القائمة الرئيسية

الصفحات

مستجدات التنضيم القضائي المغربي

 

الإصلاح القضائي في المغرب: تحليل معمق لقانون التنظيم القضائي الجديد ومستجدات قانون المسطرة المدنية

1. مقدمة: سياق الإصلاح القضائي في المغرب

يُعد الإصلاح القضائي دعامة أساسية في بناء دولة القانون وتعزيز الحريات والحقوق الأساسية للمواطنين. فمنظومة العدالة الفعالة والنزيهة هي الضامن لتحقيق الأمن القضائي للأفراد والجماعات، وهو مبدأ دستوري جوهري يضمن حماية الحقوق وتطبيق القانون على الجميع. تهدف هذه الإصلاحات إلى رفع النجاعة القضائية، وتبسيط المساطر، وتحسين جودة الأحكام والخدمات القضائية، مما يسهل الولوج إلى العدالة ويسرع وتيرة معالجة الملفات وتنفيذ الأحكام. هذه الأهداف تعكس التوجيهات الملكية السامية التي دعت إلى الرفع من النجاعة القضائية ومواجهة تحديات بطء وتعقيد العدالة. إن هذا التوجه يشير إلى أن التغييرات التشريعية ليست مجرد تعديلات تقنية، بل هي جزء لا يتجزأ من إصلاح شامل واستراتيجي لمنظومة العدالة في المغرب، يعكس رؤية طويلة الأمد لتعزيز سيادة القانون.

إن الإشارة المتكررة إلى "إصلاح منظومة العدالة" و"الميثاق الوطني لإصلاح العدالة" في الوثائق المرجعية تؤكد أن التغييرات التشريعية الحالية ليست أحداثًا معزولة، بل هي جزء من عملية إصلاح أوسع وأكثر شمولية. هذا يبرز وجود رؤية استراتيجية والتزام بتحول جذري في النظام القضائي، حيث أن نجاح هذه القوانين الفردية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمدى فعاليتها ضمن هذا الإطار الإصلاحي الشامل.

نظرة تاريخية موجزة للتنظيم القضائي المغربي

شهد التنظيم القضائي المغربي تطورات وإصلاحات مستمرة ودورية، نتيجة للتغيرات السياسية والاقتصادية والقانونية التي عرفتها المملكة. دخل قانون التنظيم القضائي الحالي، القانون رقم 38.15، حيز التنفيذ في 15 يناير 2023، ليحل محل الظهير الشريف الصادر في 15 يوليو 1974، بعد 47 عاماً من التطبيق. أما قانون المسطرة المدنية، فترجع صيغته الأصلية إلى عام 1913، وقد عرف تعديلات جوهرية على مر السنوات، أهمها محطة التعريب والتوحيد والمغربة في عام 1965، ومحطتا الإصلاح في سنتي 1974 و2011، بالإضافة إلى تعديلات لاحقة في 2019 و2021.

إن هذا المسار التاريخي يكشف عن نمط من التعديلات التشريعية المستمرة. وتُصاغ الإصلاحات الأخيرة، لا سيما القانون 38.15 ومشروع القانون 02.23، كاستجابة مباشرة لدستور 2011. هذا التطور يشير إلى أن هذه الإصلاحات ليست مجرد تحديثات فنية، بل هي متجذرة بعمق في المبادئ الدستورية الأساسية والمتطلبات المجتمعية المتطورة لنظام عدالة أكثر فعالية وحماية للحقوق. هذا التأطير يؤكد الأهمية العميقة لهذه التغييرات، حيث تتجاوز مجرد التحديثات التشريعية لتصل إلى إعادة تنظيم جوهرية تتماشى مع معايير الحوكمة الحديثة وحقوق الإنسان.

2. قانون التنظيم القضائي الجديد (القانون رقم 38.15): المبادئ والمكونات

يُعد القانون رقم 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي إطاراً تشريعياً محورياً يهدف إلى تحديث وتطوير المنظومة القضائية المغربية، وذلك بتكريس مجموعة من المبادئ الأساسية وتحديد هيكلة واختصاصات المحاكم وأدوار الفاعلين القضائيين.

المبادئ الأساسية للتنظيم القضائي

استقلال السلطة القضائية ووحدة القضاء

يُشكل مبدأ استقلال السلطة القضائية حجر الزاوية في القانون 38.15، حيث يؤكد على استقلالها التام عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، مع التأكيد على أن جلالة الملك هو الضامن لهذا الاستقلال. يلتزم القضاة بموجب هذا المبدأ بتطبيق القانون فقط، وتصدر أحكام القضاء على أساس التطبيق العادل للقانون. كما لا يجوز عزل القضاة أو نقلهم إلا بمقتضى القانون، ويُمنع أي تدخل في القضايا المعروضة عليهم، فلا يتلقون أي أوامر أو تعليمات بشأن مهمتهم القضائية، ولا يخضعون لأي ضغط. ويُعد أي إخلال بواجب الاستقلال والتجرد خطأ مهنياً جسيماً.

يسهر المجلس الأعلى للسلطة القضائية على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، بما في ذلك استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم. إن هذا القانون يترجم مبدأ الاستقلال الدستوري إلى آليات عملية ملموسة، خاصة من خلال توسيع صلاحيات المجلس الأعلى للسلطة القضائية في إدارة المسار المهني للقضاة وشؤونهم. ومع ذلك، فإن حقيقة أن بعض المقتضيات في مشروع قانون المسطرة المدنية (02.23) قد اعتُبرت لاحقاً غير دستورية بسبب تجاوز السلطة التنفيذية ، تشير إلى أن تفعيل الاستقلال القضائي هو عملية مستمرة تتخللها تحديات وتتطلب يقظة مستمرة من المحكمة الدستورية.

يعتمد التنظيم القضائي أيضاً على مبدأ وحدة القضاء، وتعتبر محكمة النقض أعلى هيئة قضائية بالمملكة، مما يضمن توحيد الاجتهاد القضائي وتناسق التطبيق القانوني على مستوى البلاد.

مبدأ القضاء المتخصص

يُعزز القانون 38.15 مبدأ القضاء المتخصص، خاصة فيما يتعلق بالمحاكم والأقسام المتخصصة. فقد أحدث أقساماً متخصصة في القضاء التجاري والقضاء الإداري داخل المحاكم الابتدائية، بهدف تقريب القضاء من المتقاضين وتسهيل وصولهم إلى العدالة المتخصصة. ويُراعى تخصص القضاة عند تعيينهم في هذه المحاكم والأقسام، لضمان الكفاءة والخبرة في معالجة القضايا المعقدة.

إن إنشاء أقسام متخصصة في الشؤون التجارية والإدارية ضمن المحاكم الابتدائية ، بدلاً من الاعتماد الكلي على محاكم متخصصة منفصلة، يمثل خطوة استراتيجية لتعزيز إمكانية الوصول إلى العدالة المتخصصة. يهدف هذا النهج إلى تخفيف العبء على المحاكم المتخصصة المركزية وتحسين سرعة البت في القضايا من خلال معالجة المزيد من الحالات المتخصصة على مستوى المحاكم الابتدائية. ومع ذلك، فإن وجود كل من الأقسام المتخصصة والمحاكم المتخصصة المخصصة ضمن النظام القضائي الموحد الأوسع يطرح تحديًا هيكليًا معقدًا: كيفية ضمان الكفاءة والخبرة من خلال التخصص دون تجزئة الهيكل القضائي العام أو خلق تعقيدات قضائية جديدة.

مجانية التقاضي وحقوق المتقاضين

يُكفل القانون مبدأ مجانية التقاضي في الحالات المنصوص عليها قانوناً لمن لا يتوفر على موارد كافية للتقاضي، وتتم الاستفادة من المساعدة القضائية طبقاً للشروط التي يحددها القانون. كما يُضمن حق التقاضي لكل شخص للدفاع عن حقوقه ومصالحه التي يحميها القانون. يجب أن تكون الأحكام معللة ومحررة بالكامل قبل النطق بها، وتصدر في جلسة علنية، وتعتبر الأحكام النهائية والقرارات القابلة للتنفيذ ملزمة للجميع. ويكفل الدستور حقوق الدفاع أمام جميع المحاكم.

على الرغم من أن القانون يضمن رسميًا مجانية التقاضي للمعوزين والحق العام في التقاضي ، فإن النقاشات المستمرة حول إلزامية التمثيل القانوني في بعض القضايا والتكاليف المرتبطة بها للمتقاضين تكشف عن فجوة محتملة بين الحق الرسمي والوصول الفعال إلى العدالة. هذا يشير إلى أن مبدأ "مجانية التقاضي" ليس مطلقًا ويواجه تحديات عملية في التنفيذ، خاصة بالنسبة للفئات الهشة.

هيكل المحاكم واختصاصاتها

يتكون التنظيم القضائي المغربي من محاكم عادية، تشمل محكمة النقض، ومحاكم الاستئناف، والمحاكم الابتدائية. بالإضافة إلى ذلك، توجد محاكم متخصصة، مثل المحاكم الإدارية والمحاكم التجارية، ومحاكم الاستئناف الإدارية والتجارية. كما يضم النظام القضائي محاكم استثنائية كالمحكمة العسكرية والمحكمة العليا.

المحاكم الابتدائية

تُشكل المحكمة الابتدائية الوحدة الرئيسية في التنظيم القضائي، وهي صاحبة الولاية العامة في جميع القضايا التي لم يُسند الاختصاص بشأنها صراحة إلى جهة قضائية أخرى. تتألف المحاكم الابتدائية من رئيس ونواب رئيس وقضاة، بالإضافة إلى نيابة عامة تتكون من وكيل الملك ونائب أو عدة نواب، وكتابة الضبط، وكتابة النيابة العامة. يمكن تقسيم هذه المحاكم بحسب نوعية القضايا التي تختص بالنظر فيها إلى أقسام قضاء الأسرة وغرف مدنية، وتجارية، وعقارية، واجتماعية، وزجرية.

أحدث القانون 38.15 أقساماً متخصصة في القضاء التجاري والإداري داخل المحاكم الابتدائية. تنظر المحاكم الابتدائية في القضايا ابتدائياً مع حق الاستئناف أمام غرفة الاستئنافات الابتدائية (للقضايا التي تقل عن 20,000 درهم) أو أمام محكمة الاستئناف (للقضايا التي تتجاوز 20,000 درهم). إن دمج الأقسام المتخصصة في الشؤون التجارية والإدارية ضمن المحاكم الابتدائية يمثل ابتكارًا هيكليًا بارزًا. يهدف هذا التوجه إلى لامركزية العدالة المتخصصة، مما يجعلها أكثر قربًا جغرافيًا للمتقاضين. يسعى هذا النهج إلى تخفيف عبء القضايا على المحاكم المتخصصة المخصصة وتحسين سرعة البت في القضايا من خلال معالجة المزيد من الحالات المتخصصة في الدرجة الأولى، بالقرب من المواطنين.

محاكم الاستئناف

تتألف محاكم الاستئناف من الرئيس الأول، المستشارين، النيابة العامة (الوكيل العام للملك ونوابه)، كتابة الضبط، وكتابة النيابة العامة. تضم هذه المحاكم عدة غرف متخصصة، منها غرفة الأحوال الشخصية. يمكن أن تشتمل محاكم الاستئناف أيضاً على أقسام متخصصة في القضاء التجاري والإداري، على غرار المحاكم الابتدائية. إن إمكانية إنشاء أقسام متخصصة تجارية وإدارية داخل محاكم الاستئناف يعكس الهيكل المتبع في المحاكم الابتدائية. هذا يشير إلى استراتيجية متسقة وشاملة لتعميق التخصص عبر مختلف درجات التقاضي. والهدف من ذلك هو ضمان أن الطعون في المجالات المتخصصة يتم النظر فيها من قبل قضاة ذوي خبرة ذات صلة، مما يعزز جودة واتساق المراجعة القضائية.

محكمة النقض: أعلى هيئة قضائية

تعتبر محكمة النقض أعلى هيئة قضائية بالمملكة. تختص بالنظر في طلبات النقض المرفوعة ضد الأحكام الاستئنافية والنهائية، وطلبات إلغاء المقررات الصادرة عن السلطات الإدارية بسبب الشطط في استعمال السلطة، والبت في تنازع الاختصاص بين المحاكم. كما تنظر في دعاوى مخاصمة القضاة والمحاكم غير محكمة النقض، وطلبات مراجعة الأحكام الجنائية والتأديبية. يوفر الموقع الرسمي لمحكمة النقض خدمات قضائية تشمل الاجتهادات القضائية والبحث عن مآل الملفات.

إن الاختصاصات الواسعة لمحكمة النقض تضعها ليس فقط كمحكمة استئناف عليا، بل كمؤسسة حاسمة لضمان توحيد التفسير القانوني وتطبيق سيادة القانون عبر النظام القضائي بأكمله. وتُعد خدماتها الإلكترونية المتعلقة بالاجتهادات القضائية خطوة مهمة نحو الشفافية وإتاحة المعلومات القانونية، وهو أمر حيوي لتعزيز الأمن القضائي والقدرة على التنبؤ القانوني للمتقاضين والمهنيين القانونيين على حد سواء.

جدول 2.1: هيكل المحاكم المغربية واختصاصاتها الرئيسية بموجب القانون 38.15

نوع المحكمةالتأليف/الجهات الفاعلة الرئيسيةالاختصاصات الرئيسية/الأقسام المتخصصةالمبادئ/الخصائص الرئيسية
المحاكم الابتدائية

رئيس، نواب رئيس، قضاة، وكيل الملك ونوابه، كتابة الضبط، كتابة النيابة العامة

قضايا الأسرة، غرف مدنية، تجارية، عقارية، اجتماعية، زجرية. أقسام متخصصة في القضاء التجاري والإداري

الوحدة الرئيسية في التنظيم القضائي، صاحبة الولاية العامة. التقاضي ابتدائياً مع حق الاستئناف

محاكم الاستئناف

الرئيس الأول، المستشارون، الوكيل العام للملك ونوابه، كتابة الضبط، كتابة النيابة العامة

غرف متخصصة (مثل الأحوال الشخصية). إمكانية أقسام متخصصة في القضاء التجاري والإداري

مراجعة أحكام المحاكم الابتدائية، تعزيز التخصص في الاستئناف

محكمة النقض

رئيسها الأول، الوكيل العام للملك، رؤساء الغرف، المستشارون

طلبات النقض ضد الأحكام الاستئنافية والنهائية، إلغاء المقررات الإدارية، تنازع الاختصاص، مخاصمة القضاة، مراجعة الأحكام الجنائية

أعلى هيئة قضائية بالمملكة، ضمان وحدة الاجتهاد القضائي

المحاكم التجارية

رئيس، نواب رئيس، قضاة، وكيل الملك ونوابه، كتابة الضبط، كتابة النيابة العامة

النزاعات المتعلقة بالعقود التجارية، الأوراق التجارية، الشركات التجارية، الأصول التجارية، مساطر صعوبة المقاولة

قضاء متخصص في الشؤون التجارية

المحاكم الإدارية

رئيس، قضاة، مفوض ملكي، كتابة الضبط

طلبات إلغاء قرارات السلطات الإدارية، النزاعات المتعلقة بالعقود الإدارية، دعاوى التعويض عن الأضرار الإدارية

قضاء متخصص في الشؤون الإدارية، حماية الحق العام

أدوار الفاعلين القضائيين: القضاة والنيابة العامة وكتابة الضبط

القضاة

يمارس القضاة مهامهم باستقلال وتجرد ونزاهة واستقامة، ضامنين لمساواة الجميع أمام القضاء. يتولون حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون. يُعين المجلس الأعلى للسلطة القضائية رؤساء أقسام قضاء الأسرة والأقسام المتخصصة في القضاء الإداري والتجاري، بالإضافة إلى القضاة المكلفين بالأحداث، مما يعزز استقلالهم المهني.

إن التأكيد في الوثائق على مسؤولية القضاة في حماية "الحقوق والحريات" وضمان "الأمن القضائي" يشير إلى تحول يتجاوز مجرد التطبيق التقني للقانون. هذا يبرز دورًا مجتمعيًا أوسع وأكثر استباقية للقضاة في دعم القيم الدستورية وحقوق الإنسان. هذا التفويض الموسع يستلزم تطويرًا مهنيًا مستمرًا وإشرافًا أخلاقيًا قويًا.

النيابة العامة

يمكن للنيابة العامة أن تكون طرفاً رئيسياً أو طرفاً منضماً في الدعاوى، وتمثل الأغيار في الحالات التي ينص عليها القانون. يحق لها استعمال جميع طرق الطعن عدا التعرض عندما تتدخل تلقائياً كمدعية أو مدعى عليها. حضورها في الجلسات ليس إلزامياً إلا إذا كانت طرفاً رئيسياً أو كان حضورها محتماً قانوناً.

تضطلع النيابة العامة بدور أساسي في حماية النظام العام، وقد أُجيز لها في مشروع القانون 02.23 صلاحية طلب التصريح ببطلان الأحكام المخالفة للنظام العام. ومع ذلك، فقد قُضي بعدم دستورية هذه الصلاحية لاحقاً من قبل المحكمة الدستورية، حيث اعتبرت أنها تمس بمبدأ حجية المقررات القضائية وتقوض ثقة المواطن بالقضاء. هذا التطور يعكس صراعاً مؤسسياً حول حدود نفوذ السلطة التنفيذية داخل المجال القضائي ومبدأ حجية الأمر المقضي به. بالإضافة إلى ذلك، فإن إلغاء حضور النيابة العامة في مداولات محكمة النقض يشير إلى إعادة تعريف متعمدة لدورها داخل أعلى هيئة قضائية.

تولي رئاسة النيابة العامة اهتماماً كبيراً لشكايات المواطنين لتعزيز جودة العدالة، وقد أحدثت شكايات إلكترونية في هذا الصدد، مما يعكس جهودها في تحسين التواصل والخدمات القضائية.

كتابة الضبط

يمارس موظفو كتابة الضبط مهامهم بتجرد ونزاهة واستقامة. يتولون مهام ذات صبغة قضائية، مالية، إدارية وتقنية، مما يجعلهم جزءاً لا يتجزأ من سير العمل القضائي. جاء القانون 38.15 بمبدأ توحيد كتابة الضبط، حيث يكون الكاتب العام للمحكمة هو الرئيس التسلسلي لجميع موظفي المحكمة، بما في ذلك العاملين بالنيابة العامة.

غير أن المحكمة الدستورية اعتبرت أن تعيين الكاتب العام للمحكمة من بين أطر كتابة الضبط وممارسته لمهام ذات طبيعة قضائية دون إخضاعه لسلطة ومراقبة المسؤول القضائي يُعد مخالفاً للدستور. هذا القرار يؤكد أن حتى الوظائف الإدارية وموظفي الدعم داخل الجهاز القضائي يجب أن تُنظم بطريقة تحترم استقلال القضاء وتضمن الإشراف القضائي المناسب. هذا يوسع مبدأ الاستقلال ليشمل الجهاز القضائي بأكمله.

3. مشروع قانون المسطرة المدنية (القانون رقم 02.23): المستجدات والمسار التشريعي

يمثل مشروع قانون المسطرة المدنية رقم 02.23 إصلاحاً تشريعياً مهماً يهدف إلى تحديث الإجراءات القضائية المدنية في المغرب، وقد مر بمسار تشريعي معقد وشهد نقاشات واسعة.

أهداف المشروع ومستجداته الرئيسية

يهدف المشروع إلى تبسيط الإجراءات القضائية، وتعزيز الحماية القانونية للحقوق، وتحسين جودة الخدمات القضائية. يسعى أيضاً إلى تعزيز دور القضاء في ضمان حسن سير العدالة، وإدماج التقاضي الإلكتروني ورقمنة الإجراءات القضائية. يتضمن المشروع تعديل أكثر من 400 مادة من القانون الحالي، وإضافة 145 مادة جديدة، ودمج 45 مادة أخرى، مما يعكس حجم التغيير المقترح.

إن إدراج "التقاضي الإلكتروني ورقمنة الإجراءات القضائية" يُعد مؤشرًا مهمًا على التوجه الاستراتيجي للإصلاح القضائي. هذا ليس مجرد تسهيل إداري، بل هو تحول جوهري يهدف إلى تعزيز الكفاءة والشفافية وإمكانية الوصول إلى خدمات العدالة. إنه يعكس التزامًا بالاستفادة من التكنولوجيا لتحديث الإطار الإجرائي بأكمله، مما يقلل من التأخير ويحسن إدارة البيانات ويعزز وصول الجمهور.

تقليص مجال الطعن وإلزامية المحامي

يهدف المشروع إلى تقليص مجال الطعن في الأحكام بهدف تخفيف عدد القضايا المعروضة أمام القضاء ومعالجة مشكل الخصاص، حيث قد لا تكون القضايا التي تقل قيمتها عن 80,000 درهم قابلة للطعن بالنقض. كما يوسع المشروع مجال القضايا التي يمكن التقاضي فيها بدون مساعدة محامٍ. وقد أثار هذا المستجد جدلاً واسعاً واحتجاجات من قبل المحامين، الذين اعتبروا أنه يمس بمهنة المحاماة وقد يضر بحقوق المتقاضين، خاصة الفئات الهشة، من حيث الولوج الفعال إلى العدالة والمساواة أمام القانون.

إن الأهداف المتزامنة لتقليص نطاق الطعون وتوسيع إمكانية التقاضي بدون محامٍ تكشف عن توتر أساسي في الإصلاح. فبينما تهدف هذه الإجراءات إلى تعزيز الكفاءة القضائية بتقليل عبء القضايا، فإنها تثير مخاوف كبيرة بشأن الحق الأساسي في الوصول إلى العدالة وحق الدفاع. المعارضة القوية من قبل المهنيين القانونيين تؤكد هذا الصراع المتأصل، مما يشير إلى أن مكاسب الكفاءة قد تأتي على حساب الحماية القانونية الشاملة.

تنظيم تدخل النيابة العامة في الدعوى المدنية

يعيد المشروع تنظيم مجال تدخل النيابة العامة في الدعوى المدنية، ويجيز لها، سواء كانت طرفاً في الدعوى أم لا، حق الطعن من أجل التصريح ببطلان الحكم المخالف للنظام العام دون التقيد بآجال الطعن. إلا أن هذا المقتضى، كما سيأتي تفصيله، قُضي بعدم دستوريته من قبل المحكمة الدستورية، حيث اعتبرت أنه يمس بمبدأ حجية المقررات القضائية ويقوض ثقة المواطن بالقضاء، ويمنح سلطة تقديرية غير مألوفة دون ضوابط دقيقة.

إن محاولة منح النيابة العامة صلاحيات واسعة للطعن في الأحكام المدنية النهائية بناءً على "النظام العام" ، وما تلاها من إلغاء لهذا المقتضى من قبل المحكمة الدستورية ، يسلط الضوء على صراع مؤسسي حاسم. هذه المسألة ليست مجرد تفصيل إجرائي، بل هي قضية أساسية تتعلق بنهائية الأحكام وفصل السلطات بين السلطة التنفيذية (ممثلة بالنيابة العامة) والسلطة القضائية.

مراحل المصادقة البرلمانية

مر مشروع القانون 02.23 بمسار تشريعي طويل ومعقد. صادق المجلس الحكومي على المشروع بتاريخ 24 أغسطس 2023. أودع النص بمكتب مجلس النواب بتاريخ 9 نوفمبر 2023، وصادق عليه المجلس في قراءته الأولى بتاريخ 23 يوليو 2024 بموافقة 104 نواب ومعارضة 35 نائباً.

أُحيل المشروع إلى مجلس المستشارين بتاريخ 24 يوليو 2024، حيث خضع لمراجعة مكثفة. تقدم أعضاء الفرق والمجموعات البرلمانية وأعضاء المجلس غير المنتسبين بما مجموعه 549 تعديلاً، قُبل منها حوالي 180 تعديلاً بعد جلسة تصويت استغرقت ثماني ساعات بتاريخ 7 مايو 2025. وصادق عليه مجلس المستشارين في 27 مايو 2025 بموافقة 34 عضواً، دون معارضة وأمتناع 3 أعضاء.

عاد النص إلى مجلس النواب لقراءة ثانية بتاريخ 18 يونيو 2025، بعد تعديل المواد 31، 35، 90، 407، و477. وصودق عليه نهائياً في القراءة الثانية من قبل مجلس النواب بتاريخ 17 يونيو 2025 بموافقة 100 نائب ومعارضة 33 نائباً.

إن العدد الكبير من التعديلات المقترحة (549) والمقبولة (180) في مجلس المستشارين ، متبوعًا بقراءة ثانية في مجلس النواب ، يوضح بوضوح عملية تشريعية ديناميكية ومثيرة للجدل ومتكررة. هذا ليس مجرد إجراء شكلي، بل هو نقاش برلماني قوي يعكس المصالح والاهتمامات المتنوعة لمختلف أصحاب المصلحة، بما في ذلك المهنيون القانونيون والمجتمع المدني.

جدول 3.1: جدول مقارن لأبرز مستجدات قانون المسطرة المدنية (02.23) مقارنة بالقانون السابق

جانب القانونالمقتضى في القانون السابقالمقتضى في مشروع القانون 02.23الأثر/الهدف من المستجد
تبسيط الإجراءات ورقمنة التقاضيإجراءات ورقية تقليدية

إدماج التقاضي الإلكتروني ورقمنة الإجراءات القضائية

تسريع وتيرة معالجة الملفات، تحسين جودة الخدمات، تعزيز الشفافية والوصول

تقليص مجال الطعن بالنقضنطاق أوسع للطعن بالنقض

تقليص مجال الطعن في الأحكام (مثلاً، القضايا التي تقل قيمتها عن 80,000 درهم قد لا تكون قابلة للطعن بالنقض)

تخفيف عدد القضايا المعروضة أمام محكمة النقض، معالجة مشكل الخصاص

إلزامية المحاميحالات محددة لإلزامية المحامي

توسيع مجال القضايا التي يمكن التقاضي فيها بدون مساعدة محامٍ

تسهيل الولوج إلى العدالة في بعض القضايا، أثار جدلاً حول تأثيره على مهنة المحاماة وحقوق الدفاع

تدخل النيابة العامة في الدعوى المدنيةتدخل محدود في الدعوى المدنية

إعادة تنظيم مجال تدخل النيابة العامة، وإجازة حق الطعن من أجل التصريح ببطلان الحكم المخالف للنظام العام (قُضي بعدم دستوريته لاحقاً)

تعزيز دور النيابة العامة في حماية النظام العام، لكنه أثار قضايا تتعلق بحجية الأحكام واستقلال القضاء

تنظيم الاختصاص الدولي للمحاكممقتضيات متفرقة أو غير واضحة

تنظيم أكثر وضوحاً للاختصاص الدولي للمحاكم المغربية

توضيح الإطار القانوني للقضايا ذات البعد الدولي، تعزيز الأمن القانوني

توحيد القضاءتفرقة بين قضاء القرب والمحاكم المتخصصة والعادية

دمج المقتضيات المتعلقة بقضاء القرب والمحاكم المتخصصة والمحاكم العادية في نص واحد

تنزيل مبدأ وحدة القضاء، تبسيط الإطار التشريعي

4. قرار المحكمة الدستورية وتأثيره على قانون المسطرة المدنية

شكل قرار المحكمة الدستورية بشأن مشروع قانون المسطرة المدنية رقم 02.23 محطة حاسمة في المسار التشريعي، حيث أكدت المحكمة دورها كحارس للدستور والمبادئ القضائية الأساسية.

مراجعة المحكمة الدستورية لمشروع القانون

قامت المحكمة الدستورية بمراجعة القانون رقم 02.23 بناءً على إحالته إليها من قبل رئيس مجلس النواب بتاريخ 9 يوليو 2025، وذلك للبت في مدى مطابقته للدستور. إن قيام المحكمة الدستورية بمراجعة القانون

قبل إصداره يؤكد دورها في الرقابة الدستورية القبلية. هذه الآلية الرقابية الاستباقية أساسية لضمان سمو الدستور وتوافق التشريعات الجديدة مع مبادئه الجوهرية، خاصة تلك المتعلقة باستقلال القضاء وحقوق المحاكمة العادلة.

رحبت وزارة العدل بقرار المحكمة الدستورية، مؤكدة التزامها بتكييف المقتضيات القانونية المعنية في احترام تام لما قضت به المحكمة، وفي إطار الاستمرارية التشريعية الهادفة إلى تطوير منظومة العدالة. هذا الترحيب يعزز من سلطة المحكمة ودورها في العملية التشريعية.

المواد التي قضت المحكمة بعدم دستوريتها وأسباب ذلك

أصدرت المحكمة الدستورية قرارها رقم 255/25 م.د بتاريخ 4 أغسطس 2025، قضت فيه بعدم مطابقة مجموعة من فصول قانون المسطرة المدنية رقم 02.23 للدستور.

صلاحيات وزير العدل والنيابة العامة

قُضي بعدم دستورية المادتين 408 و410، اللتين كانتا تمنحان لوزير العدل حق تقديم طلبات الإحالة إلى محكمة النقض، إما بدعوى "تجاوز القضاة لاختصاصاتهم" أو في حالات "التشكك المشروع". اعتبرت المحكمة أن هذا المقتضى يمثل تدخلاً مباشراً من السلطة التنفيذية في عمل القضاء، ويتعارض مع مبدأ استقلال السلطة القضائية ومبدأ فصل السلط.

كما قُضي بعدم دستورية المادة 17 (الفقرة الأولى)، التي كانت تخول للنيابة العامة المختصة طلب التصريح ببطلان أي مقرر قضائي يخالف النظام العام داخل أجل خمس سنوات من تاريخ صيرورته حائزاً لقوة الشيء المقضي به. رأت المحكمة أن هذا المقتضى يمس بمبدأ حجية المقررات القضائية ويقوض ثقة المواطن بالقضاء، ويمنح سلطة تقديرية غير مألوفة دون ضوابط دقيقة.

إن قرار المحكمة الدستورية بإلغاء المقتضيات التي تمنح صلاحيات لوزير العدل والنيابة العامة يمثل تأكيدًا مباشرًا وقويًا لاستقلال القضاء. هذا يتجاوز مجرد التصحيحات الإجرائية؛ فهو يعالج المبادئ الدستورية الأساسية لفصل السلطات واستقلالية السلطة القضائية. لقد أكدت المحكمة صراحة أن العمل القضائي، بكليته، هو اختصاص حصري للسلطة القضائية ، مما يعزز فكرة أن الإشراف التنفيذي لا ينبغي أن يترجم إلى تدخل مباشر في الوظائف القضائية أو في نهائية الأحكام.

إشكالية التبليغ القضائي

قُضي بعدم دستورية المادة 84، التي كانت تجيز التبليغ القضائي بناءً على "التخمين" بدلاً من اليقين. وصفت المحكمة هذه الصيغة بأنها فضفاضة وتفتقر للوضوح والضمانات، وتلقي على عاتق عون التبليغ تقديرات قانونية لا يملكها، مما يخل بمبدأ الأمن القانوني ويقوض حق الأفراد في محاكمة عادلة، كما نص عليه الفصل 120 من الدستور. امتد عدم الدستورية ليشمل مواد أخرى ذات صلة (97، 101، 103، 105، 123، 127، 173، 196، 204، 229، 323، 334، 352، 355، 357، 361، 386، 500، 115، 138، 185، 201، 312، 439) لارتباطها بالمادة 84.

إن قرار المحكمة بشأن المادة 84 وتأثيره المتسلسل على العديد من المواد الأخرى يظهر اهتمامًا عميقًا بالإجراءات القانونية الواجبة، وحق الدفاع، واليقين القانوني. إن السماح بـ "التبليغ بالتخمين" يقوض بشكل مباشر الحق الأساسي للمتقاضي في أن يتم إبلاغه بشكل صحيح بالإجراءات القانونية المرفوعة ضده وإعداد دفاع مناسب، وهو حجر الزاوية في المحاكمة العادلة.

إدارة النظام المعلوماتي القضائي

قُضي بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 624 والفقرتين الثالثة والأخيرة من المادة 628، اللتين أسندتا إدارة النظام المعلوماتي القضائي لوزارة العدل بدلاً من المجلس الأعلى للسلطة القضائية. اعتبر هذا مساساً باستقلال القضاء، حيث يُنظر إلى السيطرة على البنية التحتية الرقمية والبيانات التي تدعم العمليات القضائية على أنها جزء لا يتجزأ من استقلالية ونزاهة السلطة القضائية.

إن حكم المحكمة الدستورية بشأن إدارة النظام المعلوماتي القضائي يكشف عن تفسير متطور ومستقبلي لاستقلال القضاء. إنه يدرك أنه في العصر الحديث، تُعد السيطرة على البنية التحتية الرقمية والبيانات التي تدعم العمليات القضائية جزءًا لا يتجزأ من استقلالية ونزاهة السلطة القضائية. إن التنازل عن هذه السيطرة للسلطة التنفيذية يمكن أن يخلق سبلًا للتأثير غير المبرر أو يضر بحيادية الإجراءات القضائية.

الآثار المترتبة عن قرار المحكمة الدستورية

يستلزم القرار إعادة صياغة المواد التي قُضي بعدم دستوريتها لضمان مطابقتها للدستور. أكدت وزارة العدل التزامها باتخاذ التدابير القانونية والمؤسساتية اللازمة، بالتنسيق مع مختلف الفاعلين، لتكييف المقتضيات المعنية. تم تبليغ نص القرار إلى رئاسة الحكومة ورئاستي مجلسي البرلمان، ونشره في الجريدة الرسمية.

إن قرار المحكمة الدستورية يعمل كآلية تصحيحية بدلاً من كونه عائقًا للإصلاح. إنه يوضح حوارًا دستوريًا حيويًا بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، مما يؤدي في النهاية إلى تشريع أكثر قوة ومتوافقًا مع الدستور ومشروعية. هذه العملية تعزز سيادة القانون وتزيد من ثقة الجمهور في الإطار القانوني.

جدول 4.1: جدول المواد التي قضت المحكمة الدستورية بعدم دستوريتها في مشروع قانون المسطرة المدنية (02.23) وأسباب ذلك

رقم المادة/الموادمضمون المقتضى غير الدستوريسبب عدم الدستوريةالفصل الدستوري المخالف
المادة 17 (الفقرة الأولى)

تخويل النيابة العامة حق الطعن ببطلان أي مقرر قضائي يخالف النظام العام دون تقييد بآجال

المساس بحجية المقررات القضائية، تقويض ثقة المواطن بالقضاء، منح سلطة تقديرية غير مألوفة

الفصل 126 (حجية الأحكام النهائية)

المادة 84 (والمواد المرتبطة بها)

جواز التبليغ القضائي بناءً على "التخمين" بدلاً من اليقين

فضفاضة، تفتقر للوضوح والضمانات، تخل بمبدأ الأمن القانوني، تقوض حق المحاكمة العادلة

الفصل 120 (حقوق الدفاع مضمونة)

المادتان 408 و410

منح وزير العدل حق تقديم طلبات الإحالة إلى محكمة النقض

تدخل مباشر من السلطة التنفيذية في عمل القضاء، تعارض مع مبدأ استقلال السلطة القضائية وفصل السلط

الفصل 107 (استقلال السلطة القضائية)

المادة 624 (الفقرة الثانية) والمادة 628 (الفقرتان الثالثة والأخيرة)

إسناد إدارة النظام المعلوماتي القضائي لوزارة العدل

مساس باستقلال القضاء، حيث أن التحكم في البنية التحتية الرقمية جزء من استقلالية السلطة القضائية

الفصل 107 (استقلال السلطة القضائية)

المادة 288

إحالة على مادة أخرى (284) غير مستوفية لمتطلبات الوضوح والمقروئية

عدم وضوح ومقروئية القواعد القانونية

الفصل 6 (القانون أسمى تعبير عن إرادة الأمة)

5. التحديات والآفاق المستقبلية للإصلاح القضائي

على الرغم من التقدم المحرز في الإصلاح القضائي بالمغرب، لا تزال هناك تحديات قائمة تتطلب معالجة مستمرة لضمان تحقيق الأهداف المنشودة.

النقاشات الجارية وردود فعل الفاعلين

شهدت مراحل إعداد ومناقشة مشروع قانون المسطرة المدنية 02.23 نقاشات حادة وردود فعل متباينة من مختلف الفاعلين في الحقل القضائي، خاصة من قبل المحامين. فقد عبرت جمعية هيئات المحامين عن مخاوفها من أن المشروع يتضمن "تراجعات خطيرة تضرب في العمق الدور الرئيسي والمركز الاعتباري للمحاماة واستقلالها"، كما اعتبرت بعض المقتضيات "غير دستورية ومهددة لمهنة المحاماة بالاغتيال والذبح". تركزت الانتقادات بشكل خاص على تقليص مجال الطعن وإلزامية المحامي في بعض القضايا. هذه النقاشات تعكس التوتر بين هدف تبسيط الإجراءات وتخفيف العبء على المحاكم، وبين ضمان حقوق الدفاع والولوج الفعال إلى العدالة، خاصة للفئات الهشة.

تحديات التنفيذ العملي للقوانين الجديدة

يواجه التنفيذ العملي للقوانين الجديدة، بما في ذلك القانون 38.15 وقانون المسطرة المدنية بعد تعديلاته، عدة تحديات. من أبرزها ضرورة توفير التكوين المستمر للقضاة وموظفي كتابة الضبط لضمان استيعابهم وتطبيقهم السليم للمقتضيات الجديدة، خاصة فيما يتعلق بالرقمنة والتقاضي الإلكتروني. كما يتطلب الأمر استثمارات كبيرة في البنية التحتية التكنولوجية لدعم التحول الرقمي الشامل في المحاكم.

تُعد مسألة التنسيق المستمر بين مختلف الفاعلين القضائيين، بما في ذلك القضاة والنيابة العامة والمحامون وكتابة الضبط ووزارة العدل، أمراً حيوياً لضمان حسن سير العمل القضائي وتوحيد الممارسة. إن أي ضعف في هذا التنسيق قد يؤدي إلى إطالة أمد التقاضي وتأخير البت في القضايا، مما يتعارض مع أهداف الإصلاح الرامية إلى النجاعة القضائية.

الآفاق المستقبلية لتعزيز العدالة في المغرب

يتجه المغرب نحو تعزيز منظومة عدالة تتسم بالفعالية والشفافية والقرب من المتقاضين، مع الحفاظ على استقلال القضاء وحماية حقوق الأفراد. إن التفاعل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، كما تجلى في مسار قانون المسطرة المدنية وقرارات المحكمة الدستورية، يعكس نضجاً في النظام الدستوري المغربي وقدرته على التصحيح الذاتي لضمان التوافق مع المبادئ الدستورية.

من المتوقع أن تستمر جهود الإصلاح في المستقبل، مع التركيز على تقييم أثر القوانين الجديدة على أرض الواقع وإدخال التعديلات اللازمة لمعالجة أي إشكاليات تظهر أثناء التطبيق. كما أن تعزيز الأمن القانوني والقضائي سيبقى في صلب الأولويات، بما يضمن ثقة المواطنين في القضاء ويساهم في تحقيق التنمية الشاملة للمملكة.

6. خاتمة وتوصيات

لقد أظهرت "قراءة" التنظيم القضائي المغربي ومستجدات قانون المسطرة المدنية التزاماً راسخاً بالإصلاح الشامل لمنظومة العدالة. يمثل القانون رقم 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي خطوة مهمة نحو تكريس استقلال السلطة القضائية، وتوحيد القضاء، وتعزيز التخصص القضائي، مع التأكيد على حقوق المتقاضين ومجانية التقاضي. وقد أدت هذه المبادئ إلى إعادة هيكلة المحاكم وتحديد أدوار الفاعلين القضائيين بشكل أكثر وضوحاً.

في المقابل، جاء مشروع قانون المسطرة المدنية رقم 02.23 بمستجدات طموحة تهدف إلى تبسيط الإجراءات ورقمنة التقاضي، وتقليص آجال البت في القضايا. إلا أن مساره التشريعي لم يخلُ من الجدل، خاصة فيما يتعلق بتقليص مجال الطعن وإلزامية المحامي وصلاحيات النيابة العامة. وقد لعبت المحكمة الدستورية دوراً محورياً وحاسماً في ضمان مطابقة هذا المشروع للدستور، من خلال إلغاء مواد تتعارض مع مبادئ استقلال القضاء، وحجية الأحكام، وحقوق الدفاع، ووضوح القوانين. وقد أكدت قرارات المحكمة الدستورية أن السيطرة على البنية التحتية الرقمية للعدالة هي جزء لا يتجزأ من استقلال القضاء، مما يعكس فهماً متطوراً لمفهوم الاستقلال في العصر الرقمي.

إن التفاعل الديناميكي بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والذي تجلى بوضوح في عملية مراجعة قانون المسطرة المدنية، يعكس نظاماً دستورياً ناضجاً يضمن المراجعة والتدقيق المستمر للتشريعات. هذا الحوار الدستوري يساهم في إنتاج قوانين أكثر قوة وشرعية، مما يعزز سيادة القانون وثقة الجمهور في العدالة.

لضمان نجاح هذه الإصلاحات وتحقيق أهدافها الكاملة، يمكن تقديم التوصيات التالية:

  1. مواصلة الحوار التشاركي: يجب الحفاظ على روح الحوار والتعاون البناء بين وزارة العدل، المجلس الأعلى للسلطة القضائية، رئاسة النيابة العامة، هيئات المحامين، ومكونات المجتمع المدني، لمعالجة التحديات القائمة وتكييف النصوص القانونية مع الواقع العملي.

  2. الاستثمار في البنية التحتية والتكوين: يتعين تخصيص الموارد الكافية للاستثمار في البنية التحتية الرقمية للمحاكم وتوفير برامج تكوين مستمرة ومتخصصة للقضاة وموظفي كتابة الضبط، لضمان التطبيق الفعال والسلس للمقتضيات الجديدة المتعلقة بالرقمنة والتخصص.

  3. التقييم المستمر لأثر الإصلاحات: من الضروري إجراء تقييم دوري وموضوعي لأثر القوانين الجديدة على نجاعة الأداء القضائي، وسرعة البت في القضايا، وجودة الأحكام، والأهم من ذلك، مدى سهولة ولوج المواطنين إلى العدالة وحماية حقوقهم.

  4. تعزيز الأمن القضائي: يجب الاستمرار في تعزيز مبدأ الأمن القضائي من خلال ضمان استقرار المقتضيات الإجرائية، ووضوح النصوص القانونية، وتوحيد الاجتهاد القضائي، مما يعزز ثقة المتقاضين في النظام القضائي.

  5. الحفاظ على استقلال القضاء: يجب اليقظة المستمرة لضمان عدم المساس باستقلال السلطة القضائية في أي تشريعات مستقبلية أو ممارسات إدارية، مع التأكيد على أن جميع مكونات الجهاز القضائي تعمل تحت إشراف السلطة القضائية المستقلة.

تعليقات