل المحدود، مما يحد من قدرتهم على متابعة حقوقهم القانونية بشكل كامل. وبالمثل، فإن السماح للإدارات العامة بتمثيل نفسها بواسطة موظفين غير محامين، كما هو مقترح في المادة 78، قد يؤدي إلى تدهور جودة التمثيل القانوني للمصلحة العامة، مما قد ينتج عنه خسائر مالية للدولة. هذا التوتر بين الكفاءة وحماية الحقوق يشير إلى أن الإصلاح، بينما يسعى إلى تحديث وتبسيط الإجراءات المدنية، يواجه تحديًا جوهريًا في تحقيق التوازن بين فعالية النظام وحماية حقوق الأفراد والجماعات بشكل شامل، مما قد يؤدي إلى ظهور نقاط ضعف جديدة أو تفاقم عدم المساواة القائمة في النتائج القضائية إذا لم يتم التعامل معها بعناية.

إدماج التقاضي الإلكتروني ورقمنة الإجراءات القضائية

من أبرز المستجدات التشريعية في المشروع إدماج التقاضي الإلكتروني ورقمنة الإجراءات القضائية، بهدف تبسيط الإجراءات القضائية وتعزيز الحماية القانونية للحقوق وتحسين جودة الخدمات القضائية. هذا التوجه يواكب التطورات التكنولوجية ويسعى إلى تسريع وتيرة العمل القضائي.

تنظيم دور النيابة العامة في الدعوى المدنية

أعاد المشروع تنظيم مجال تدخل النيابة العامة في الدعوى المدنية، باعتبارها وكيلة المجتمع. وقد أجاز المشروع للنيابة العامة، سواء كانت طرفاً في الدعوى أم لا، حق الطعن من أجل التصريح ببطلان الحكم المخالف للنظام العام دون التقييد بآجال الطعن. (لكن هذا المقتضى أُعلن عدم دستوريته لاحقاً، وسيتم تفصيله في المحور الثالث). تتدخل النيابة العامة كطرف منضم في جميع القضايا التي يأمر القانون بتبليغها إليها، أو عندما تطلب التدخل بعد اطلاعها على الملف، أو عندما تحال عليها القضية تلقائياً من القاضي. حضور النيابة العامة في الجلسة غير إلزامي إلا إذا كانت طرفاً رئيسياً أو كان حضورها محتماً قانوناً، ويكون حضورها اختيارياً في الأحوال الأخرى.

مستجدات أخرى

تضمن المشروع مستجدات أخرى مهمة، منها:

  • مسطرة تقديم الحسابات: يرفع الطلب من طرف من له الحق فيه أو ممثله القانوني، أو من يقدمه إذا رغب في التحرر منه. يجبر المطالب بالحساب بحجز أمواله وبيعها في حدود المبلغ الذي تعينه المحكمة إذا لم يقدم حسابه خلال الأجل المحدد.

  • أحكام التجريح: يمكن تجريح الشهود لعدم أهليتهم لأداء الشهادة أو للقرابة القريبة أو لأي سبب خطير آخر.

  • امتناع القاضي عن النظر: يمتنع على القاضي أن ينظر قضية في طور الاستئناف أو النقض بعد ما سبق له أن نظر فيها أمام محكمة أدنى درجة.

  • حسن النية في التقاضي: يجب على كل متقاضٍ ممارسة حقوقه طبقاً لقواعد حسن النية.

  • حدود طلبات الأطراف: يتعين على المحكمة أن تبث في حدود طلبات الأطراف ولا يمكن لها أن تغير تلقائياً موضوع أو سبب هذه الطلبات.

المحور الثالث: قرار المحكمة الدستورية وتداعياته على مشروع القانون

بعد المصادقة البرلمانية على مشروع القانون رقم 02.23، أحيل النص إلى المحكمة الدستورية للبت في مدى مطابقته للدستور، وهو إجراء يضمن سمو الدستور وحماية الحقوق والحريات. وقد أصدرت المحكمة قرارًا حاسمًا ألغى أو قيد بعض المقتضيات.

مضمون قرار المحكمة الدستورية رقم 255/25 م.د وتاريخ صدوره

أصدرت المحكمة الدستورية قرارها رقم 255/25 م.د بتاريخ 4 غشت 2025، بعد اطلاعها على القانون رقم 23.02 المتعلق بالمسطرة المدنية، المحال إليها من رئيس مجلس النواب بتاريخ 9 يوليوز 2025. قضى القرار بعدم مطابقة مجموعة من فصول القانون للدستور.

المقتضيات التي قضت المحكمة الدستورية بعدم دستوريتها

شمل قرار المحكمة الدستورية إلغاء أو تقييد عدة مواد أساسية في المشروع، لأسباب تتعلق بمبادئ دستورية جوهرية:

  • صلاحيات وزير العدل غير الدستورية (المادتان 408 و410):

    • كان المشروع يمنح وزير العدل حق تقديم طلبات الإحالة لمحكمة النقض، إما بدعوى "تجاوز القضاة لاختصاصاتهم" أو في حالات "التشكك المشروع".

    • اعتبرت المحكمة أن هذا المقتضى يمثل تدخلاً مباشراً من السلطة التنفيذية في عمل القضاء ، وهو ما يتعارض مع مبدأ استقلال السلطة القضائية ومبدأ فصل السلط.

    • تأسيساً على ذلك، قضت المحكمة بعدم دستورية هاتين المادتين. هذا التأكيد على استقلالية القضاء يعزز الفصل بين السلطات ويضمن أن القرارات القضائية لا تخضع لتأثيرات تنفيذية، مما يعمق ثقة المواطنين في نزاهة النظام القضائي.

  • صلاحية النيابة العامة في الطعن ببطلان الأحكام النهائية (المادة 17):

    • كانت المادة 17 تخول للنيابة العامة المختصة أن تطلب التصريح ببطلان كل مقرر قضائي يكون من شأنه مخالفة النظام العام، داخل أجل خمس سنوات من تاريخ صيرورته حائزاً لقوة الشيء المقضي به.

    • رغم اعتراف المحكمة بدور النيابة العامة في حماية النظام العام، إلا أنها اعتبرت أن منحها صلاحية طلب بطلان أحكام قضائية نافذة، دون ضوابط دقيقة وسلطة تقديرية غير مألوفة، يمس بمبدأ حجية المقررات القضائية ويقوض ثقة المواطن بالقضاء، ويمس بمبدأ الأمن القضائي.

    • لذلك، قضت المحكمة بعدم دستورية هذا المقتضى. هذا القرار يؤكد على أهمية الاستقرار القانوني وحجية الأحكام القضائية النهائية، ويحمي المتقاضين من إعادة فتح القضايا بعد صدور أحكام باتة، مما يعزز الأمن القانوني.

  • إشكالية التبليغ بالظن لا باليقين (المادة 84 والمواد المرتبطة بها):

    • كانت المادة 84 تجيز للمكلف بالتبليغ، عند عدم العثور على الشخص المطلوب تبليغه في موطنه الحقيقي أو المختار أو محل إقامته، أن يسلم الاستدعاء إلى من يثبت بأنه وكيله أو يعمل لفائدته أو يصرح بذلك، أو أنه من الساكنين معه من الأزواج أو الأقارب أو الأصهار ممن يدل ظاهرهم على أنهم بلغوا سن 16، على ألا تكون مصلحة المعني في التبليغ.

    • وصفت المحكمة هذه الصيغة بأنها فضفاضة وتفتقر للوضوح والضمانات، إذ لاحظت أنها تعتمد على التخمين بدل الإثبات، وتلقي على عاتق عون التبليغ تقديرات قانونية لا يملكها.

    • اعتبرت المحكمة أن هذا المقتضى يخل بمبدأ الأمن القانوني ويقوض حق الأفراد في محاكمة عادلة، كما نص عليه الفصل 120 من الدستور.

    • ولأن هذه الصيغة شكلت أساساً لعدد من المواد الأخرى، فقد وسعت المحكمة نطاق عدم الدستورية ليشمل المواد: 97، 101، 103، 105، 123، 127، 173، 196، 204، 229، 323، 334، 352، 355، 357، 361، 386، 500، 115، 138، 185، 201، 312، 439. هذا القرار يعزز ضمانات المحاكمة العادلة ويؤكد على ضرورة اليقين القانوني في إجراءات التبليغ، مما يحمي حقوق الدفاع للمتقاضين.

  • إدارة النظام المعلوماتي القضائي (المادتان 624 و628):

    • قضت المحكمة بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 624 والفقرتين الثالثة والأخيرة من المادة 628، التي كانت تسند إدارة النظام المعلوماتي القضائي لوزارة العدل.

    • أكدت المحكمة أن "العمل القضائي يظل، في كليته، مما تستقل به السلطة القضائية، ويعود معه إلى هذه السلطة لا غيرها مسك وتدبير هذا النظام". هذا يضمن استقلالية السلطة القضائية في إدارة شؤونها الداخلية، بما في ذلك الأنظمة التكنولوجية التي تدعم عملها، بعيدًا عن أي تدخل من السلطة التنفيذية.

  • تناقضات المادة 339:

    • المادة 339 كانت تجبر القاضي على تعليل رفض التجريح فقط، بدل تعليل كل القرارات. اعتبرت المحكمة هذا المقتضى غير دستوري.

  • خطأ في الإحالة في المادة 288:

    • وجدت المحكمة أن المادة 288، بإحالتها على المادة 284، غير مستوفية لمتطلبات وضوح ومقروئية القواعد القانونية التي يفرضها الفصل السادس من الدستور، الذي يعتبر "القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة".

تداعيات قرار المحكمة الدستورية ومصير القانون

قضت المحكمة، في ختام قرارها، بتبليغ نصّه إلى رئاسة الحكومة ورئاستي مجلسي البرلمان، ونشره في الجريدة الرسمية. يُعد هذا التدخّل دعوة واضحة لإعادة صياغة المواد المعلّلة احترامًا لسمو الدستور وصونًا لثوابت العدالة.

رحبت وزارة العدل بقرار المحكمة الدستورية، مؤكدة أنه يشكل محطة دستورية هامة في مسار البناء الديمقراطي وتعزيز الضمانات القانونية داخل المنظومة القضائية الوطنية. وأكدت الوزارة التزامها باتخاذ ما يلزم من تدابير قانونية ومؤسساتية، بتنسيق مع مختلف الفاعلين، من أجل تكييف المقتضيات المعنية مع ما قضت به المحكمة الدستورية، في إطار الاستمرارية التشريعية الهادفة إلى تطوير منظومة العدالة، بما يخدم مصلحة المتقاضين ويكرّس نهج الإصلاح الشامل.

يشير هذا القرار إلى الدور المحوري للمحكمة الدستورية في حماية مبادئ استقلال القضاء، وحقوق الدفاع، والأمن القانوني، ووضوح القوانين. إن إعلان عدم دستورية هذه المواد يلزم البرلمان بإعادة مناقشتها وتعديلها لتتوافق مع مقتضيات الدستور. هذا التطور يؤكد على أن عملية الإصلاح التشريعي هي عملية ديناميكية تتطلب تدقيقًا مستمرًا لضمان التوافق بين النصوص القانونية والمبادئ الدستورية العليا.

الخاتمة

يمثل مشروع قانون المسطرة المدنية رقم 02.23 في المغرب خطوة تشريعية طموحة نحو تحديث المنظومة القضائية وتجويد خدمات العدالة. وقد عكس المسار التشريعي لهذا القانون، بما فيه من مناقشات مستفيضة وتعديلات متعددة بين مجلسي البرلمان، التزامًا برلمانيًا عميقًا بصياغة نص قانوني شامل ومتوازن. هذه العملية المكثفة، التي تضمنت تقديم مئات التعديلات وقبول جزء كبير منها، تبرز الحيوية الديمقراطية والحرص على بناء توافق واسع حول قانون بهذا الحجم والأهمية.

لقد أتى المشروع بمستجدات جوهرية تهدف إلى تبسيط الإجراءات ورقمنتها، وتوحيد الهيكل القضائي، ومراجعة شروط قبول الدعاوى وطرق الطعن. ومع ذلك، فإن بعض هذه المستجدات، خاصة تلك المتعلقة بتقليص مجال الطعن وتوسيع نطاق التقاضي بدون محامٍ، أثارت نقاشات حول التوازن بين تحقيق النجاعة القضائية وضمان ولوج عادل للعدالة وحماية حقوق الفئات الهشة.

وفي هذا السياق، جاء قرار المحكمة الدستورية رقم 255/25 م.د ليؤكد على الدور الرقابي الدستوري الحيوي في ضمان توافق التشريعات مع مبادئ الدستور المغربي. إن إعلان عدم دستورية مواد رئيسية تتعلق بصلاحيات وزير العدل في التدخل في القضاء، وصلاحيات النيابة العامة في الطعن في الأحكام النهائية، وإجراءات التبليغ، وإدارة النظام المعلوماتي القضائي، يؤكد على سمو الدستور وضرورة الحفاظ على استقلال السلطة القضائية وحقوق الدفاع والأمن القانوني.

إن ترحيب وزارة العدل بقرار المحكمة الدستورية والتزامها بتكييف المقتضيات القانونية المعنية يعكس إرادة سياسية لمواصلة إصلاح العدالة في إطار الاحترام التام للمبادئ الدستورية. وبالتالي، فإن مستقبل قانون المسطرة المدنية في المغرب سيتوقف على مدى قدرة الفاعلين التشريعيين والتنفيذيين على إعادة صياغة المواد التي أُعلن عدم دستوريتها، بما يضمن تحقيق الأهداف المنشودة من الإصلاح دون المساس بالضمانات الدستورية الأساسية للحقوق والحريات. هذا المسار يؤكد على أن الإصلاح القضائي هو عملية مستمرة وديناميكية، تتطلب يقظة قانونية وتكيفًا مستمرًا مع متطلبات دولة القانون والمؤسسات.

تعليقات