القائمة الرئيسية

الصفحات

 


قراءة تحليلية معمقة في القانون رقم 46.21 المنظم لمهنة المفوضين القضائيين بالمغرب: المستجدات، الفلسفة، والتحديات


 

مقدمة: سياق الإصلاح وفلسفة التغيير

يمثل القانون رقم 46.21 المتعلق بتنظيم مهنة المفوضين القضائيين، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.25.49 بتاريخ 9 ذي الحجة 1446 (6 يونيو 2025) والمنشور بالجريدة الرسمية عدد 7412، حجر زاوية في مسار الإصلاح الشامل لمنظومة العدالة بالمغرب.1 ويأتي هذا التشريع الجديد ليحل محل القانون رقم 81.03 الذي، بعد ما يقارب عقدين من التطبيق، أبان عن قصور وثغرات لم تعد تتماشى مع متطلبات الحكامة القضائية الحديثة ومتطلبات النجاعة.2 لقد جاءت الحاجة إلى هذا الإصلاح نتيجة تقييم نقدي معمق للقانون السابق، الذي كشف عن وجود عوائق تحول دون تحقيق المرونة والفعالية المنشودتين في عمل المفوض القضائي.3

إن هذا القانون ليس مجرد تحديث تقني، بل هو تجسيد مباشر لتوصيات ميثاق إصلاح منظومة العدالة، الذي يضع تأهيل المهن القانونية والقضائية في صلب أولوياته.7 وتتمحور فلسفة المشرّع حول أربعة أهداف استراتيجية، كما عبرت عنها التصريحات الوزارية والتقارير البرلمانية: تأهيل المهنة عبر رفع معايير الولوج والتكوين، توسيع الاختصاصات لتخفيف العبء عن المحاكم، تعزيز آليات الحماية والمساءلة، وتحديث المهنة وتنظيمها لمواكبة التحولات الرقمية والمؤسساتية.3

يكرس هذا التحول التشريعي نقلة نوعية في دور المفوض القضائي، إذ لم يعد يُنظر إليه كمجرد "عون قضائي" (Aoun Qada'i) مهمته محصورة في التبليغ والتنفيذ كإجراء تابع للمحكمة، كما كان الحال في ظل القانون القديم.2 بل أعاد القانون الجديد تعريفه بصفته "مساعداً للقضاء" (Musa'id lil-Qada') 6، وشريكاً استراتيجياً في إقامة العدل. ويتجلى هذا التحول في توسيع مهامه لتشمل التحصيل الودي للديون وإدارة المزادات العلنية، وهي مهام كانت في صلب العمل القضائي سابقاً.3 إن هذا التوسع، مقترناً بتمديد الاختصاص المكاني وتعميق التكوين، يشير إلى رغبة المشرع في تحويل المفوض القضائي من منفذ إجرائي إلى فاعل أساسي في تدبير الزمن القضائي وتخفيف العبء عن كاهل القضاة، مما يمثل انتقالاً من دور وظيفي إلى دور استراتيجي ضمن المنظومة القضائية.12

جدول 1: مقارنة بين القانون 46.21 والقانون 81.03

المحور

القانون القديم (81.03)

القانون الجديد (46.21)

مرجع

المؤهل العلمي

الإجازة في الحقوق/الشريعة 4

الإجازة في العلوم القانونية/الشريعة (حصراً) 13

4

التكوين

6 أشهر 3

سنة كاملة (نصفها بمعهد ونصفها بمكتب) 3

3

الاختصاص المكاني

دائرة المحكمة الابتدائية 2

دائرة محكمة الاستئناف 3

3

الاختصاص النوعي

تبليغ وتنفيذ 4

توسيع ليشمل تحصيل الديون الودي، المزادات، إلخ 3

3

الهيئة الوطنية

منظمة بمرسوم تطبيقي 11

منظمة في صلب القانون 11

11

الكاتب المحلف

شهادة البكالوريا

الإجازة في القانون/الشريعة 14

14

الفصل الأول: هيكلة المهنة - من الولوج إلى الممارسة

يضع القانون رقم 46.21 إطاراً قانونياً جديداً ومتكاملاً ينظم مسار المفوض القضائي، بدءاً من شروط الولوج الصارمة التي تهدف إلى رفع مستوى المهنة، وصولاً إلى نظام التكوين الشامل المصمم لضمان كفاءة موحدة وممارسة احترافية.

المبحث الأول: شروط الولوج وتخليق المهنة

يعكس القانون الجديد توجهاً واضحاً نحو رفع جودة ونزاهة مهنة المفوضين القضائيين من خلال وضع شروط ولوج أكثر صرامة، لا تعد مجرد حواجز إدارية بل سياسات مدروسة لتعزيز كفاءة وثقة الجمهور في هذه المهنة الحيوية.

  • رفع المستوى الأكاديمي: ينص القانون الجديد على أن يكون المترشح حاصلاً على شهادة الإجازة في العلوم القانونية أو الشريعة أو ما يعادلها، مما يكرس الطابع التخصصي للمهنة ويزيل أي غموض سابق.13 كما تم تعديل السن المطلوب للترشح ليصبح بين 21 و 45 سنة عند تاريخ إجراء المباراة 1، مقارنة بالمدى السابق الذي كان بين 25 و 45 سنة.4

  • تشديد شروط النزاهة والأمانة: من أبرز المستجدات، إقرار المنع النهائي من ولوج المهنة لكل من صدر في حقه حكم يتعلق بجرائم الأموال أو التزوير، "حتى ولو تم رد الاعتبار إليه".13 هذا المقتضى، الذي يعد استثناءً من المبادئ العامة للقانون الجنائي، يؤكد على الأهمية القصوى التي يوليها المشرع للنزاهة المالية المطلقة. وبالمثل، يُمنع من ولوج المهنة كل من صدر في حقه قرار تأديبي بالعزل أو التشطيب من مهن أخرى، مما يرسخ ضرورة التمتع بسجل مهني وأخلاقي نظيف.13

  • إعادة النظر في نظام الإعفاءات: حافظ القانون على إعفاء فئات معينة، مثل كتاب الضبط والكتاب المحلفين ذوي الخبرة، من مباراة الولوج، لكنه أدخل تغييراً جوهرياً يتمثل في إلزامهم بالخضوع لفترة التمرين كاملة واجتياز الامتحان النهائي.13 هذا التوجه يضمن أن جميع الملتحقين بالمهنة، بغض النظر عن مسارهم، يستوفون معايير موحدة من الكفاءة النظرية والتطبيقية. كما نص تعديل محدد على إعفاء الكتاب المحلفين الذين قضوا عشر سنوات من الممارسة الفعلية وحاصلون على شهادة الإجازة، وذلك في حدود 25% من المناصب المتبارى عليها.14

تستند هذه الخيارات التشريعية إلى ركيزتين أساسيتين: التخصيص والتخليق. فمن جهة، يهدف مبدأ التخصيص (Takhṣīṣ)، الذي يتجلى في حصر الولوج في حاملي الإجازة القانونية وإلزامية التكوين للجميع، إلى خلق هيئة من الفنيين القانونيين ذوي الكفاءة العالية. ومن جهة أخرى، وهو الأعمق أثراً، يهدف مبدأ التخليق (Takhlīq) إلى بناء ثقة الجمهور في منظومة العدالة. فالمفوض القضائي هو غالباً الواجهة البشرية المباشرة للقضاء بالنسبة للمواطن العادي، خاصة في قضايا الديون والإفراغ. وأي انطباع بالفساد أو غياب النزاهة على هذا المستوى يقوض الثقة في المنظومة بأكملها. لذلك، عمل المشرع على بناء "جدار حماية" من النزاهة عند مدخل المهنة، معتبراً إياه شرطاً أساسياً لنجاح ميثاق إصلاح العدالة الأوسع.15

المبحث الثاني: نظام التكوين والتمرين - نحو الاحترافية

يقدم القانون الجديد نظاماً إصلاحياً للتكوين يهدف إلى صقل جيل جديد من المفوضين القضائيين المحترفين والأكفاء، القادرين على مواكبة التطورات المستمرة.

  • إصلاح التكوين الأساسي: تمت مضاعفة مدة التكوين من ستة أشهر إلى سنة كاملة.3 وينقسم هذا التكوين إلى شقين متكاملين: ستة أشهر من التكوين النظري في معهد متخصص للمهن القانونية والقضائية، وستة أشهر من التمرين التطبيقي داخل مكتب مفوض قضائي ممارس.13 هذا المزيج بين المعرفة النظرية والخبرة الميدانية يمثل تطوراً بيداغوجياً هاماً. كما أن النجاح في "امتحان نهاية التمرين" أصبح شرطاً أساسياً للترسيم في المهنة.13

  • إلزامية التكوين المستمر: أقر القانون الجديد مبدأ التكوين المستمر كحق وواجب لجميع المفوضين القضائيين الممارسين.3 والأهم من ذلك، أن التخلف عن حضور هذه الدورات التكوينية دون عذر مقبول أصبح يشكل مخالفة تأديبية تستوجب المساءلة.3

يعكس هذا التوجه تحولاً في فلسفة التكوين، من مجرد "تذكرة دخول" للمهنة إلى عملية "تطوير مهني مدى الحياة". فبينما يضع التكوين الأساسي لمدة سنة حداً أدنى مرتفعاً للكفاءة، يضمن التكوين المستمر الإلزامي بقاء المفوضين على اطلاع دائم بالمستجدات التشريعية والتقنيات الحديثة، مثل الرقمنة 12، وأفضل الممارسات المهنية. إن جعل التغيب عن التكوين مخالفة تأديبية هو آلية إنفاذ قوية تؤكد أن التطوير المهني ليس خياراً. وهذا يخلق مهنة "حية" تتطور مع الزمن، بدلاً من مهنة جامدة قد تتقادم معارفها، وهو استثمار في جودة واستمرارية الخدمة المقدمة لمنظومة العدالة والمواطنين.

الفصل الثاني: نطاق الاختصاص وممارسة المهنة

يستعرض هذا الفصل جوهر التغيير العملي الذي أتى به القانون الجديد، والمتمثل في التوسيع الكبير لصلاحيات المفوض القضائي، بالإضافة إلى الأطر الجديدة التي تنظم كيفية ممارسته لمهامه، بما في ذلك آليات المشاركة ومسؤولياته تجاه مساعديه.

المبحث الأول: توسيع الاختصاص النوعي والمكاني

يحلل هذا المبحث أحد أهم الإصلاحات وأكثرها تأثيراً في القانون، وهو توسيع مجال عمل المفوض القضائي، بهدف زيادة النجاعة القضائية، وتقليص تراكم الملفات، ومواءمة المهنة مع التنظيم الإداري والقضائي للمملكة.

  • الاختصاص المكاني: من الدائرة الابتدائية إلى دائرة الاستئناف: يوسع القانون بشكل كبير الاختصاص الترابي للمفوض القضائي، لينتقل من النطاق المحدود لدائرة المحكمة الابتدائية إلى النطاق الأوسع لدائرة محكمة الاستئناف.3 ويهدف هذا الإصلاح صراحة إلى معالجة عدم التطابق بين الخريطة القضائية والتقسيم الإداري، مما يسهل الإجراءات العابرة للدوائر القضائية المختلفة.3

  • الاختصاص النوعي: مهام جديدة لتخفيف العبء عن القضاء: يمنح القانون المفوضين القضائيين مجموعة من الصلاحيات الجديدة التي تتجاوز مهام التبليغ والتنفيذ التقليدية، ومن أبرزها:

    • التحصيل الودي للديون: مما يسمح لهم بحل النزاعات المالية دون اللجوء إلى المحكمة.3

    • إدارة المزادات العلنية: لفائدة الجهات الحكومية والخاصة على حد سواء.3

    • القيام بالمعاينات المادية: بناءً على أمر قضائي.11

    • القيام بالتبليغات المباشرة للإنذارات: في حالات معينة دون الحاجة للمرور عبر المحكمة أولاً.11

إن لهذا التوسيع في الاختصاص آثاراً متتالية وعميقة. التأثير الأول هو تأثير تشغيلي مباشر، حيث يمكن لمفوض قضائي في مدينة ما أن يباشر إجراءاته قانونياً في مدينة أخرى ضمن نفس دائرة محكمة الاستئناف، مما يزيل التأخير الإجرائي والحاجة لنقل الملفات، ويعالج بشكل مباشر إشكالية "الزمن القضائي".12 أما التأثير الثاني فهو تأثير بنيوي على المنظومة، فمن خلال تمكين المفوضين من مهام كالتحصيل الودي للديون 3، يقوم القانون بتحويل حجم كبير من القضايا بعيداً عن النظام القضائي الرسمي. هذه خطوة استراتيجية لتقليل العبء عن القضاة، مما يسمح لهم بالتركيز على النزاعات القانونية الأكثر تعقيداً، وبالتالي تعزيز الكفاءة القضائية العامة. وأخيراً، هناك تأثير ثالث اقتصادي ومهني، حيث يغير هذا التوسع نموذج العمل الاقتصادي للمهنة، إذ يخلق مناطق جغرافية أكبر وأكثر جدوى اقتصادياً للممارسة، وهو ما قد يشجع على تأسيس مكاتب أكبر وأكثر تنظيماً (وهو ما تسهله قواعد المشاركة الجديدة 1) وقد يؤدي إلى التخصص. كما أنه يستلزم استثماراً أكبر في اللوجستيات والتكنولوجيا لتغطية مناطق أوسع، وهو ما ستكون له تداعيات على هيكل الأتعاب الذي سيحدده النص التنظيمي المرتقب.1

المبحث الثاني: أشكال الممارسة والمسؤوليات

يفصل هذا المبحث الهياكل التنظيمية الجديدة للممارسة المهنية والمسؤوليات المشددة الملقاة على عاتق المفوضين القضائيين، خاصة فيما يتعلق بمساعديهم والتزاماتهم المالية.

  • تنظيم المشاركة المهنية: يسمح القانون بإنشاء شركات مهنية (المشاركة) تضم ما يصل إلى أربعة مفوضين قضائيين يعملون من مكتب موحد ضمن دائرة نفوذ نفس المحكمة الابتدائية.1 ويجب أن تتم هذه المشاركة بموجب "عقد نموذجي" يحدد بنص تنظيمي، ولا يصبح العقد نافذاً إلا بعد مصادقة السلطة الحكومية المكلفة بالعدل عليه.1 كما يضع القانون آلية واضحة لفض النزاعات بين الشركاء، تبدأ بالوساطة من قبل رئيس المجلس الجهوي، وفي حال فشلها، يُعرض النزاع على غرفة المشورة بالمحكمة المختصة.1

  • تأهيل الكاتب المحلف ورفع مستوى المسؤولية: يرفع القانون الجديد بشكل كبير من المؤهلات المطلوبة لمزاولة مهنة "الكاتب المحلف"، الذي يمكنه النيابة عن المفوض القضائي في إجراءات التبليغ. فقد تم رفع الشرط من شهادة البكالوريا إلى الإجازة في القانون أو الشريعة 14، ورفع الحد الأدنى للسن إلى 21 سنة.14 كما أصبح لزاماً على المفوض القضائي إبرام عقد شغل رسمي مع كاتبه المحلف، وفقاً لقانون الشغل.1 والأهم من ذلك، ينص القانون صراحة على أن المفوض القضائي مسؤول مسؤولية مباشرة عن أعمال وأخطاء كتابه المحلفين.1

  • ضمانات المسؤولية المدنية: أصبح إلزامياً على كل مفوض قضائي الاكتتاب في عقد تأمين لتغطية مسؤوليته المدنية المهنية. ويعتبر عدم القيام بذلك مخالفة تأديبية.1 وسيتم تحديد الحد الأدنى للتأمين بموجب نص تنظيمي.

يعكس هذا الإطار تكاملاً بين سياسات التأهيل والتفويض وإدارة المخاطر. فالمشرع يدرك أنه مع توسع مهام المفوض القضائي، تزداد الحاجة إلى مساعدين مؤهلين. ورفع مؤهلات الكاتب المحلف 14 هو استجابة مباشرة لهذه الحاجة، لضمان إنجاز المهام المفوضة بكفاءة. لكن التفويض يأتي مع المخاطر، ومن خلال جعل المفوض القضائي مسؤولاً بشكل مباشر عن أخطاء كاتبه 19 وإلزامه بعقد عمل 1، يخلق القانون سلسلة واضحة من المسؤولية والمساءلة. ويكتمل مثلث إدارة المخاطر هذا بإلزامية التأمين على المسؤولية المدنية 1، الذي يحمي الجمهور من الأخطاء المهنية، ويحمي المفوض القضائي من تعويضات قد تكون باهظة، ويضفي مصداقية إضافية على المهنة. هذا النهج المتكامل يضمن أن زيادة التفويض لا تأتي على حساب جودة الخدمة أو المساءلة.

الفصل الثالث: الحوكمة والتنظيم المهني

يتناول هذا الفصل البنية المؤسساتية للمهنة، مع التركيز على الدور المعزز للهيئة الوطنية والإطار الحاسم لنظام الأتعاب، الذي لم تحدد تفاصيله بعد.

المبحث الأول: تعزيز دور الهيئة الوطنية للمفوضين القضائيين

يحلل هذا المبحث القرار الاستراتيجي المتمثل في الارتقاء بمكانة الهيئة الوطنية وتوسيع صلاحياتها، لتحويلها من مجرد جمعية تمثيلية إلى هيئة تنظيمية قوية تتمتع بقدر من التنظيم الذاتي.

  • الارتقاء المؤسساتي: من المرسوم إلى القانون: من أهم التغييرات الهيكلية دمج المواد المنظمة للهيئة الوطنية مباشرة في صلب القانون، بدلاً من تركها لمرسوم تطبيقي منفصل وذي مرتبة أدنى.11 هذا التغيير يمنح الهيئة أساساً قانونياً أكثر قوة واستقراراً.

  • صلاحيات موسعة: أصبحت الهيئة الوطنية مكلفة بوضع "مدونة سلوك" مهنية 6، ومُنحت دوراً استشارياً رسمياً في جميع الإصلاحات التشريعية والتنظيمية المستقبلية المتعلقة بالمهنة.16 كما أصبحت مسؤولة عن إحداث مشاريع اجتماعية لفائدة أعضائها ومراقبة التزامهم بالواجبات المهنية كالتأمين والاشتراكات السنوية.1

  • دمقرطة الهياكل وضمان تمثيلية النساء: يضع القانون إطاراً مفصلاً وشفافاً لانتخابات هياكل الهيئة.20 وفي خطوة رائدة، ينص القانون على ضمان تمثيلية نسبية للمفوضات القضائيات داخل مكاتب المجالس الجهوية، بما يضمن مشاركتهن في مواقع صنع القرار.14

إن نقل تنظيم الهيئة الوطنية إلى صلب القانون 11 هو إشارة واضحة من المشرع إلى أهميتها وديمومتها. هذه "المأسسة" هي شرط أساسي لمنح المهنة درجة من الحكم الذاتي. هذا الحكم الذاتي ليس مطلقاً، بل هو شراكة مع الدولة، حيث تُمنح الهيئة سلطة تنظيم السلوك المهني وإدارة شؤونها والمساهمة في السياسات، لكنها تظل تحت الإشراف النهائي للسلطة القضائية ووزارة العدل. كما أن إدراج كوتا لتمثيلية النساء 14 هو أكثر من مجرد تفعيل لمبادئ المناصفة الدستورية 24؛ بل هو ملمح تحديثي يهدف إلى ضمان أن قيادة الهيئة تعكس تنوع أعضائها، مما يعزز شرعيتها وتمثيليتها. هذا الإطار يهدف إلى خلق هيئة مهنية ناضجة ومسؤولة ومنظمة ذاتياً.

المبحث الثاني: نظام الأجور والأتعاب - نقطة حيوية معلقة

يتناول هذا المبحث الجانب الاقتصادي الحيوي للمهنة. ويحلل النص القانوني الجديد المتعلق بالأتعاب، وفي غياب النص التنظيمي الجديد، يعرض هيكل الأتعاب الحالي كمرجع أساسي لفهم الديناميكيات المالية للمهنة.

  • الإطار القانوني الجديد للأتعاب: تنص المادة 19 من القانون 46.21 على أن المفوض القضائي يتقاضى في الميدان الجنائي تعويضاً تؤديه الإدارة، يحدد مقداره بنص تنظيمي. وفي الميادين الأخرى، يتقاضى أتعاباً عن أعماله حسب تعريفة تحدد بنص تنظيمي.1 هذا يعني أن الأثر الاقتصادي الكامل للقانون الجديد يتوقف على صدور هذه النصوص التنظيمية المستقبلية، فالقانون نفسه لا يحدد قيمة الأتعاب.

  • التعريفة الحالية كخط أساس: إلى حين صدور النص التنظيمي الجديد، يظل هيكل الأتعاب الحالي، الذي وُضع في ظل القانون القديم، هو المرجع الفعلي. وهو هيكل مفصل ومحدد حسب نوع كل إجراء.

جدول 2: هيكل الأتعاب والتعويضات الحالية للمفوض القضائي (موجز)

نوع الإجراء

الأتعاب (بالدرهم)

ملاحظات

مرجع

تبليغ استدعاء

50

لكل استدعاء لمختلف المحاكم.

25

تبليغ حكم

100

-

25

معاينة بأمر قضائي

150

-

25

حجز تحفظي على منقول

100

-

25

بيع منقول بالمزاد

1% من ثمن البيع

الحد الأدنى 200، الأقصى 1000.

25

تحصيل مبالغ مالية

150 (ثابت) + نسبة مئوية

نسبة متدرجة (4%، 3%، 2%) على المبلغ المحصل. الأتعاب القصوى 10,000.

25

التعويض عن التنقل

3

للكيلومتر الواحد، ذهاباً وإياباً من مقر المحكمة.

25

إن نجاح واستدامة هذا الإصلاح برمته يعتمدان بشكل حاسم على النص التنظيمي المرتقب الخاص بالأتعاب. فالقانون الجديد يوسع بشكل كبير مسؤوليات المفوض القضائي ونطاقه الجغرافي وتكاليفه التشغيلية (التأمين، الموظفون المؤهلون، التكنولوجيا). وهيكل الأتعاب الحالي 25 صُمم للدور المحدود السابق وقد لا يكون كافياً لتعويض المهام الجديدة والتكاليف المتزايدة. إذا لم تعكس تعريفة الأتعاب الجديدة هذه الحقائق، فقد يؤدي ذلك إلى إحجام المفوضين القضائيين عن تولي المهام الجديدة، مما يقوض الهدف الأساسي للقانون المتمثل في تخفيف العبء عن المحاكم. وهذا يجعل من صياغة هذا النص التنظيمي نقطة تفاوض حساسة بين وزارة العدل والهيئة الوطنية، وسيكون محتواه هو المحدد النهائي لما إذا كانت أهداف القانون الطموحة قابلة للتحقيق عملياً.

الفصل الرابع: نظام الرقابة والتأديب

يفصل هذا الفصل آليات الضبط والموازنة الصارمة التي أدخلها القانون الجديد، بدءاً من الرقابة المالية والإجرائية، وصولاً إلى نظام تأديبي منظم ومُقَضَّى (Judicialized) يهدف إلى فرض معايير السلوك الرفيعة المتوقعة من المفوضين القضائيين.

المبحث الأول: آليات الرقابة والمساءلة

يحدد هذا المبحث نظام الإشراف متعدد المستويات الذي يحكم عمل المفوض القضائي، والذي يشمل السلطة القضائية، والهيئة المهنية، وضوابط مالية صارمة.

  • الرقابة القضائية: يحتفظ كل من رئيس المحكمة الابتدائية ووكيل الملك بدور إشرافي أساسي.11 ويعد وكيل الملك هو السلطة التي تحرك المتابعة التأديبية.1

  • الرقابة المالية: يفرض القانون أجلاً صارماً لإيداع المبالغ المحصلة. وقد تم تمديد هذا الأجل خلال النقاشات البرلمانية من 24 إلى 48 ساعة، على أن تودع المبالغ في "صندوق المحكمة".3 ويعتبر هذا الإجراء أساسياً لمكافحة الفساد وتعزيز الشفافية.

  • الرقابة المهنية: تُمنح الهيئات الجهوية والوطنية صلاحية مراقبة السلوك المهني ورفع تقارير بالمخالفات. كما تشرف على مدى التزام الأعضاء بواجباتهم، مثل أداء الاشتراكات السنوية.1

المبحث الثاني: المسطرة التأديبية والعقوبات

يقدم هذا المبحث تحليلاً مفصلاً للنظام التأديبي الجديد، الذي يتميز بوضوحه وضماناته الإجرائية والدور المركزي للقضاء في البت في المخالفات المهنية.

  • الأفعال الموجبة للمساءلة: يقدم القانون قائمة واسعة للمخالفات التأديبية، تشمل مخالفة النصوص القانونية، والإخلال بواجبات المهنة، وارتكاب أعمال تمس بشرف المهنة، وإفشاء السر المهني، وتقاضي أتعاب مخالفة للتعريفة، والتغيب غير المبرر عن التكوين المستمر.1 هذه القائمة المفصلة توفر الوضوح وتقلل من الغموض.

  • هيكل العقوبات: تتدرج العقوبات حسب خطورة المخالفة على النحو التالي:

    1. الإنذار

    2. التوبيخ

    3. الإيقاف عن ممارسة المهنة: لمدة لا تتجاوز ستة أشهر.

    4. العزل

      هذا الهيكل يتوافق مع القانون السابق، لكنه الآن جزء من مسطرة أكثر رسمية.4

  • المسطرة التأديبية:

    • تحريك المتابعة: يختص وكيل الملك بتحريك المتابعة التأديبية.1

    • البت في المتابعة: يُنظر في القضية من قبل غرفة المشورة بالمحكمة الابتدائية التي يقع بدائرتها مكتب المفوض القضائي. هذا الإجراء "يقضي" (Judicializes) المسطرة، وينقلها من قرار إداري أو مهني داخلي إلى قرار قضائي.1

    • الضمانات الإجرائية: للمفوض القضائي الحق في الاستماع إليه، والاطلاع على ملفه، والاستعانة بمحام أو بزميل له في المهنة.4

    • الطعن: قرار غرفة المشورة قابل للطعن بالاستئناف أمام غرفة المشورة بمحكمة الاستئناف.1

إن "قَضْيَنَة" (Judicialization) النظام التأديبي تخدم غرضاً مزدوجاً. فمن ناحية، توفر مستوى أعلى من الضمانات الإجرائية للمفوض القضائي المتهم، مما يضمن أن القرار يتخذه قضاة محايدون وفقاً للإجراءات القانونية، وهو ما يعزز عدالة النظام. ومن ناحية أخرى، تحافظ على الإشراف النهائي للدولة على المهنة. فبجعل القضاء هو الحكم النهائي في المخالفات المهنية، تضمن الدولة أن الحكم الذاتي للمهنة لا يؤدي إلى غياب المساءلة. وهذا يحقق توازناً دقيقاً بين استقلالية المهنة والمصلحة العامة في وجود مهنة منظمة ومنضبطة.

جدول 3: منظومة العقوبات التأديبية بموجب القانون 46.21

المخالفة

العقوبات الممكنة

مرجع

الإخلال بواجبات المهنة

إنذار، توبيخ


تقاضي أتعاب مخالفة للتعريفة

إنذار، توبيخ، إيقاف


التخلف عن التكوين المستمر

إنذار، توبيخ

3

إفشاء السر المهني

توبيخ، إيقاف


ارتكاب فعل يمس بشرف المهنة

إيقاف، عزل


استعمال أموال محصلة لغير ما خصصت له

إيقاف، عزل


خاتمة: تقييم شامل وتحديات التطبيق

يمثل القانون رقم 46.21 إصلاحاً شاملاً وطموحاً، يدفع بمهنة المفوضين القضائيين نحو مزيد من الاحترافية والنجاعة والمساءلة. وقد نجح في معالجة العديد من أوجه القصور التي شابت القانون 81.03. تكمن نقاط قوة القانون في منهجيته المنظمة للتأهيل والتكوين، والتوسيع المنطقي للاختصاصات، وخلق إطار مؤسساتي وتأديبي متين.

  • نقاط الخلاف والتحديات:

    • استقلالية المهنة: شكلت مسألة استقلالية المهنة نقطة خلاف رئيسية بين الهيئة المهنية ووزارة العدل. فقد عبرت الهيئة الوطنية عن مخاوفها من أن بعض المقتضيات تمنح الوزارة إشرافاً مفرطاً، مما يتعارض مع مطلبها بمزيد من الاستقلالية.9 ورغم التوصل إلى بعض التوافقات، يظل هذا التوتر تحدياً رئيسياً للتطبيق المنسجم للقانون.

    • جاهزية النصوص التنظيمية: تتوقف فعالية القانون بشكل كبير على صدور النصوص التنظيمية التي ستفصل جوانب حيوية، كالعقد النموذجي للمشاركة، والحد الأدنى للتأمين، وتنظيم المباراة، والأهم من ذلك، تعريفة الأتعاب الجديدة.1 أي تأخير في إصدار هذه النصوص سيخلق فراغاً قانونياً ويعيق تطبيق القانون.

    • التحدي الرقمي: رغم أن الإصلاح يشجع على التحديث، فإن الدمج الفعلي للأدوات الرقمية في إجراءات التبليغ وإدارة الملفات والتواصل مع المحاكم يظل تحدياً عملياً كبيراً يتطلب استثماراً وتكويناً وتعديلات في القوانين الإجرائية الأخرى.12

  • نظرة مستقبلية:

    إن القانون 46.21 ليس نقطة نهاية، بل هو بداية جديدة. وسيقاس نجاحه بمدى تأثيره العملي على سرعة وجودة العدالة. إن مستقبل المهنة سيتشكل بناءً على مدى فعالية الهيئة الوطنية في استخدام صلاحياتها الجديدة، وكيفية إدارة التوازن بين الاستقلالية والرقابة، ومدى سرعة وفعالية تكيف المهنة مع الواقع الاقتصادي والتكنولوجي الجديد الذي خلقه هذا التشريع التاريخي. لقد وضع القانون أساساً متيناً، لكن بناء مهنة حديثة وفعالة حقاً قد بدأ للتو.

تعليقات