القائمة الرئيسية

الصفحات

اهم المستجدات الدي عرفتها الساحة القانونية

 

الساحة القانونية المغربية في مرحلة انتقالية: تحليل شامل للإصلاحات والمستجدات (2024-2025)

مقدمة

السياق الحالي

تُعتبر الفترة الممتدة بين عامي 2024 و2025 واحدة من أكثر الفترات ديناميكية وتحولاً في التاريخ القانوني المغربي الحديث. يشهد المشهد التشريعي والقضائي في المملكة حراكاً غير مسبوق، مدفوعاً بتضافر عدة تيارات إصلاحية كبرى تهدف إلى إعادة تشكيل بنية العقد الاجتماعي والاقتصادي. من المراجعة العميقة لمدونة الأسرة، التي تمس نسيج المجتمع، إلى الإصلاحات الجوهرية في منظومة العدالة الجنائية، ومروراً بالتحولات الهيكلية في الإدارة القضائية والمهن القانونية، تجد المملكة المغربية نفسها في خضم عملية تحديث شاملة. يسعى هذا التقرير إلى تقديم تحليل معمق ومفصل لهذه المستجدات، ليس فقط من خلال عرض النصوص والمشاريع القانونية، بل عبر تفكيك الدوافع الكامنة وراءها، ورصد التجاذبات الفكرية والمجتمعية التي تؤطرها، واستشراف آثارها المحتملة على المدى القصير والطويل.

دوافع التغيير

إن هذا الزخم الإصلاحي ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج تفاعل مجموعة من العوامل الدافعة التي يمكن تحديدها في المحاور التالية:

  • التوجيهات الملكية: تلعب المؤسسة الملكية دوراً محورياً في إطلاق وتوجيه الإصلاحات الكبرى. وتعتبر الدعوة الملكية في سبتمبر 2023 لإعادة النظر في مدونة الأسرة المثال الأبرز على هذا التوجه، حيث شكلت نقطة الانطلاق لورش تشريعي واسع يهدف إلى معالجة "النقائص والاختلالات" التي ظهرت بعد عقدين من تطبيقها.1

  • التطور المجتمعي والنقاش العمومي: لم تعد صياغة القوانين عملية معزولة عن محيطها المجتمعي. فالضغوط المتزايدة من منظمات المجتمع المدني، والحركات الحقوقية والنسائية، والتجاذب المستمر بين التيارات الفكرية المحافظة والتقدمية، كلها عوامل تساهم في تشكيل الأجندة التشريعية، لا سيما في المجالات الحساسة كقانون الأسرة والقانون الجنائي.2

  • الالتزامات الدولية والامتثال للمعايير العالمية: يواجه المغرب ضرورة متزايدة لمواءمة تشريعاته الوطنية مع المعايير الدولية، خاصة تلك المتعلقة بحقوق الإنسان، كضمانات المحاكمة العادلة وحقوق المرأة والطفل، بالإضافة إلى متطلبات الشفافية المالية ومكافحة غسيل الأموال، وهو ما يظهر جلياً في إصلاحات مثل قانون العقوبات البديلة وقانون تنظيم المعاملات العقارية.4

  • ضرورة التحديث: هناك إرادة حكومية واضحة لتعزيز نجاعة وشفافية وسهولة الولوج إلى منظومة العدالة. يتجلى هذا السعي من خلال الاستثمار في الرقمنة، وتحديث الإدارة القضائية، وإعادة هيكلة المهن القانونية والقضائية، ووضع برامج تكوينية متخصصة لرفع كفاءة الموارد البشرية العاملة في القطاع.8

هيكل التقرير

ينقسم هذا التقرير إلى ثلاثة أجزاء رئيسية، مصممة لتقديم رؤية متكاملة للتحولات الجارية. يتناول الجزء الأول الإصلاحات التشريعية التأسيسية التي تعيد رسم ملامح العقد الاجتماعي والاقتصادي، مع التركيز على قانون المالية، ومراجعة مدونة الأسرة، والتحولات في منظومة العدالة الجنائية. أما الجزء الثاني، فيغوص في عمق التحولات التي تشهدها بنية الجهاز القضائي والمهن القانونية، محللاً الأدوار الجديدة لهيئة كتابة الضبط والجدل الدائر حول تنظيم المهن الحرة. وأخيراً، يخصص الجزء الثالث لدراسة دور الاجتهاد القضائي للمحاكم العليا، وتحديداً المحكمة الدستورية ومحكمة النقض، كعامل محفز للتغيير ومفسر للقانون في سياق التحديات الجديدة.

الجزء الأول: الإصلاحات التشريعية التأسيسية: إعادة تشكيل العقد الاجتماعي والاقتصادي

يحلل هذا الجزء المشاريع التشريعية الكبرى التي تعيد تعريف الجوانب الأساسية للقانون والمجتمع والاقتصاد في المغرب، والتي تشكل حجر الزاوية في الأجندة الإصلاحية الحالية.

القسم 1: قانون المالية لسنة 2025: الانعكاسات القانونية والاقتصادية

يعتبر مشروع قانون المالية رقم 60.24 لسنة 2025 أداة رئيسية لسياسة الدولة، حيث لا يعكس فقط الأولويات الاقتصادية والالتزامات الاجتماعية، بل يمثل أيضاً إطاراً قانونياً لتنفيذ هذه السياسات.12

التدابير المالية والضريبية الرئيسية

  • تعديلات الضريبة على الدخل (IR): يتضمن القانون مراجعة لشرائح وأسعار الضريبة على الدخل. وقد أثار هذا التعديل نقاشاً واسعاً حول الفوارق في العبء الضريبي بين موظفي القطاعين العام والخاص، حيث يرى البعض أن التخفيضات لم تكن كافية للتأثير بشكل ملموس على دخول الفئات الدنيا والمتوسطة.13 فعلى سبيل المثال، تم تخفيض الحد الأقصى للضريبة بنقطة مئوية واحدة من 38% إلى 37%، وهو ما اعتبره البعض تعديلاً طفيفاً.13

  • تضريب الأنشطة الاقتصادية الجديدة: في محاولة لتحديث القاعدة الضريبية ومواكبة التحولات الاقتصادية، أدخل القانون ضرائب على مصادر دخل جديدة لم تكن خاضعة للتضريب من قبل، مثل فرض ضريبة على "مكاسب ألعاب الحظ ذات منشأ أجنبي" وتضريب السجائر الإلكترونية.13

  • الرسوم القطاعية الخاصة: تم فرض "رسم خاص على الإسمنت المنتج محلياً أو عند استيراده"، حيث تتولى إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة تطبيقه عند الاستيراد، وتم تحديد سعره في 0.15 درهم للكيلوغرام الواحد من الإسمنت، مما يشكل أداة مالية موجهة لقطاع معين.13

  • الرسوم الجمركية والتعريفات: يمنح القانون للحكومة الإذن بأن تقوم، بمقتضى مراسيم، بتغيير أسعار أو وقف استيفاء الرسوم الجمركية والضرائب المفروضة على الواردات والصادرات. وقد تم استخدام هذه الآلية بشكل فعال لإدارة ضغوط السوق، حيث تم وقف استيفاء رسوم الاستيراد المفروضة على سلع أساسية كالأبقار الأليفة، وزيت الزيتون، والأغنام، بهدف ضمان استقرار التموين والأسعار. وتُلزم الحكومة بعرض هذه المراسيم على البرلمان للمصادقة عليها في أقرب قانون للمالية، مما يمنح السلطة التنفيذية مرونة كبيرة في مواجهة الأزمات الاقتصادية مع الحفاظ على الرقابة البرلمانية اللاحقة.12

الإطار القانوني والإداري

يضع قانون المالية الأساس القانوني لعمل الدولة المالي خلال السنة. فهو يأذن للحكومة بمواصلة استيفاء الضرائب والحصائل والدخول المخصصة للدولة وللجماعات الترابية والمؤسسات العمومية.12 كما يؤذن لها باللجوء إلى الاقتراض واستخدام كافة الأدوات المالية الأخرى لتمويل الميزانية.12 ولضمان التكامل القانوني، يتضمن القانون مقتضيات تعدل وتتمم المدونة العامة للضرائب ومدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة، والتي تدخل حيز التنفيذ ابتداءً من فاتح يناير 2025.12

إن تحليل هذه المقتضيات يكشف عن ديناميكيات أعمق. فقانون المالية لم يعد مجرد وثيقة محاسبية، بل أصبح أداة فعالة للسياسة الاجتماعية وإدارة الأزمات. فالإجراءات الضريبية الموجهة لفئات دخل معينة، إلى جانب التدابير المرنة لتعليق الرسوم الجمركية على السلع الأساسية، هي استجابات مباشرة للمخاوف العامة المتعلقة بغلاء المعيشة والتضخم. وهذا يوضح استخدام الحكومة للسياسة المالية كأداة أساسية لمعالجة الضغوط الاجتماعية وإدارة الأزمات الاقتصادية، مما يظهر نهجاً تفاعلياً وحساساً سياسياً. النقاش الدائر حول عدم كفاية هذه الإجراءات يسلط الضوء بدوره على التوتر القائم بين القيود المالية للدولة وتوقعات الرأي العام.13

من جهة أخرى، فإن إدراج ضرائب على منتجات جديدة مثل السجائر الإلكترونية ومكاسب المقامرة الأجنبية عبر الإنترنت، يشير إلى جهد تشريعي لمواكبة أنماط الاستهلاك المتغيرة والاقتصاد الرقمي. فمع تطور الاقتصاد، تظهر مصادر دخل جديدة كانت في السابق خارج الشبكة الضريبية التقليدية. ويعكس قانون المالية لسنة 2025 تكيف الدولة مع هذا الواقع، ساعياً إلى توسيع القاعدة الضريبية لضمان استدامة الموارد المالية للدولة على المدى الطويل.13

القسم 2: إصلاح الأسرة: المراجعة التاريخية لمدونة الأسرة

يُعد ورش مراجعة مدونة الأسرة من أهم وأكثر الإصلاحات حساسية وتأثيراً على المجتمع المغربي. انطلق هذا الورش بتوجيه ملكي في سبتمبر 2023، اعترافاً بوجود "نقائص واختلالات" في مدونة 2004 بعد عقدين من تطبيقها.1 تم تشكيل هيئة خاصة ضمت مختلف الفاعلين، وقدمت مقترحاتها في مارس 2024، والتي عُرضت على الملك الذي استقبل أيضاً رأي المجلس العلمي الأعلى بشأنها، مما يؤكد على الطبيعة المزدوجة للسلطة المرجعية في هذا المجال، بين الدولة والمؤسسة الدينية.3

2.1 مؤسسة الزواج: إعادة تعريف الخطبة والتعدد وحقوق الزوجين

  • الخطبة: من بين المقترحات، إمكانية توثيق الخطبة رسمياً. يهدف هذا الإجراء إلى حسم النزاعات التي قد تنشأ حول الهدايا والتعويض عن الضرر في حال العدول عن الخطبة، وهو ما لم يكن منظماً بشكل كافٍ في السابق.15

  • إثبات الزواج: يُقترح اعتماد عقد الزواج الموثق كوسيلة وحيدة لإثبات العلاقة الزوجية، مع تقليص الحالات الاستثنائية التي يمكن فيها اللجوء إلى "سماع دعوى الزوجية" إلى أضيق نطاق. يهدف هذا التوجه إلى القضاء على ظاهرة الزواج غير الموثق (زواج الفاتحة) وما يترتب عليه من ضياع لحقوق الزوجة والأطفال.15

  • زواج القاصر: يُقترح رفع سن الزواج إلى 18 سنة شمسية كاملة لكلا الجنسين، مع إمكانية استثنائية لمنح الإذن بالزواج في سن 17 سنة، على أن يكون هذا الإذن محاطاً برقابة قضائية صارمة وشروط مشددة، مما يضع حداً عملياً لزواج الأطفال الأصغر سناً.2

  • تعدد الزوجات: هذه النقطة هي من أكثر القضايا إثارة للجدل. يقترح التعديل منح الزوجة الحق في أن تشترط في عقد الزواج عدم التزوج عليها. وفي حال التنصيص على هذا الشرط، يصبح ملزماً للزوج. أما في غياب هذا الشرط، فإن إمكانية التعدد تُقيد بوجود "مبرر موضوعي استثنائي" تقدره السلطة التقديرية للقاضي، مثل عقم الزوجة أو إصابتها بمرض يمنع المعاشرة الزوجية.1

  • زواج المغاربة بالخارج: لتسهيل الإجراءات على الجالية المغربية، يُقترح السماح بإبرام عقود الزواج في بلدان الإقامة دون ضرورة حضور شاهدين مسلمين، في حال تعذر ذلك.1

2.2 انحلال ميثاق الزوجية: مقاربات جديدة للحضانة والنيابة القانونية والزيارة

  • الحضانة: يمثل هذا المقترح تحولاً جذرياً، حيث تصبح الحضانة حقاً مشتركاً بين الأبوين أثناء الزواج، ويمكن أن تستمر كذلك بعد الطلاق بناءً على اتفاقهما. والأهم من ذلك، هو المقترح القاضي بعدم سقوط حضانة الأم المطلقة لأبنائها بمجرد زواجها مرة أخرى، وهو تغيير أثار نقاشاً مجتمعياً واسعاً بين مؤيد ومعارض.1

  • النيابة القانونية: يُقترح جعل النيابة القانونية على الأبناء حقاً ومسؤولية مشتركة بين الأبوين أثناء قيام العلاقة الزوجية وبعدها، مما ينهي الوضع السابق الذي كانت فيه النيابة القانونية شبه حكر على الأب.2

  • المصلحة الفضلى للطفل: تتضمن المقترحات وضع ضوابط جديدة لتنظيم زيارة المحضون والسفر به إلى الخارج، بالإضافة إلى تعزيز الحماية القانونية لأموال القاصر ووضعها تحت رقابة قضائية مشددة.2

2.3 العلاقات المالية والإرث

  • الأموال المكتسبة: يُقترح وضع إطار قانوني جديد لتدبير الأموال المكتسبة أثناء الزواج، مع التنصيص صراحة على تثمين عمل الزوجة داخل المنزل واعتباره مساهمة فعلية في تنمية ثروة الأسرة.15

  • الإرث: رغم أن المجلس العلمي الأعلى رفض مقترح إلغاء "التعصيب" في الإرث، إلا أنه أقر بآلية قانونية بديلة تتمثل في "الهبة". يسمح هذا المخرج الشرعي للأب بأن يهب جزءاً من ممتلكاته لبناته في حياته، مما يضمن لهن حماية مالية، خاصة في غياب وريث ذكر. هذا الحل يمثل حلاً عملياً لتجاوز إحدى أكثر نقاط الخلاف حدة.3

2.4 تحليل النقاش المجتمعي والإطار المؤسساتي

كشفت عملية المراجعة عن شرخ مجتمعي عميق بين رؤيتين متنافستين: من جهة، التيارات التقدمية التي تطالب بالمساواة الكاملة بين الجنسين استناداً إلى المواثيق الدولية لحقوق الإنسان كاتفاقية "سيداو"؛ ومن جهة أخرى، التيارات الإسلامية والمحافظة التي ترى في بعض المقترحات محاولة لضرب المرجعية الإسلامية وبنية الأسرة التقليدية.2 وعلى الصعيد المؤسساتي، تتجه المقترحات نحو تحديث الإدارة القضائية عبر إحداث "شباك موحد" في محاكم الأسرة لتسهيل المساطر، وإقرار برامج لتأهيل المقبلين على الزواج، وإنشاء هيئات للوساطة والصلح لمعالجة النزاعات الأسرية قبل وصولها إلى القضاء.15

إن هذه الإصلاحات تكشف عن استراتيجية "التحديث البراغماتي" التي تنهجها الدولة. فبدلاً من المواجهة المباشرة للمبادئ الدينية الراسخة (مثل التعصيب)، يتم خلق وتعزيز آليات قانونية موازية ومقبولة شرعاً (مثل الهبة) لتحقيق أهداف اجتماعية حديثة (مثل حماية الوريثات). هذه المقاربة، التي يمكن وصفها بـ "الإصلاح عبر الالتفاف"، هي سمة مميزة للإصلاح القانوني المغربي في المجالات الحساسة، حيث تسمح بتحقيق نتائج عصرية دون إحداث قطيعة مع المرجعية التقليدية.

علاوة على ذلك، تمثل التغييرات المقترحة في الحضانة والنيابة القانونية تحولاً جوهرياً في الفلسفة القانونية. فالنظام ينتقل من نموذج أبوي، حيث الأب هو السلطة القانونية الأساسية والأم هي راعية مشروطة، إلى نموذج "والدي" حديث يركز على المسؤولية المشتركة والمصلحة الفضلى للطفل. هذا التحول لا يعيد فقط تعريف أدوار الأبوين، بل يهدف إلى مواءمة القانون المغربي بشكل أعمق مع المواثيق الدولية لحقوق الطفل.2

القسم 3: نقلة نوعية في العدالة الجنائية

يشهد مجال العدالة الجنائية إصلاحاً مزدوج المسار يهدف إلى أنسنة المنظومة العقابية من جهة، وتعزيز الضمانات الإجرائية من جهة أخرى. ويأتي هذا الإصلاح كاستجابة لضرورة معالجة مشكلة الاكتظاظ في السجون ومواءمة التشريعات مع المبادئ الدستورية للمحاكمة العادلة.

3.1 قانون العقوبات البديلة (القانون 43.22): الفلسفة والتطبيق

  • الهدف: يهدف هذا القانون، الذي جاء نتيجة نقاش عمومي واسع شارك فيه المجتمع المدني والخبراء، إلى تقليص الاعتماد على العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة في الجرائم البسيطة، مما يساهم في تخفيف الاكتظاظ داخل المؤسسات السجنية وتعزيز فرص إعادة الإدماج.5

  • أنواع العقوبات البديلة:

    1. العمل لأجل المنفعة العامة: يتمثل في أداء المحكوم عليه عملاً غير مدفوع الأجر لفائدة مؤسسات الدولة أو المنظمات غير الربحية، حيث يتم احتساب ساعاته بناءً على مدة العقوبة الحبسية (على سبيل المثال، كل ثلاث ساعات عمل تعادل يوماً واحداً من الحبس).19

    2. المراقبة الإلكترونية: تسمح للمحكوم عليه بقضاء عقوبته خارج السجن مع إخضاعه لتتبع إلكتروني يحدد نطاق حركته.

    3. التدابير التقييدية أو العلاجية أو التأهيلية: فرض قيود معينة على بعض الحقوق (مثل عدم مغادرة مكان معين) أو إلزام المحكوم عليه بالخضوع لبرامج علاجية (مثل علاج الإدمان) أو تأهيلية.

    4. الغرامة اليومية: عقوبة مالية يتم تحديد مبلغها عن كل يوم من مدة العقوبة الحبسية المحكوم بها.5

  • التطبيق: يشدد القانون على السلطة التقديرية للقاضي، حيث يلزمه بإجراء تقييم فردي دقيق لحالة المحكوم عليه قبل الحكم بعقوبة بديلة، مع التأكيد على ضرورة احترام كرامة المحكوم عليه وحقوقه الأساسية.5

3.2 مشروع قانون المسطرة الجنائية: تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة

  • النطاق: يمثل هذا المشروع، الذي أحيل على البرلمان في يناير 2025، أكبر عملية تعديل تطال قانون المسطرة الجنائية منذ إقراره سنة 2002، حيث يشمل تعديل أكثر من 420 مادة.20

  • أبرز الإصلاحات:

    • الاعتقال الاحتياطي والحراسة النظرية:

      • الترشيد: تم التأكيد على أن كلا الإجراءين هما "تدبيران استثنائيان" لا يلجأ إليهما إلا بشروط صارمة ومحددة قانوناً.20

      • تقليص المدد: تم تخفيض عدد مرات تمديد الاعتقال الاحتياطي في معظم الجرائم.20

      • حقوق الدفاع: تم تعزيز حق المتهم في الاتصال بمحاميه منذ الساعة الأولى لتوقيفه دون الحاجة إلى ترخيص مسبق من النيابة العامة.20

      • التسجيل السمعي البصري: تم إقرار آلية التسجيل السمعي البصري أثناء قراءة وتوقيع المشتبه فيه على محضر الشرطة القضائية في الجنايات والجنح الخطيرة. ورغم أهمية هذا الإجراء، فقد لاحظ المراقبون أنه تراجع عن مسودة سابقة كانت تقترح تسجيل عملية الاستجواب بأكملها.20

    • تعزيز دور رئاسة النيابة العامة: يؤسس المشروع لسلطة رئيس النيابة العامة على كافة قضاتها، ويضع ضوابط للتعليمات التي يصدرها، حيث يجب أن تكون كتابية وقانونية، مما يوضح هرمية السلطة ودور المؤسسة في رسم السياسة الجنائية.20

    • بدائل المتابعة القضائية: وسع المشروع من صلاحيات النيابة العامة في اللجوء إلى بدائل المتابعة، مثل إمكانية "تجنيح" بعض القضايا (تغيير وصفها من جناية إلى جنحة) وتوسيع نطاق الجرائم التي يمكن أن تكون موضوعاً للصلح، بهدف تخفيف العبء عن المحاكم.20

3.3 الأجندة غير المكتملة: وضعية مشروع القانون الجنائي

من اللافت للنظر أن هذه الإصلاحات الإجرائية والعقابية تتقدم في حين أن مشروع المراجعة الشاملة للقانون الجنائي الموضوعي (الذي يحدد الجرائم والعقوبات) لا يزال يراوح مكانه بسبب الانقسامات السياسية والإيديولوجية العميقة حوله. هذا الوضع يخلق فجوة محتملة في منظومة العدالة الجنائية ككل.21

إن هذا النهج يكشف عن استراتيجية تشريعية قد تكون متعمدة. فالحكومة والبرلمان يركزان على الإصلاحات الإجرائية والتقنية التي تحظى بتوافق أوسع، مثل قانون العقوبات البديلة وقانون المسطرة الجنائية، بينما يتم تأجيل الإصلاح الأكثر صعوبة وحساسية سياسياً، وهو القانون الجنائي الذي يتضمن قضايا خلافية كالحريات الفردية والإجهاض. هذا يعني أن الدولة قد تجد نفسها تمتلك أدوات قضائية أكثر "إنسانية" و"فعالية" لتطبيق مجموعة من القوانين التي يعتبرها جزء من المجتمع المدني متقادمة أو مقيدة للحريات.

من منظور آخر، تعكس هذه الإصلاحات، خاصة العقوبات البديلة وتوسيع السلطة التقديرية للنيابة العامة، تحولاً نحو "نهج تدبيري" للعدالة. ففي ظل اكتظاظ السجون وتراكم القضايا 5، تهدف هذه الإجراءات إلى إبقاء الجرائم البسيطة خارج النظام القضائي الرسمي، مما يسمح بتوجيه الموارد المحدودة نحو القضايا الأكثر خطورة. هذا التوجه لا يخدم فقط أهداف حقوق الإنسان، بل يمثل أيضاً أداة لإدارة الموارد القضائية بكفاءة أكبر، وهو ما يتماشى مع اتجاه عالمي نحو "الإدارة" في قطاع العدالة.

الجزء الثاني: تحول الجهاز القضائي والمهن القانونية

ينتقل هذا الجزء من تحليل القوانين إلى دراسة الفاعلين والمؤسسات المسؤولة عن تطبيقها، حيث يكشف عن تحولات هيكلية عميقة تهدف إلى إعادة بناء الجهاز الإداري للقضاء وتنظيم المهن المساعدة له.

القسم 1: هيئة كتابة الضبط: الغوص في محرك المحاكم

تعتبر هيئة كتابة الضبط العمود الفقري الإداري والإجرائي للمحاكم المغربية. وتهدف الإصلاحات الأخيرة إلى تعزيز مهنيتها ونجاعتها وتوضيح هيكلتها. ويخضع تنظيم هذه الهيئة للمرسوم رقم 2.11.473 (النظام الأساسي الخاص بهيئة كتابة الضبط)، الذي شهد تعديلات جوهرية مؤخراً لتعزيز مكانة موظفيها.23

1.1 تحديد الأدوار: تحليل مقارن بين المنتدب القضائي والمحرر القضائي وكاتب الضبط

  • الإطار القانوني: تتألف هيئة كتابة الضبط من ثلاثة أطر رئيسية: المنتدبون القضائيون، والمحررون القضائيون، وكتاب الضبط.23

  • التناقض بين النص والواقع: على الرغم من أن النظام الأساسي لا يحدد بوضوح مهام كل إطار، مما يؤدي إلى تداخل كبير في الممارسة العملية حيث يمكن لأي منهم أداء نفس المهام 33، إلا أن الواقع العملي، خاصة في المحاكم الكبرى، يظهر وجود تسلسل هرمي وتقسيم واضح للعمل.33 فالمنتدب القضائي، الذي غالباً ما يكون حاصلاً على شهادة جامعية في القانون، يحتل مكانة وظيفية أعلى ويقوم بمهام إشرافية وأكثر تعقيداً.

  • جدول: تحليل مقارن لأدوار هيئة كتابة الضبط: يهدف هذا الجدول إلى توضيح الأدوار الوظيفية الفعلية لكل إطار، بناءً على تجميع وتحليل المعلومات الواردة في عشرات المصادر، مما يوفر أداة تحليلية فريدة لحل الغموض القائم بين النص القانوني والممارسة اليومية.

المعيار

المنتدب القضائي

المحرر القضائي

كاتب الضبط

التعريف والموقع

موظف سامٍ ضمن هيئة كتابة الضبط، يُعتبر فاعلاً محورياً في تدبير العدالة وحلقة وصل بين القاضي والمتقاضي. يمارس مهاماً قيادية وإدارية وقضائية معقدة.35

إطار وسيط في هيئة كتابة الضبط، يقوم بمهام تنفيذية وتحريرية تحت إشراف المنتدب القضائي أو رئيس المصلحة.24

موظف أساسي في الهيكل الإداري للمحكمة، مسؤول عن الإجراءات المسطرية الأساسية وسير عمل المكاتب القضائية.39

شروط الولوج

الدرجة الثالثة (سلم 10): شهادة الإجازة في القانون أو الشريعة أو الاقتصاد أو التدبير.43

الدرجة الثانية (سلم 11): شهادة الماستر في نفس التخصصات.36

الدرجة الرابعة (سلم 8): دبلوم الدراسات الجامعية العامة (DEUG) أو المهنية (DEUP) في القانون أو الشريعة.24

الدرجة الرابعة: شهادة البكالوريا. الدرجة الثالثة: دبلوم تقني متخصص.25

المهام الأساسية

- التأطير والإشراف: الإشراف على الموظفين، توزيع المهام، رئاسة الأقسام والمصالح.36

- التدبير والبحث: تدبير الشعب القضائية، إنجاز دراسات وبحوث، تقديم اقتراحات لتحسين جودة الخدمات.36

- المهام القضائية المعقدة: حضور الجلسات وتحرير محاضرها، تحرير محاضر التحقيق، تنفيذ الأحكام القضائية، الإشراف على مكتب التنفيذ الزجري والمدني.36

- المهام المالية: إدارة صندوق المحكمة تحت إشراف رئيس كتابة الضبط.36

- التنفيذ: تنفيذ الأوامر والأحكام والقرارات القضائية والمحررات والسندات التنفيذية.38

- التحرير: تحرير المحاضر والوثائق القضائية البسيطة.

- المساعدة الإدارية: مساعدة المنتدب القضائي في تدبير الملفات والإجراءات اليومية.33

- إجراءات ما قبل الجلسة: تقييد الدعاوى، توجيه الاستدعاءات، إعداد جدول الجلسات.39

- إجراءات أثناء الجلسة: حضور الجلسات وتدوين وقائعها في محضر الجلسة.39

- إجراءات ما بعد الجلسة: تصفية الملفات، تبليغ الأحكام، تلقي الطعون، تسليم النسخ التنفيذية والعادية.39

- مهام إدارية ومالية: مسك حسابات المحكمة، تحصيل الرسوم القضائية، أرشفة الملفات.40

المسار المهني

مسار ترقٍ واضح عبر خمس درجات: الثالثة، الثانية، الأولى، الممتازة، ومنصب سامي "منتدب قضائي عام". إمكانية الترشح لمناصب المسؤولية والولوج إلى سلك القضاء أو مهن حرة أخرى.36

مسار ترقٍ محدود نسبياً مقارنة بالمنتدب. يمكن الترقية عبر امتحان الكفاءة المهنية أو الاختيار.24

مسار ترقٍ عبر الدرجات (من الرابعة إلى الأولى) من خلال امتحانات الكفاءة المهنية أو الاختيار. يمكن الترقي إلى إطار محرر قضائي بعد الحصول على الشهادة الجامعية المناسبة.31

ملاحظات

يعتبر العقل المدبر والمشرف على الإجراءات القضائية والإدارية المعقدة. صفته لا تمنحه حصانة بل مسؤوليات أكبر، وقد يقوم بمهام المحرر أو كاتب الضبط عند الحاجة.34

يركز بشكل أساسي على الجانب التنفيذي للإجراءات القضائية، ويعمل كحلقة وصل بين القرار القضائي وتطبيقه على أرض الواقع.

هو المحرك اليومي لعمل المحكمة، يضمن سير الإجراءات المسطرية من بدايتها إلى نهايتها. عمله دقيق ومحوري لصحة الإجراءات القضائية.

1.2 المسار المهني: أنظمة جديدة للترقية والتعويضات

  • شروط الولوج: يتم الالتحاق بهذه الوظائف عبر مباريات تنافسية. تختلف الشهادة المطلوبة حسب الإطار والدرجة: شهادة الإجازة للمنتدب القضائي من الدرجة الثالثة 43، وشهادة الماستر للدرجة الثانية 36، ودبلوم الدراسات الجامعية للمحرر القضائي.24

  • المسار الوظيفي والترقية: يتمتع المنتدب القضائي بمسار مهني واضح ومتدرج يشمل خمس درجات رئيسية: الدرجة الثالثة (السلم 10)، الدرجة الثانية (السلم 11)، الدرجة الأولى (خارج السلم)، الدرجة الممتازة، وصولاً إلى منصب "منتدب قضائي عام" الذي يعين بظهير ملكي ويعتبر منصباً سامياً.43 تتم الترقية إما عبر امتحانات الكفاءة المهنية أو بالاختيار بعد التسجيل في جدول الترقي بناءً على الأقدمية والأداء.23

  • الأجور والحوافز: شهدت الحزمة المالية لهذه الفئة تحسناً كبيراً. فاعتباراً من يوليو 2025، سيبدأ الراتب الشهري للمنتدب القضائي من الدرجة الثالثة من 8000 درهم، ليصل إلى 36000 درهم للمنتدب القضائي العام. يضاف إلى ذلك منح سنوية، وتعويضات عن المسؤولية، وراتبا الشهرين الثالث عشر والرابع عشر، بالإضافة إلى مكافأة جديدة تعتزم وزارة العدل اعتمادها لتحفيز الأداء.36 كما صادقت الحكومة على مرسوم يتعلق بتعويضات الساعات الإضافية.9

  • التكوين: يخضع الناجحون في المباريات لتكوين متخصص وإلزامي بالمعهد العالي للقضاء (سابقاً المعهد الوطني لكتابة الضبط) لضمان اكتسابهم للمهارات العملية والقيم المهنية اللازمة للاندماج الفعال في محيط العمل القضائي.24

1.3 مسارات نحو مهن أخرى: المنتدب القضائي كقنطرة عبور

يوفر منصب المنتدب القضائي آفاقاً مهنية فريدة تتجاوز حدود كتابة الضبط. فبعد قضاء عشر سنوات من الخدمة الفعلية، يمكن للمنتدب الحاصل على شهادة الماستر اجتياز مباراة خاصة لولوج سلك القضاء. أما الحاصلون على شهادة الدكتوراه، فيمكنهم تقديم طلب مباشر للادماج في السلك القضائي. كما تفتح هذه الخبرة الباب لولوج مهن قانونية أخرى كالمحاماة (وفق مشروع قانون المحاماة الجديد) أو مهنة المفوض القضائي.36

إن هذه الإصلاحات المفصلة لهيئة كتابة الضبط ليست مجرد تعديلات إدارية، بل هي جزء من استراتيجية متكاملة لتعزيز مهنية الجهاز القضائي. فالحكومة تدرك أن القوانين الجديدة، مهما كانت متقدمة، تظل حبراً على ورق دون وجود إدارة قادرة على تنفيذها بكفاءة. من خلال جعل مسار المنتدب القضائي أكثر جاذبية من حيث الأجور والآفاق المهنية، ومن خلال ربطه بمسار الولوج إلى القضاء، تسعى الدولة إلى بناء جهاز إداري قضائي كفؤ ومحفز، قادر على مواكبة تعقيدات منظومة العدالة الحديثة. وهذا يعد استجابة مباشرة للمشاكل التاريخية المتعلقة بضعف الكفاءة والنجاعة في الإدارة القضائية.

القسم 2: تنظيم المهن القانونية والقضائية

2.1 الولاية المتغيرة للمحامين: الجدل حول تحرير العقود العقارية

شهدت الساحة القانونية مؤخراً تحولاً سياسياً هاماً أعلن عنه وزير العدل، ويتعلق بالتوجه نحو منع المحامين من تحرير العقود المتعلقة بالمعاملات العقارية، وتحديداً العقارات غير المحفظة، وحصر هذه المهمة في الموثقين والعدول.6

  • مبررات وزير العدل: قدم الوزير عبد اللطيف وهبي مبررين أساسيين لهذا القرار:

    1. الامتثال المالي الدولي: ضرورة إخضاع المعاملات العقارية لآليات المراقبة الدولية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. وبما أن مهنة المحاماة محمية بالسر المهني، فلا يمكن إخضاع المحامين لهذا النوع من الرقابة المالية الخارجية، على عكس الموثقين والعدول الذين يعتبرون ضباطاً عموميين ويمكن إدماجهم بسهولة أكبر في هذا النظام.6

    2. ترسيم حدود المهنة وموافقة المحامين: أكد الوزير أن القرار جاء بعد اتفاق تام مع هيئات المحامين، التي أبدت رغبتها في التخلي عن هذا الاختصاص لحماية جوهر مهنتهم المتمثل في الدفاع والسر المهني، وتجنب أي تضارب محتمل. إلا أن هذا التأكيد قوبل بالتشكيك من طرف بعض المحامين الذين عبروا عن عدم علمهم المسبق بالقرار.6

  • الأساس القانوني والنقاش الدائر: يتطلب هذا القرار تعديل المادة الرابعة من مدونة الحقوق العينية، التي تخول حالياً للمحامين المقبولين للترافع أمام محكمة النقض صلاحية تحرير هذه العقود.52 وقد أثار هذا التوجه جدلاً واسعاً حول مصير العقود التي سبق تحريرها، وتأثير القرار على مصدر دخل مهم للعديد من مكاتب المحاماة.52

إن هذا القرار يمثل مثالاً صارخاً على كيفية تأثير الضغوط الدولية على تنظيم المهن القانونية المحلية. فمتطلبات الامتثال للمعايير المالية الدولية، مثل تلك التي تفرضها مجموعة العمل المالي (FATF)، أصبحت عاملاً حاسماً في صنع السياسات الوطنية. ولضمان عدم إدراج المغرب في القوائم السوداء أو الرمادية، تضحي الدولة بمجال تقليدي من ممارسة مهنة المحاماة. هذا يظهر أن الامتثال الدولي يمكن أن يتفوق في سلم أولويات السياسة العامة على الترتيبات المهنية المحلية القائمة منذ فترة طويلة.

2.2 تحديث الخبرة القضائية والمهن الأخرى

  • الخبراء القضائيون: تم إعداد مشروع قانون جديد لتنظيم مهنة الخبرة القضائية وأحيل على الأمانة العامة للحكومة في يناير 2024. يأتي هذا الإصلاح استجابة للتعقيد التقني المتزايد للنزاعات المعروضة على القضاء، خاصة في المجالات الرقمية كالأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي، والتي تتطلب خبراء متخصصين لمساعدة القضاة. يضم المغرب حالياً 4350 خبيراً قضائياً في 215 مجالاً مختلفاً.11

  • المهن الأخرى: هناك نقاشات ومشاريع قوانين جارية تهدف إلى إصلاح شروط الولوج والتكوين لمختلف المهن القانونية الأخرى. من بين المقترحات، رفع المؤهل العلمي المطلوب لولوج مهنة المحاماة ليصبح مماثلاً لمؤهل ولوج سلك القضاء (شهادة الماستر)، بالإضافة إلى تطوير برامج تكوين جديدة للمفوضين القضائيين والموثقين والتراجمة المقبولين لدى المحاكم.56

الجزء الثالث: الاجتهاد القضائي للمحاكم العليا كعامل محفز للتغيير

يتناول هذا الجزء دور قمة الهرم القضائي في تفسير القانون وخلق السوابق التي توجه عمل المنظومة القانونية بأكملها، مما يجعلها فاعلاً أساسياً في عملية الإصلاح.

القسم 1: المحكمة الدستورية: حارسة النظام القانوني (2024-2025)

  • الاختصاص والدور: تتمثل مهمة المحكمة الدستورية في ضمان مطابقة القوانين التنظيمية والأنظمة الداخلية للبرلمان والمعاهدات الدولية للدستور قبل دخولها حيز التنفيذ. كما تنظر في الطعون الانتخابية وتبت في الدفع بعدم دستورية قانون ما أثناء النظر في قضية معروضة على المحاكم (الفصل 133 من الدستور).57 وتعتبر قراراتها نهائية وملزمة لجميع السلطات العامة والإدارية والقضائية.57

  • تحليل قرارات رئيسية (2024-2025):

    • القرار رقم 251/25 (قانون حق الإضراب): يُعد هذا القرار، الصادر في 12 مارس 2025، قراراً تاريخياً، حيث قامت المحكمة بمراجعة القانون التنظيمي رقم 97.15 الذي يحدد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب.60 أجرت المحكمة فحصاً دقيقاً لمواد القانون، مادة بمادة، وسعت إلى تحقيق توازن بين حق الإضراب الذي يكفله الدستور (الفصل 29) وبين ضرورات دستورية أخرى كحماية السلامة العامة، وضمان استمرارية المرافق الحيوية، وحرية المبادرة والمقاولة. وفي النهاية، قضت المحكمة بدستورية القانون مع تسجيل ملاحظات طفيفة، معتبرة أن المشرع نجح في الموازنة بين هذه الحقوق المتنافسة. يقدم هذا القرار إطاراً مرجعياً حاسماً لتنظيم علاقات الشغل في المغرب.

    • القرار رقم 250/25 (تجريد نائب برلماني من عضويته): صدر هذا القرار في 21 يناير 2025، وقضى بشغور مقعد برلماني بسبب غياب النائب المعني لسنة تشريعية كاملة دون عذر مقبول. أكد هذا القرار على الآليات الدستورية (الفصل 61) والقانونية المنصوص عليها في النظام الداخلي لمجلس النواب لفرض الانضباط والمساءلة على المنتخبين، وتعزيز جدية العمل البرلماني.62

    • قرارات أخرى: سيتم تحليل القرارات الأخرى المتاحة لعامي 2024 و2025 لتحديد الاتجاهات الأخرى في اجتهاد المحكمة.62

إن قرار المحكمة بشأن قانون الإضراب (251/25) يبرز دورها الأساسي في النظام المغربي، ليس فقط كحكم قانوني، بل كمنظم سياسي واجتماعي يسعى لتحقيق التوازن بين الحقوق الدستورية المتنافسة والمتضاربة أحياناً. فالدستور يضمن حق الإضراب، ولكنه يضمن أيضاً الحق في الصحة والسلامة واستمرارية الخدمات العامة. وعندما قامت المحكمة بتأييد القانون الذي ينظم هذا الحق، فإنها أقرت بصحة الموازنة التي أجراها المشرع. وهذا يرسل رسالة واضحة مفادها أن الحقوق، رغم ضمانتها، ليست مطلقة ويمكن تقييدها لحماية حقوق أساسية أخرى والمصلحة العامة. هذا النهج ضروري للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والسياسي في بلد يشهد تحولات سريعة.

القسم 2: محكمة النقض: اتجاهات الاجتهاد القضائي والنشاط القضائي

  • نظرة إحصائية (2024):

    • أظهرت محكمة النقض إنتاجية ملحوظة، حيث أصدرت قرارات في 52,904 قضية خلال سنة 2024، وهو ما يمثل نسبة 109% من القضايا الجديدة المسجلة في نفس السنة (48,210 قضية). وقد ساهم هذا الأداء في تقليص مخزون القضايا المتراكمة بحوالي 5,000 قضية.22

    • بدورها، أظهرت النيابات العامة نشاطاً كبيراً، حيث قامت بمعالجة 88% من الشكايات المسجلة (565,874 شكاية) و94% من المحاضر الرائجة (2.3 مليون محضر).22

    • ومن أبرز الإنجازات، تحقيق انخفاض تاريخي في نسبة الاعتقال الاحتياطي التي بلغت 32.56% في نهاية 2024، مقارنة بـ 37.56% في السنة التي قبلها.22

  • تحليل قرارات هامة (2024-2025):

    • قانون الشغل: في قرار مهم، اعتبرت محكمة النقض أن رسائل "واتساب" يمكن أن تكون وسيلة إثبات مقبولة لتبليغ الشهادات الطبية من الموظف إلى المشغل، شريطة أن يكون هذا النوع من التواصل معتاداً عليه داخل المقاولة. يمثل هذا القرار تكييفاً للاجتهاد القضائي مع واقع تكنولوجيا الاتصالات الحديثة.22

    • القانون الجنائي (هتك العرض): قدمت المحكمة تفسيراً واسعاً لجريمة هتك العرض، حيث قضت بأن الجريمة تتحقق بمجرد المساس بحرمة جسد الضحية دون رضاها، بغض النظر عن وقوع الممارسة الجنسية أو حتى عن القدرة الجنسية للجاني. هذا الاجتهاد يعزز حماية الضحايا ويوسع نطاق التجريم ليشمل كافة أشكال الاعتداء الجسدي.22

    • القانون الإجرائي: تواصل محكمة النقض مراقبتها لآجال البت في القضايا أمام محاكم الموضوع، من خلال اعتماد "آجال استرشادية" لتعزيز النجاعة القضائية، وقد سجلت نسب امتثال عالية في القضايا المدنية والجنائية والتجارية.22

    • سيتم تحليل القرارات الأخرى المتاحة لعامي 2024 و2025 لتحديد الأنماط السائدة في اجتهاد المحكمة.68

إن هذه المعطيات لا تكشف فقط عن أرقام، بل عن تحول ثقافي داخل المؤسسة القضائية. فمحكمة النقض لا تتصرف كهيئة قضائية سلبية تنتظر القضايا، بل كمدير نشط لمنظومة العدالة. فهي تقوم بتتبع ونشر إحصائيات مفصلة عن أدائها وأداء المحاكم الأدنى درجة، وتستخدم أدوات إدارية مثل "الآجال الاسترشادية" للدفع نحو تسريع البت في القضايا. كما أن اجتهادها يتكيف مع التكنولوجيا الحديثة، وقيادتها (رئيس محكمة النقض الذي هو أيضاً الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية) تعمل بنشاط على خفض معدلات الاعتقال الاحتياطي. كل هذا يشير إلى تبني القضاء لنهج استباقي، قائم على البيانات والإدارة الحديثة. هذا الدفع الداخلي نحو الكفاءة والتحديث يكمل بشكل فعال الإصلاحات التشريعية التي تقودها الحكومة والبرلمان، مما يوحي بوجود جهد منسق على مستوى المنظومة بأكملها لتحسين أداء قطاع العدالة.

خاتمة وتوقعات استراتيجية

خلاصة الاتجاهات الرئيسية

يكشف التحليل المعمق للساحة القانونية المغربية خلال الفترة 2024-2025 عن مجموعة من الاتجاهات المترابطة التي ترسم ملامح مرحلة جديدة في تطور النظام القانوني للمملكة. يمكن تلخيص هذه الاتجاهات في النقاط التالية:

  • نحو عدالة جنائية مزدوجة الأبعاد: هناك توجه واضح نحو أنسنة منظومة العدالة من خلال إقرار العقوبات البديلة وتقييد اللجوء إلى الاعتقال الاحتياطي، وفي نفس الوقت، تبني نهج "تدبيري" يهدف إلى زيادة الكفاءة وتخفيف العبء عن المحاكم.

  • التفاوض المعقد بين التقاليد والحداثة: تتجلى هذه الديناميكية بوضوح في ورش مراجعة مدونة الأسرة، حيث يتم البحث عن حلول توفيقية وبراغماتية توازن بين المرجعية الدينية الإسلامية والمتطلبات الحقوقية الحديثة والمواثيق الدولية.

  • المهنية كشرط للإصلاح: هناك إدراك متزايد بأن نجاح الإصلاحات التشريعية الكبرى مرهون بوجود جهاز إداري قضائي كفؤ ومحفز. ومن هنا، تأتي الأهمية الاستراتيجية لإصلاح هيئة كتابة الضبط وتحسين أوضاعها المادية والمهنية.

  • تأثير المعايير الدولية: يتزايد تأثير المعايير الدولية، سواء في مجال حقوق الإنسان أو الشفافية المالية، كقوة دافعة وموجهة للإصلاحات التشريعية وتنظيم المهن القانونية على الصعيد المحلي.

تحليل استشرافي

إن الفترة 2024-2025 لا تمثل نقطة نهاية، بل هي مرحلة حاسمة في مشروع طويل الأمد للتحديث القانوني والمؤسساتي. وسيعتمد نجاح هذه الإصلاحات على مجموعة من العوامل، مع وجود تحديات مستقبلية محتملة:

  • تحديات التنفيذ: يطرح تطبيق الإصلاحات المعقدة، كمدونة الأسرة الجديدة، تحديات كبيرة تتعلق بتكوين القضاة والموظفين، وتوفير الموارد اللازمة للهيئات الجديدة (مثل هيئات الوساطة)، وتوحيد الاجتهاد القضائي.

  • الموارد والميزانية: يتطلب تطبيق قانون العقوبات البديلة، خاصة المراقبة الإلكترونية، استثمارات كبيرة في التكنولوجيا والموارد البشرية لمتابعة المحكوم عليهم.

  • القانون الجنائي المعلق: سيبقى الفراغ المتعلق بعدم مراجعة القانون الجنائي الموضوعي يشكل نقطة ضعف في المنظومة، وقد يؤدي إلى توترات مستمرة بين تطبيق إجراءات حديثة على نصوص قانونية يعتبرها البعض متجاوزة.

توصيات ختامية

بناءً على هذا التحليل، يمكن تقديم التوصيات التالية للفاعلين الرئيسيين:

  • لصناع السياسات: يجب إعطاء الأولوية لتخصيص الموارد المالية والبشرية اللازمة لتكوين الفاعلين في قطاع العدالة وتوفير البنية التحتية لدعم القوانين الجديدة. كما يجب إطلاق حوار وطني واسع وشامل لبناء توافق مجتمعي حول مشروع مراجعة القانون الجنائي.

  • للممارسين القانونيين: من الضروري الاستثمار في التكوين المستمر لمواكبة المستجدات الإجرائية والموضوعية. كما يجب على المحامين تكييف نماذج عملهم لتأخذ في الاعتبار التحولات في اختصاصاتهم المهنية، مثل التوجه نحو حصر تحرير العقود العقارية في الموثقين والعدول.

  • للباحثين والأكاديميين: ينبغي تركيز الأبحاث الميدانية على تقييم الأثر الفعلي لهذه الإصلاحات، خاصة فيما يتعلق بمدى فعالية العقوبات البديلة في خفض معدلات العود، والآثار الاجتماعية والاقتصادية لتطبيق مدونة الأسرة الجديدة على أرض الواقع.

تعليقات