القائمة الرئيسية

الصفحات

البنية القانونية للاستثمار: إطار للنمو ودراسة حالة في الإصلاح القضائي مباريات الماستر

 

البنية القانونية للاستثمار: إطار للنمو ودراسة حالة في الإصلاح القضائي

مقدمة

يقدم هذا التقرير تحليلاً معمقاً للعلاقة الجوهرية بين الأطر القانونية وتشجيع الاستثمار، منطلقاً من فرضية أساسية مفادها أنه بينما يشكل الاستقرار الاقتصادي الكلي وحجم السوق محركات أساسية للاستثمار، فإن الإطار القانوني والتنظيمي هو العامل الحاسم الذي يمكّن من تحويل الفرص المحتملة إلى تدفقات رأسمالية فعلية. فهذا الإطار هو حجر الزاوية الذي تُبنى عليه ثقة المستثمر.

لتحقيق هذا الهدف، يتبنى التقرير منهجية مزدوجة المسار:

  • المسار الأول (تحديد المبادئ): يرسم هذا المسار المبادئ العالمية لبنية قانونية جاذبة للاستثمار، مستنداً إلى مراجعة شاملة للإرشادات والأبحاث الصادرة عن هيئات دولية رائدة مثل البنك الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD). يؤسس هذا المسار للقاعدة النظرية والمقارنة للتقرير.

  • المسار الثاني (التطبيق العملي): يقدم هذا المسار دراسة حالة تفصيلية للقانون المغربي رقم 46.21، المتعلق بتنظيم مهنة المفوضين القضائيين. ستكون دراسة الحالة هذه بمثابة توضيح عملي لكيفية قيام دولة بترجمة المبادئ رفيعة المستوى (مثل "سيادة القانون" و"إنفاذ العقود") إلى واقع ملموس وعملياتي.

إن مصداقية أي نظام قانوني تخضع للاختبار النهائي في "الميل الأخير" من رحلة التقاضي، أي عند نقطة التفاعل المباشر بين آلة الدولة القانونية والمواطن أو المستثمر. وفي هذا السياق، سيتم تأطير دراسة الحالة المغربية كحل لمشكلة "الميل الأخير"، مما يثبت أن تعزيز قدرات وكفاءة وكلاء الإنفاذ لا يقل أهمية عن إصدار القوانين على أعلى المستويات. يقدم هذا التقرير خارطة طريق واضحة، تنتقل بالقارئ من المبادئ العامة (القسم الأول)، إلى التطبيق المحدد (القسم الثاني)، وصولاً إلى خلاصة تركيبية وعملية (القسم الثالث).

القسم الأول: ركائز البنية القانونية الجاذبة للاستثمار

يعمل هذا القسم على تفكيك البيئة القانونية المثالية للاستثمار إلى خمس ركائز أساسية، مدعومة بالأبحاث والممارسات الدولية.

1.1 الأساس: سيادة القانون والاستقرار والقدرة على التنبؤ

إن القاعدة المطلقة وغير القابلة للتفاوض لجذب الاستثمار والاحتفاظ به هي سيادة القانون. يشمل هذا المبدأ عدة عناصر رئيسية:

  • الاستقرار والقدرة على التنبؤ: يحتاج المستثمرون، لا سيما أولئك الذين يقدمون التزامات رأسمالية طويلة الأجل، إلى بيئة قانونية وسياسية مستقرة. يجب أن يكونوا قادرين على التنبؤ بكيفية تطبيق القوانين على استثماراتهم، وهو مبدأ أساسي في توجيهات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 1 وتعريف البنك الدولي لمناخ الاستثمار الجيد.3

  • الشفافية: يجب أن تكون الأهداف التنظيمية والإجراءات ومعايير اتخاذ القرار مدونة ومنشورة ومتاحة بسهولة. هذا يقلل من عدم اليقين وإمكانية الفساد.1 ويعد إطلاق بوابة التجارة الدولية في الرأس الأخضر مثالاً عملياً على هذا المبدأ.8

  • استقلال القضاء: هو الضامن النهائي لسيادة القانون. يضمن القضاء المستقل أن يتم الفصل في النزاعات بنزاهة بناءً على القانون والوقائع، بعيداً عن أي تأثيرات سياسية أو غيرها من التدخلات غير اللائقة.9 هذه الحماية ضرورية لجذب الاستثمار، لأنها توفر التزاماً ذا مصداقية بأن الدولة لن تتصرف بشكل تعسفي.10 وتحدد المبادئ الأساسية للأمم المتحدة بشأن استقلال السلطة القضائية المعيار الدولي لذلك.11

  • حماية حقوق الملكية: تعد الحقوق المضمونة لامتلاك واستخدام والتصرف في الممتلكات (المادية والفكرية) ضرورية لتشجيع الاستثمار وتكوين رأس المال.13 إن ضعف حقوق الملكية يثبط الاستثمار من خلال خلق مخاطر المصادرة أو السرقة، مما يعيق النمو طويل الأجل.17 يجب أن تحمي الأطر القانونية من المصادرة غير المعوض عنها، إلا لأسباب تتعلق بالمصلحة العامة المحددة بوضوح ومع تعويض عادل.8

  • حماية حقوق الملكية الفكرية: في اقتصاد قائم على المعرفة، تعد الحماية القوية لبراءات الاختراع والعلامات التجارية وحقوق النشر عاملاً حاسماً في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، خاصة في القطاعات كثيفة التكنولوجيا. توفر حقوق الملكية الفكرية القوية بيئة آمنة لحماية الأصول القيمة وتحفيز الابتكار.23

إن قرار المستثمر يعتمد على حساب المخاطر والعوائد 13، حيث يشكل عدم الاستقرار القانوني والسياسي مصدراً رئيسياً للمخاطر.3 وبينما يهدف القضاء المستقل إلى التخفيف من هذه المخاطر من خلال ضمان التطبيق المتوقع للقانون 9، فإن الحكم القضائي يظل حقاً مجرداً حتى يتم إنفاذه. تشكل عملية الإنفاذ نفسها - من تبليغ الإخطارات، إلى الحجز على الأصول، وتنفيذ الأحكام - نقطة حرجة يمكن أن تشهد فشلاً أو تأخيراً أو فساداً. وبالتالي، يمكن لدولة أن تتمتع بمحكمة عليا مستقلة دستورياً، ولكن إذا كان وكلاء الإنفاذ في "الميل الأخير" (مثل محضري المحاكم أو المفوضين القضائيين) غير فعالين أو سيئي التدريب أو فاسدين، فإن القدرة على التنبؤ بالنظام بأكمله تنهار من منظور المستثمر. يكشف هذا عن حقيقة جوهرية:

المستثمرون لا يستثمرون في القوانين المكتوبة على الورق، بل في التوقع الموثوق بإنفاذها. وهذا يعني أن الإصلاحات التي تستهدف القدرة التشغيلية ونزاهة وكلاء الإنفاذ لها أهمية غير متناسبة في بناء ثقة المستثمر، وهو ما يبرر التعمق في دراسة الحالة المغربية في القسم الثاني.

1.2 البوابة: تسهيل دخول وتشغيل الأعمال

يدرس هذا القسم العقبات التنظيمية التي يواجهها المستثمرون طوال دورة حياة الاستثمار وكيف يمكن للأطر القانونية تقليلها.

  • سهولة بدء النشاط التجاري: تعتبر إجراءات تسجيل الأعمال المعقدة والمطولة والمكلفة عائقاً مباشراً أمام ريادة الأعمال والاستثمار.29 وقد أظهرت الإصلاحات التي تبسط هذه العمليات - مثل إنشاء "النافذة الواحدة"، وإدخال المنصات الإلكترونية، وتقليل أو إلغاء متطلبات رأس المال الأدنى - أنها تزيد من عدد الشركات المسجلة.29

  • تبسيط التصاريح والتراخيص: تضيف الإجراءات المرهقة للحصول على تصاريح البناء والتراخيص التشغيلية وتوصيلات الكهرباء تكاليف وتأخيرات كبيرة، مما يقوض الاستثمار.33 ويعد تبسيط هذه العقبات الإدارية عنصراً أساسياً في تسهيل الاستثمار.1

  • أطر البنك الدولي "ممارسة أنشطة الأعمال" و"جاهزية بيئة الأعمال": توفر هذه المبادرات معياراً معترفاً به عالمياً لتقييم البيئة التنظيمية. لقد كان لها تأثير كبير في تحفيز الحكومات على إجراء إصلاحات من خلال تسليط الضوء على نقاط الضعف المحددة وعرض الممارسات الجيدة من جميع أنحاء العالم.30 وتوضح الأمثلة من المملكة العربية السعودية والأردن والبحرين والمغرب كيف يمكن للإصلاحات المستهدفة في هذه المجالات أن تؤدي إلى تحسين التصنيفات والإشارة إلى مناخ استثماري أكثر ترحيباً.38

إن الإصلاحات الإجرائية، رغم ضرورتها، ليست كافية بحد ذاتها؛ فنجاحها يعتمد على قوة الركائز القانونية الأساسية. تركز إصلاحات "ممارسة أنشطة الأعمال" على خفض التكاليف الإجرائية (الوقت والمال وعدد الإجراءات) للتفاعل مع الدولة 30، وهو ما يمثل طريقة ملموسة وغالباً ما تكون أسهل سياسياً لتحسين مناخ الاستثمار. ومع أن الأبحاث تظهر وجود علاقة إيجابية بين هذه الإصلاحات وتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر 34، إلا أنها تعالج في المقام الأول مرحلتي الدخول والتشغيل للاستثمار، دون أن تتطرق للمخاطر الأكثر جوهرية مثل المصادرة أو خرق العقود أو تسوية النزاعات بشكل غير عادل. قد ينجذب المستثمر إلى عملية تسجيل أعمال تجارية عبر الإنترنت تتم في يوم واحد، ولكنه سيرتدع إذا علم أن حل نزاع تجاري بسيط يستغرق سنوات في نظام قضائي غير فعال. من هنا، يظهر وجود

تسلسل هرمي للإصلاحات؛ فالإصلاحات التأسيسية (سيادة القانون، حقوق الملكية، استقلال القضاء) تخلق الأمان للاستثمار، بينما تخلق الإصلاحات الإجرائية (سهولة ممارسة الأعمال) الكفاءة له. الكفاءة بدون أمان هي وعد أجوف. لذلك، يجب على صانعي السياسات أن ينظروا إلى هذه الإصلاحات كأولويات متسلسلة أو، على الأقل، متوازية. إن التركيز فقط على تصنيفات "ممارسة أنشطة الأعمال" دون معالجة نقاط الضعف المؤسسية الأساسية يمكن أن يخلق واجهة إصلاحية زائفة تفشل في جذب استثمارات مستدامة وطويلة الأجل.

1.3 المحرك: قانون الشركات والعمل والتمويل

ينتقل هذا القسم من البيئة العامة إلى القواعد القانونية المحددة التي تحكم عمليات الأعمال.

  • حوكمة الشركات: يعد وجود إطار قوي لحوكمة الشركات أمراً ضرورياً لجذب رأس المال، خاصة من المستثمرين المؤسسيين. وتعتبر مبادئ حوكمة الشركات لمجموعة العشرين ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية المعيار العالمي في هذا المجال.42 وتشمل العناصر الرئيسية ما يلي:

    • حماية مساهمي الأقلية: هذه إشارة حاسمة للمستثمرين الأجانب الذين سيكونون دائماً تقريباً من مساهمي الأقلية في المشاريع المشتركة. فالحقوق القوية - مثل الحق في الحصول على المعلومات، والمعاملة العادلة، وحقوق التصويت، واللجوء إلى القضاء ضد التعسف - تقلل من مخاطر الاستغلال من قبل الشركاء ذوي الأغلبية.48

    • الإفصاح والشفافية: يعد الإفصاح الدقيق وفي الوقت المناسب عن الأداء المالي والملكية والحوكمة أمراً أساسياً لثقة المستثمرين.44

    • مساءلة مجلس الإدارة: من الضروري وجود مسؤوليات واضحة لمجلس الإدارة لضمان التوجيه الاستراتيجي ومراقبة الإدارة.44

  • قانون العمل ومرونة السوق: هذا مجال يتطلب توازناً دقيقاً.

    • غالباً ما ينجذب المستثمرون إلى أسواق عمل أكثر مرونة مع لوائح توظيف وفصل أقل صرامة، حيث يقلل ذلك من تكاليف التكيف.54

    • ومع ذلك، فإن معايير العمل المتساهلة بشكل مفرط يمكن أن تثبط عزيمة المستثمرين المسؤولين اجتماعياً وتخلق عدم استقرار اجتماعي، وهو شكل من أشكال المخاطر السياسية.55 يمكن لمستوى معين من حماية العمال ومعاييرهم أن يعزز علاقات العمل والإنتاجية.59 الهدف هو إطار يمكن التنبؤ به ويوازن بين حماية العمال واحتياجات العمل.58

  • القانون المالي: يعد الإطار القانوني المالي المتطور ممكّناً قوياً للاستثمار. فهو يضمن إمكانية تخصيص رأس المال بكفاءة، وتوافر الائتمان، وأمان المعاملات المالية.4

إن تطور قوانين الشركات والعمل في بلد ما يعمل كآلية إشارة، حيث يقوم بفرز أنواع مختلفة من المستثمرين. فالبلد الذي يعاني من ضعف حماية مساهمي الأقلية وغموض حوكمة الشركات يميل إلى جذب المستثمرين الذين يسعون إلى تحقيق عوائد سريعة واستخراجية أو أولئك الذين يعتمدون على العلاقات السياسية بدلاً من الحماية القانونية، مما قد يؤدي إلى ملف استثماري أقل استدامة وأكثر تقلباً. وعلى العكس من ذلك، فإن البلد الذي يتبنى ويطبق معايير حوكمة الشركات على مستوى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 42 يرسل إشارة بأنه وجهة آمنة لرأس المال "الصبور" طويل الأجل من المستثمرين المؤسسيين الذين لديهم واجبات ائتمانية تجاه المستفيدين منهم.63 هؤلاء المستثمرون مرغوب فيهم لأنهم يجلبون الاستقرار والتركيز على النمو المستدام. وبالمثل، فإن البلد الذي لا يوفر أي حماية للعمال قد يجذب الصناعات التحويلية منخفضة الأجور والمهارات. أما البلد الذي لديه قوانين عمل متوازنة تشجع على التدريب على المهارات وتوفر الاستقرار الاجتماعي 60، فمن المرجح أن يجذب استثمارات أجنبية مباشرة ذات قيمة أعلى في القطاعات التي يكون فيها رأس المال البشري هو المفتاح. وهكذا، فإن

الأطر القانونية لا تجذب الاستثمار بشكل إجمالي فحسب، بل تشكل بنشاط نوع وجودة الاستثمار الذي يتلقاه البلد. فصانعو السياسات لا يقررون فقط ما إذا كانوا سيجذبون الاستثمار الأجنبي المباشر، بل أي نوع من الاستثمار الأجنبي المباشر يريدون جذبه، ويعد تصميم قوانين الشركات والعمل الخاصة بهم أداة أساسية لاتخاذ هذا الاختيار.

1.4 الحوافز: الاستخدام الاستراتيجي للضرائب والسياسة المالية

يحلل هذا القسم استخدام الحوافز المالية المباشرة لجذب الاستثمار.

  • معدلات ضرائب الشركات: هناك أدلة قوية على أن معدلات ضرائب الشركات المرتفعة لها تأثير سلبي على قرارات الاستثمار.64 وتتنافس البلدان على معدلات الضرائب لجذب رؤوس الأموال المتنقلة والاستثمار الأجنبي المباشر.64

  • الإعفاءات الضريبية: تقدم العديد من البلدان النامية إعفاءات مؤقتة من ضرائب الشركات أو المبيعات أو الممتلكات (الإعفاءات الضريبية) لجذب استثمارات جديدة، لا سيما في قطاعات محددة أو مناطق متخلفة.70 يمكن أن تتخذ هذه أشكالاً عديدة، بما في ذلك الإعفاءات على الأرباح أو أرباح الأسهم أو مكاسب رأس المال.76

  • مخاطر المنافسة الضارة: تحذر الهيئات الدولية مثل الأونكتاد ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من "سباق نحو القاع"، حيث يؤدي التنافس الضريبي المفرط إلى تآكل القاعدة الضريبية للبلدان المضيفة دون توليد استثمارات جديدة حقيقية (استثمارات لم تكن لتحدث على أي حال).7

  • اتساق السياسات: يجب دمج الحوافز الضريبية في استراتيجية تنمية شاملة وألا تعرض أهدافاً أخرى للخطر مثل المعايير البيئية أو الاجتماعية.7 غالباً ما تكون فعاليتها موضع تساؤل، حيث تشير بعض الدراسات إلى أن الإعانات المباشرة أو الاستثمارات في البنية التحتية أكثر فعالية.83

إن فعالية وحكمة الحوافز الضريبية تعتمد بشكل كبير على السياق، وغالباً ما تعمل كإشارة سياسية أكثر من كونها محركاً اقتصادياً أساسياً. قرار الاستثمار هو قرار متعدد العوامل، يشمل حجم السوق، والاستقرار السياسي، وسيادة القانون، والبنية التحتية.69 الحوافز الضريبية هي مجرد واحد من هذه العوامل، وهي ثانوية بالنسبة للاستقرار القانوني التأسيسي. ومع ذلك، في عالم تتنافس فيه العديد من البلدان النامية على الاستثمار الأجنبي المباشر 80، فإن عدم تقديم أي حوافز عندما يفعل المنافسون الإقليميون ذلك يمكن أن يُنظر إليه على أنه إشارة سلبية، بغض النظر عن التأثير الاقتصادي الفعلي للحافز نفسه. وهذا يخلق "معضلة السجين" لصانعي السياسات: قد يعتقدون أن الحوافز غير فعالة ولكنهم يشعرون بأنهم مضطرون لتقديمها للحفاظ على قدرتهم التنافسية. يؤدي هذا إلى استنتاج مفاده أن

الحوافز الضريبية غالباً ما تكون أداة سياسية دفاعية، تستخدم لمواكبة المنافسين، بدلاً من كونها أداة استباقية لتوليد مزايا استثمارية فريدة. قد تكمن قيمتها الحقيقية في الإشارة إلى موقف الحكومة "الداعم للأعمال". وبالتالي، فإن النهج السياسي الحكيم لا يتمثل في الانخراط في "سباق نحو القاع" بإعفاءات أكثر سخاءً، بل في تقديم قانون ضريبي قياسي بسيط وشفاف وتنافسي 70 واستخدام الحوافز بطريقة مستهدفة واستراتيجية للغاية لتحقيق أهداف تنموية محددة (مثل الطاقة الخضراء 85)، مع تركيز الجهود الأساسية على تحسين البيئة القانونية والتنظيمية التأسيسية.

1.5 شبكة الأمان: إنفاذ العقود وتسوية النزاعات

يتناول هذا القسم ما يحدث عندما تسوء الأمور، وهو اعتبار حاسم لأي مستثمر.

  • المحاكم المحلية الفعالة: الآلية الأساسية لإنفاذ العقود هي النظام القضائي المحلي. وتعد كفاءة المحاكم المحلية وقابليتها للتنبؤ ونزاهتها أمراً بالغ الأهمية.9

  • الحل البديل للنزاعات (ADR): توفر آليات مثل الوساطة والتحكيم بدائل أسرع وأكثر مرونة وسرية للتقاضي، مما يقلل من التكاليف والمخاطر على الشركات.87

  • التحكيم التجاري الدولي (ICA): بالنسبة للاستثمارات عبر الحدود، يعد التحكيم التجاري الدولي الطريقة المفضلة لحل النزاعات. فهو يسمح للأطراف باختيار محفل محايد ومحكمين متخصصين، وتكون قرارات التحكيم قابلة للإنفاذ دولياً بموجب اتفاقية نيويورك.90 وقد تبين أن الوصول إلى تحكيم تجاري دولي فعال يزيد من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، خاصة إلى البلدان ذات المؤسسات المحلية الأضعف.93

  • اتفاقيات الاستثمار الدولية (IIAs):

    • معاهدات الاستثمار الثنائية (BITs): توفر هذه المعاهدات إطاراً لحماية المستثمرين الأجانب، مثل المعاملة العادلة والمنصفة والحماية من المصادرة. وتهدف إلى الإشارة إلى مناخ استثماري آمن وقد ثبت أنها تزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر، لا سيما في البلدان النامية.95 ويتتبع الأونكتاد انتشار هذه المعاهدات.100

    • اتفاقيات التجارة الحرة (FTAs): غالباً ما تتضمن اتفاقيات التجارة الحرة الحديثة فصولاً استثمارية شاملة توفر حماية مماثلة ويمكن أن تعزز الاستثمار الأجنبي المباشر بشكل كبير من خلال توسيع حجم السوق ومواءمة اللوائح.103

    • اتفاقيات منظمة التجارة العالمية: تخلق اتفاقيات مثل GATS (الخدمات) وTRIPS (الملكية الفكرية) وTRIMS (تدابير الاستثمار) إطاراً متعدد الأطراف يؤثر على تدفقات الاستثمار، على الرغم من أن تغطيتها غير مكتملة.109 وتهدف اتفاقية تسهيل الاستثمار من أجل التنمية (IFD) الجديدة إلى زيادة تبسيط الإجراءات على الصعيد العالمي.112

  • تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول (ISDS): وهي سمة مثيرة للجدل في العديد من اتفاقيات الاستثمار الدولية، تسمح للمستثمرين بمقاضاة الدول المضيفة مباشرة في المحاكم الدولية. وفي حين أنها تهدف إلى حماية المستثمرين، فقد تم انتقادها لخلق "تأثير مثبط للتنظيم" واحتمال إعاقة قدرة الدول على التنظيم للمصلحة العامة، خاصة في القضايا البيئية والمناخية.115

إن نهج الدولة في تسوية النزاعات هو إشارة قوية لالتزامها بالنظام الاقتصادي الدولي وسيادة القانون. الشاغل الأساسي للمستثمر هو التخفيف من المخاطر، والمخاطرة النهائية هي أن يقوم شريك تجاري أو الدولة المضيفة نفسها بخرق عقد أو مصادرة أصل. يمكن للدولة أن تقدم طبقات متعددة من "التأمين" ضد هذه المخاطر: محاكم محلية فعالة، والانضمام إلى اتفاقية نيويورك للتحكيم، وتوقيع معاهدات استثمار ثنائية أو اتفاقيات تجارة حرة تتضمن بنود تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول. تمثل كل طبقة مستوى أعمق من الالتزام. فالنظام القضائي المحلي القوي هو بداية جيدة. والتصديق على اتفاقية نيويورك 92 هو إشارة أقوى، لأنه يلزم الدولة بإنفاذ قرارات التحكيم الأجنبية. أما توقيع معاهدة استثمار ثنائية مع بنود تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول فهو الإشارة الأقوى، لأنه يتنازل عن الحصانة السيادية ويسمح بمقاضاة الدولة نفسها أمام محكمة دولية. وهذا يقودنا إلى استنتاج بأن

اختيار آليات تسوية النزاعات هو أداة اتصال استراتيجية للحكومات. يمكن لبلد ذي مؤسسات محلية ضعيفة أن "يقفز" ويكتسب مصداقية من خلال إلزام نفسه بالتحكيم الدولي والالتزامات التعاهدية. وهذا هو السبب في أن معاهدات الاستثمار الثنائية تعتبر أكثر فعالية للبلدان ذات المؤسسات المحلية الأضعف.98 ومع ذلك، يأتي هذا على حساب التنازل عن بعض السيادة التنظيمية، كما يظهر الجدل الدائر حول تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول.117 وبالتالي، فإن الخيار السياسي هو مقايضة بين جذب الاستثمار من خلال التزامات ذات مصداقية والاحتفاظ بمساحة السياسة المحلية.

القسم الثاني: دراسة حالة – الإصلاح المغربي لمهنة المفوضين القضائيين (القانون رقم 46.21)

ينتقل هذا القسم من الإطار النظري إلى التطبيق العملي، مستخدماً إصلاحاً تشريعياً محدداً لتوضيح المبادئ الواردة في القسم الأول.

2.1 السياق: حتمية التحديث القضائي في المغرب

إن إصلاح مهنة المفوض القضائي ليس حدثاً معزولاً، بل هو جزء لا يتجزأ من الاستراتيجية الوطنية الأوسع للمغرب لتحديث منظومة العدالة.122 ويأتي هذا الإصلاح استجابة للتوجيهات الملكية وميثاق إصلاح منظومة العدالة.127 تؤكد وزارة العدل أن هذه الإصلاحات، بما في ذلك القانون 46.21، يتم تطويرها من خلال مقاربة تشاركية تشمل الهيئات المهنية وأصحاب المصلحة.127 ويهدف هذا النهج، على الرغم من أنه لا يخلو من بعض الخلافات، إلى بناء توافق في الآراء وضمان التطبيق العملي للقوانين الجديدة. وقد تم تصميم القانون 46.21 صراحةً ليحل محل القانون السابق رقم 81.03 ويتجاوز نقاط ضعفه، والذي اعتبر بعد ما يقرب من عقدين من الزمان قديماً وغير كافٍ لمواجهة التحديات الحديثة 129، مما يشير إلى جهد متعمد لتطوير البنية التحتية القانونية.

2.2 المفوض القضائي: حلقة محورية في سلسلة اليقين القانوني

يُعرَّف المفوض القضائي بأنه "مساعد للقضاء" يمارس مهنة حرة.131 ويلعب دوراً محورياً في سير عمل النظام القضائي. وتتمثل وظائفه الأساسية والأكثر أهمية بالنسبة للمستثمرين في:

  • التبليغ: تسليم الاستدعاءات والأوامر القضائية وغيرها من الوثائق القانونية، مما يضمن بدء الإجراءات القانونية بشكل صحيح وإخطار جميع الأطراف.133

  • التنفيذ: تنفيذ الأوامر القضائية، لا سيما تلك المتعلقة بأداء المبالغ المالية، والحجز على الأصول، والإفراغ. وهذا هو "الطرف الحاد" من العملية القانونية حيث يتم تحويل القرارات القضائية إلى نتائج ملموسة.133

يتموضع المفوض القضائي كفاعل أساسي في "الميل الأخير" من مسار العدالة. فبالنسبة للمستثمر، لا قيمة لحكم قضائي لصالحه إذا لم يكن بالإمكان إنفاذه بكفاءة ونزاهة. المفوض القضائي هو الوكيل الذي يقوم بهذه الخطوة النهائية والحاسمة، مما يجعل كفاءته ونزاهته محدداً مباشراً لمصداقية النظام القضائي بأكمله.

2.3 تشريح الإصلاح: الأحكام الرئيسية للقانون 46.21

يقدم هذا القسم تحليلاً منهجياً للإصلاحات الرئيسية في القانون، مستنداً إلى التفاصيل الشاملة في المصادر.

  • أ. التأهيل المهني وتعزيز الجودة:

    • تشديد شروط الولوج: يرفع القانون بشكل كبير من شروط الولوج للمهنة. يجب على المرشحين الآن حمل شهادة الإجازة في القانون أو الشريعة، بينما كان القانون القديم أقل صرامة.136 كما تم تعديل الحد الأدنى للسن.131

    • تعزيز التكوين: تم تمديد فترة التكوين من ستة أشهر إلى سنة كاملة، مقسمة بين معهد تكوين متخصص وتدريب عملي في مكتب مفوض قضائي، يليه امتحان نهاية التكوين إلزامي.130

    • التكوين المستمر الإلزامي: يفرض القانون التكوين المستمر الإلزامي، مع فرض عقوبات تأديبية في حالة عدم الامتثال، لضمان مواكبة المهنيين للتطورات القانونية.130

    • تأهيل الكتاب المحلفين: تم أيضاً رفع متطلبات الكتاب المحلفين، الذين يساعدون في تبليغ المستندات، حيث أصبحت الإجازة مطلوبة في كثير من الحالات.136

  • ب. توسيع الاختصاصات والكفاءة:

    • توسيع الاختصاص الترابي: من الإصلاحات الرئيسية توسيع الاختصاص الترابي للمفوض من مستوى المحكمة الابتدائية المحلية إلى مستوى محكمة الاستئناف الإقليمية.130 يهدف هذا إلى تبسيط الإجراءات وتقليل الحاجة إلى نقل الملفات بين جهات مختلفة.

    • توسيع الاختصاص الوظيفي: يمنح القانون المفوضين صلاحيات جديدة، مثل التحصيل الودي للديون، وإدارة المزادات العلنية، والقيام ببعض التبليغات دون أمر قضائي مسبق، وكلها مصممة لزيادة الكفاءة وتخفيف العبء عن المحاكم.130

  • ج. التعزيز التنظيمي والتحديث:

    • الممارسة الجماعية: يوفر القانون إطاراً واضحاً للمفوضين للممارسة بشكل جماعي في مكتب مشترك (حتى أربعة أفراد)، مما يسمح بزيادة الكفاءة وتقاسم الموارد.131

    • تقوية الهيئة الوطنية: يرفع القانون من مكانة الهيئة الوطنية للمفوضين القضائيين من خلال نقل مبادئها المنظمة من مرسوم تطبيقي ثانوي إلى صلب القانون الأساسي نفسه، مما يمنحها سلطة أكبر ودوراً أقوى في تنظيم المهنة.127

    • الرقمنة: تعد الإصلاحات جزءاً من توجه أوسع نحو تحديث المهنة من خلال استخدام التكنولوجيا والرقمنة.133

  • د. تعزيز المساءلة والشفافية:

    • النزاهة المالية: يفرض القانون قواعد أكثر صرامة على التعامل مع الأموال المحصلة نيابة عن العملاء، حيث يتطلب إيداعها في صندوق المحكمة خلال 48 ساعة (بعد أن كانت 24 ساعة) لتعزيز الأمان والشفافية.130

    • نظام تأديبي واضح: يفصل القانون تسلسلاً هرمياً أوضح للعقوبات التأديبية (إنذار، توبيخ، إيقاف، عزل) والهيئات المسؤولة عن الإنفاذ، مما يوفر إطاراً أكثر قوة للمساءلة.131

    • التمثيلية النسائية: أُضيفت مادة محددة لضمان التمثيل النسبي للمرأة في قيادة الهيئات المهنية، مما يعكس الالتزام بمبادئ الحوكمة الحديثة.138

جدول 1: تحليل مقارن بين القانون 81.03 والقانون 46.21

مجال التنظيم

الحكم بموجب القانون 81.03 (الإطار القديم)

الحكم بموجب القانون 46.21 (الإطار الجديد)

الأثر على مناخ الاستثمار

شروط الولوج

شهادة الإجازة أو ما يعادلها، مع إعفاءات واسعة.132

شهادة الإجازة في القانون أو الشريعة، مع تشديد شروط النزاهة.136

زيادة الاحترافية والمصداقية، وتقليل مخاطر التعامل مع مهنيين غير مؤهلين.

التكوين

فترة تدريب لمدة 6 أشهر.130

فترة تكوين لمدة سنة كاملة (معهد + مكتب) وامتحان نهاية التكوين إلزامي.136

رفع مستوى الكفاءة العملية، مما يضمن جودة أعلى في تنفيذ الإجراءات.

الاختصاص الترابي

يقتصر على دائرة المحكمة الابتدائية.129

يمتد إلى دائرة محكمة الاستئناف.130

تسريع الإجراءات وتقليل التكاليف للمستثمرين الذين لديهم نزاعات تمتد عبر دوائر قضائية متعددة.

الاختصاص الوظيفي

يقتصر بشكل أساسي على التبليغ والتنفيذ بأمر قضائي.134

توسيع الصلاحيات لتشمل التحصيل الودي للديون وإدارة المزادات العلنية.130

تخفيف العبء عن المحاكم وتوفير خيارات أسرع وأكثر كفاءة لحل النزاعات المالية.

إدارة الأموال

إيداع المبالغ المحصلة في صندوق الإيداع والتدبير خلال 24 ساعة.130

إيداع المبالغ في صندوق المحكمة خلال 48 ساعة.138

زيادة الشفافية والأمان المالي للدائنين (المستثمرين) وتقليل مخاطر الاحتيال.

المساءلة والتأديب

نظام تأديبي أقل تفصيلاً.132

نظام تأديبي مفصل مع تسلسل واضح للعقوبات والهيئات المسؤولة.131

تعزيز ثقة المستثمرين في وجود آلية فعالة لمعالجة المخالفات المهنية.

الهيئة المهنية

منظمة بموجب مرسوم تطبيقي.139

تم نقل تنظيمها إلى صلب القانون الأساسي، مع تعزيز صلاحياتها.127

تقوية التنظيم الذاتي للمهنة وزيادة قدرتها على فرض معايير الجودة والأخلاق.

2.4 التحليل: ربط الإصلاح الجزئي بالتأثير الكلي

هذا القسم هو القلب التحليلي للتقرير، حيث يربط بشكل صريح بين الأحكام المحددة للقانون 46.21 ومبادئ الاستثمار رفيعة المستوى من القسم الأول.

  • تعزيز سيادة القانون والقدرة على التنبؤ (الركيزة 1.1): إن رفع شروط الولوج وتمديد فترة التكوين 136 يزيدان بشكل مباشر من كفاءة المفوضين، مما يقلل من احتمالية الأخطاء الإجرائية. بالنسبة للمستثمر، يترجم هذا إلى

    قدرة أعلى على التنبؤ ويقين أكبر بأن الإجراءات القانونية ستتبع بشكل صحيح. كما أن وجود نظام تأديبي واضح ومطبق 131 يضمن إبعاد العناصر غير الكفؤة، مما يعزز

    سيادة القانون ويؤكد للمستثمرين أن النظام لديه آليات تصحيحية ذاتية.

  • تحسين إنفاذ العقود وتسوية المنازعات (الركيزة 1.5): يعالج توسيع الاختصاص الترابي 130 بشكل مباشر التأخير وعدم الكفاءة في التنفيذ. فالمستثمر الذي يسعى لإنفاذ حكم ضد مدين لديه أصول في مواقع متعددة ضمن اختصاص محكمة استئناف واحدة لم يعد بحاجة إلى التعامل مع عدة مفوضين، مما يوفر الوقت والمال ويجعل

    إنفاذ العقود أسرع وأكثر فعالية. كما توفر الصلاحية الجديدة للتحصيل الودي للديون 130 بديلاً أقل تصادمية وأكثر كفاءة

    لتسوية المنازعات قبل التصعيد إلى التنفيذ الجبري.

  • تعزيز الشفافية وتقليل المخاطر (الركيزتان 1.1 و 1.2): إن القواعد الصارمة بشأن إيداع الأموال المحصلة في حساب تديره الدولة في غضون 48 ساعة 138 تخفف بشكل مباشر من المخاطر المالية للمستثمر. فهي توفر عملية شفافة وآمنة، مما يقلل من مخاطر الاحتيال أو الاختلاس من قبل وكيل التنفيذ، وهذا يمثل تخفيضاً ملموساً في

    مخاطر الاستثمار.

  • تسهيل عمليات الأعمال (الركيزة 1.2): من خلال تأهيل وكلاء التنفيذ الرئيسيين، يجعل الإصلاح عملية التقاضي وتحصيل الديون بأكملها أكثر كفاءة. وهذا يقلل من الوقت والموارد التي يجب على الشركات إنفاقها على النزاعات القانونية، وبالتالي يخفض التكلفة الإجمالية لممارسة الأعمال ويحسن مناخ الاستثمار.

إن إصلاح مهنة المفوض القضائي يوضح أن الدولة يمكنها تعزيز جاذبيتها الاستثمارية ليس فقط من خلال تحرير القوانين (مثل خفض الضرائب)، ولكن من خلال تعزيز قدرتها على الإكراه والإنفاذ. فالنظرة الشائعة هي أن جذب الاستثمار يتطلب من الدولة "أن تبتعد عن الطريق" عن طريق إلغاء التنظيم وخفض الضرائب. لكن الإصلاح المغربي يظهر نهجاً مختلفاً وأكثر تطوراً؛ فالدولة لا تضعف دورها، بل تقوي وكيلاً رئيسياً من وكلاء سلطتها القضائية. من خلال جعل المفوضين القضائيين أكثر مهنية ومساءلة وكفاءة، تجعل الدولة أحكامها القانونية (الأحكام القضائية) أكثر مصداقية وقوة. هذه القدرة المعززة للدولة جذابة للغاية للمستثمرين. فالمستثمرون لا يخشون دولة قوية يمكن التنبؤ بها، بل يخشون دولة ضعيفة أو تعسفية أو فاسدة. الدولة التي يمكنها إنفاذ أوامر محاكمها بشكل موثوق هي دولة يمكنها حماية حقوق الملكية وإنفاذ العقود بشكل موثوق. وهذا يقود إلى استنتاج مفاده أن تحسين جودة وموثوقية جهاز الإنفاذ في الدولة هو في حد ذاته أداة قوية لتشجيع الاستثمار. إنه يشير إلى نظام قانوني ناضج لا يتم فيه إعلان الحقوق فحسب، بل تضمنه آلة دولة مختصة. هذه طريقة أكثر استدامة وأكثر جوهرية لجذب الاستثمار من الإعفاءات الضريبية المؤقتة.

2.5 سياسات الإصلاح: وجهات نظر أصحاب المصلحة والسعي نحو الاستقلالية

لم يمر الإصلاح دون احتكاك. فقد أعربت الهيئة الوطنية للمفوضين القضائيين عن تحفظات قوية، بحجة أن بعض الأحكام تقوض استقلالية المهنة.148 وشعروا بالإقصاء من المراحل النهائية للعملية التشريعية.124 يسلط هذا الضوء على التوتر الكلاسيكي في تنظيم المهن التي تخدم وظيفة عامة؛ فالدولة (وزارة العدل) تسعى لضمان المساءلة وجودة الخدمة العامة والتوافق مع السياسة الوطنية.128 بينما تسعى الهيئة المهنية لحماية استقلاليتها وكرامتها المهنية من التدخل التنفيذي المحتمل، الذي تراه ضرورياً للعمل المحايد.137

تضمنت العملية التشريعية نقاشاً مستفيضاً وتعديلات في البرلمان 127، حيث تم تلبية بعض مطالب المهنيين بينما لم يتم تلبية البعض الآخر. على سبيل المثال، أدى الحوار إلى وعد بمراجعة بعض المواد وإلغاء شرط إبلاغ الوزارة بجميع قرارات الاجتماعات.157 وهذا يوضح أن الإصلاح القانوني هو نتاج تفاوضي، وليس فرضاً من الأعلى.

القسم الثالث: توليف وتوصيات استراتيجية لصانعي السياسات

3.1 من "الميل الأخير" إلى الصورة الكبرى: نموذج متكامل للإصلاح

سيقوم هذا القسم بتوليف النتائج من القسمين الأول والثاني، مجادلاً بأن الإصلاحات القانونية لتشجيع الاستثمار لا يمكن النظر إليها كقائمة تحقق بسيطة، بل كنظام بيئي مترابط. إن دراسة الحالة المغربية تستخدم لإنهاء الحجة القائلة بأن فعالية الإطار القانوني بأكمله - من المبادئ الدستورية إلى المعاهدات الدولية - يتم الحكم عليها في النهاية من خلال أداء فاعلي "الميل الأخير". إن كفاءة ونزاهة ومهنية شخصيات مثل المفوضين القضائيين وكتبة المحاكم ومسجلي الأراضي هي الاختبار الحقيقي لمناخ الاستثمار في أي بلد.

يقترح التقرير نموذجاً تُعتبر فيه الإصلاحات معززة لبعضها البعض. فتحسين تسجيل الأعمال (الركيزة 1.2) أمر جيد، لكن فوائده تتضاعف عندما يكون إنفاذ العقود (الركيزة 1.5) موثوقاً به. ويعتمد إنفاذ العقود الموثوق به، بدوره، على كفاءة الفاعلين مثل المفوضين القضائيين (دراسة الحالة). تمنع هذه النظرة الشاملة صانعي السياسات من التركيز على الإصلاحات السطحية مع إهمال العناصر التأسيسية.

3.2 مخطط عمل: توصيات متدرجة للإصلاح القانوني

سيقوم هذا القسم الأخير بترجمة تحليل التقرير إلى إطار منظم ومتدرج من التوصيات لصانعي السياسات في الاقتصادات الناشئة الذين يسعون إلى جذب الاستثمار.

جدول 2: إطار متدرج للإصلاحات القانونية لتشجيع الاستثمار

المستوى

مجال الأولوية

الإجراءات الموصى بها المحددة

المنطق / الأثر المرجو

المستوى 1: الإصلاحات التأسيسية

استقلال القضاء

• تكريس استقلال القضاء في الدستور والقانون.

• إنشاء مجالس قضائية مستقلة للتعيينات والتأديب.

• ضمان التمويل الكافي للسلطة القضائية.9

بناء ثقة المستثمر في نزاهة النظام القانوني وقابليته للتنبؤ.

(تأسيس الأمن والثقة)

أمن حقوق الملكية

• سن وإنفاذ قوانين واضحة تحمي الملكية المادية والفكرية.

• تحديث سجلات الأراضي وتبسيط إجراءات نقل الملكية.13

تشجيع الاستثمار طويل الأجل وتكوين رأس المال من خلال تقليل مخاطر المصادرة.


الشفافية القانونية

• جعل جميع القوانين واللوائح والإجراءات الإدارية متاحة للجمهور وواضحة.

• إقرار فترات إشعار وتعليق للوائح الجديدة لضمان مساهمة أصحاب المصلحة.2

تقليل عدم اليقين والتكاليف الإجرائية للمستثمرين، والحد من الفساد.

المستوى 2: الإصلاحات التشغيلية

تبسيط دخول الأعمال

• تنفيذ منصات إلكترونية و"نافذة واحدة" لتسجيل الشركات والضرائب والتراخيص.

• تقليل أو إلغاء متطلبات رأس المال الأدنى.30

خفض التكاليف الإدارية والحواجز أمام دخول رواد الأعمال والمستثمرين.

(خلق الكفاءة وخفض التكاليف)

الاستثمار في "الميل الأخير" للعدالة

• تأهيل جميع وكلاء النظام القضائي (كتبة، مفوضون، إلخ).

• تنفيذ إصلاحات مثل القانون المغربي 46.21: رفع المعايير التعليمية، تحسين التدريب، تعزيز المساءلة.

ضمان أن تكون الأحكام القضائية قابلة للإنفاذ بفعالية، مما يجعل الحقوق القانونية ذات قيمة حقيقية.


تحديث تسوية المنازعات

• تعزيز كفاءة المحاكم التجارية.

• الانضمام إلى اتفاقية نيويورك وإنشاء إطار قانوني محلي يدعم التحكيم الدولي.92

توفير آليات سريعة وموثوقة لحل النزاعات، وهو أمر حاسم لثقة المستثمرين عبر الحدود.

المستوى 3: الإصلاحات المتقدمة

حوكمة الشركات

• تطبيق قوانين تستند إلى مبادئ مجموعة العشرين ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، مع التركيز على حماية حقوق مساهمي الأقلية.42

جذب رأس المال المؤسسي طويل الأجل من خلال الإشارة إلى بيئة استثمارية آمنة وعادلة.

(تعزيز القدرة التنافسية والاستدامة)

الاستخدام الاستراتيجي للحوافز الضريبية

• الحفاظ على معدل ضريبي قياسي تنافسي ومستقر.

• استخدام الإعفاءات الضريبية بشكل مستهدف ومحدد زمنياً لتحقيق أهداف استراتيجية (مثل التكنولوجيا الخضراء) بدلاً من كونها تنازلات شاملة.7

تجنب "سباق نحو القاع" الضريبي مع توجيه الاستثمار نحو القطاعات ذات الأولوية الوطنية.


التعامل الاستراتيجي مع قانون الاستثمار الدولي

• التفاوض على اتفاقيات استثمار دولية حديثة توازن بين حماية المستثمر وحق الدولة في التنظيم للمصلحة العامة (البيئة، العمل).115

مواءمة سياسة الاستثمار مع أهداف التنمية المستدامة مع الحفاظ على جاذبية الدولة للمستثمرين.

خاتمة

يؤكد هذا التقرير مجدداً أن البيئة القانونية الداعمة للاستثمار هي نظام بيئي متكامل، يتطلب كلاً من التصميم المعماري السليم (ركائز القانون) والاهتمام الدقيق بالآلية التشغيلية للعدالة (فاعلو "الميل الأخير"). إن قوة الإنفاذ الموثوق به، كما يتضح من دراسة الحالة المغربية، ليست مجرد تفصيل إجرائي، بل هي في صميم مصداقية الدولة. إن تعزيز قدرة الدولة على الإنفاذ العادل والفعال هو أحد أقوى حوافز الاستثمار المستدامة التي يمكن لأي بلد أن يقدمها. في نهاية المطاف، إن النظام القانوني الذي يمكن التنبؤ به، والذي يتسم بالكفاءة والعدالة، ليس مجرد تكلفة لممارسة الأعمال التجارية، بل هو في الواقع الأصل الأكثر قيمة على المدى الطويل الذي يمكن لبلد ما تطويره لتأمين مستقبله الاقتصادي.

تعليقات